مجلة الرسالة/العدد 510/معركة الآزور

مجلة الرسالة/العدد 510/معركة الآزور

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1943



للشاعر الإنجليزي ألفريد تنيسون

بقلم الأستاذ محمود عزت عرفة

تقديم

في عام 1558م توفيت (ماري تيودور) ملكة إنجلترا الكاثوليكية التي كانت زوجاً لفيليب الثاني ملك أسبانيا. وتولت بعدها عرش إنجلترا أختها من قبل أبيها الملكة اليصابات (وهي ابنة هنري الثامن من زوجته آن بولين). وكانت اليصابات تعتنق المذهب البروتستانتي في اعتدال؛ وقد حاولت خلال حكمها إرضاء الكاثوليك والبروتستانت على السواء، فأثارت بذلك حفيظة أسبانيا وفرنسا وغيرهما من الأقطار الكاثوليكية

وزاد في توتر العلاقة بين إنجلترا وأسبانيا عوامل أخرى متعددة: منها رفض الملكة اليصابات التزوج من فيليب الثاني ملك أسبانيا، وقد عرض عليها ذلك عقب وفاة الملكة ماري. . . ومنها ما كان من انحياز إنجلترا إلى ثوار الأراضي المنخفضة ضد أسبانيا، وإيوائها الأغنياء منهم ممن خلصوا إليها عبر القنال بأموالهم وثرواتهم وكل ما تيسر لهم حمله

يضاف إلى ذلك قصة: ماري استيورت ملكة اسكتلندا الكاثوليكية، تلك التي لاذت بإنجلترا عام 1568م عقب ثورة الشعب الاسكتلندي ضدها، فقضت هناك عشرين عاماً شبه أسيرة؛ ثم ظهر من دسائسها ضد الملكة اليصابات، وكانت ماري استيورت وريثتها الشرعية على عرش إنجلترا ما استوجب التخلص منها بالإعدام عام 1587م؛ فقد أثار هذا التصرف ثائرة فيليب الثاني وحفزه للعمل. وكانت قوة إنجلترا البحرية خلال هذه الحوادث المتلاحقة تنمو في اطراد، وقد نشط البحارة الإنجليز في جوب البحار بحثاً عن كنوز الذهب والفضة التي سبقهم إلى اكتشافها الأسبان؛ أو اقتناصاً للسفن الأسبانية العائدة بهذه النفائس من مستعمراتهم في العالم الجديد.

وفي عام 1588م سحق الإنجليز قوة أسبانيا البحرية بتحطيم الأرمادا التي حشدها فيليب الثاني لغزو بلادهم، فرجحت كفتهم في البحار رجحاناً زاد على مدى الأيام ظهوراً وبعد معركة الأرمادا بثلاثة أعوام حدثت موقعة الآزور (أغسطس 1591م) التي سجلت للإنجليز صفحة خالدة من البطولة في عالم البحار.

فقد صارعت فيها سفينة واحدة صغيرة، ثلاثاً وخمسين سفينة إسبانية كاملة العُدة والعدد، في ملحمة استمرت خمس عشرة ساعة لا يعتورها فتور.

وقد أوحى هذا الحادث إلى كتّاب الإنجليز وشعرائهم قديماً وحديثاً، بما لا تستوعبه المجلدات الضخمة من فائق المنثور ورائع المنظوم.

ومن أشهر من كتب في ذلك: السير والتر رالي (1552 - 1618م)؛ وجيمس أنتوني فرويد (1818 - 1894)؛ وروبرت لويس ستيفنسون (1850 - 1894)، ثم شاعر التاج لورد آلفرد تنيسون (1809 - 1892) ونحن نترجم هنا قصيدة هذا الأخير التي نظمها بعنوان (: الانتقام) - وهو اسم السفينة التي أبلت هذا البلاء - مجتزئين بتفاصيل القصيدة الرائعة عن الإفاضة في هذه المقدمة أكثر مما أفضنا؛ معتمدين - في إيضاح بعض الحقائق فقط - على ما أورده الكتّاب الثلاثة الذين أشرنا إليهم، ولا سيما أولهم: والتر رالي، فهو من معاصري السير ريتشارد جرانفيل بطل المعركة، بل هو أحد مواطنيه من إقليم ديفون، وذوي قرابته الأدنين. . .

ترجمة القصيدة

كان السير رتشارد جرانفل مرفئاً بسفينته إلى جُدَّة من جدد شاطئ الفلورز إحدى جزر الخالدات، عندما أقبل زورق ذو مجاديف يهوى من بعيد كأنه الطائر يُزف بجناحيه. وارتفع صوت من داخله يقول: السفن الحربية الأسبانية تمخر العباب. . . لقد رأينا منها ثلاثاً وخمسين!

فهتف لورد توماس هُوارد قائلاً:

ليشهد الله أني لست بالجبان، ولكني لا أستطيع أن ألقاهم على هذه الحال، فأسطولي على غير أهبة، ونصف رجالي قد نهكتهم العلل. حقيقٌ بي أن أعرِّد عن لقائهم ولكن لأقتفي آثارهم في أقرب حين. . . إن لدينا ستا من السفن المقاتلة، فهل نستطيع أن نناجز بها ثلاثاً وخمسين؟

عندئذ تكلم سير رتشارد جرانفيل قائلاً: أعرف أنك لست بالضَّرَع ولا الجبان، وأنك لا تنحاز عنهم لحظة إلا لتعود إليهم من قريب، فتزلزل أقدامهم وتطيش سهامهم. أما أنا فلدي تسعون مريضاً ونيفاً قد استلقوا على الشاطئ القريب يعالجون غصة الداء؛ وسأعد نفسي الجبان، يا سيدي لورد هوارد، إذا أنا تخليت عنهم لهذه الطغمة من أوغاد محاكم التفتيش، وشياطين أسبانيا المتمردين. . .

. . . وهكذا انسحب لورد هوارد بخمس من السفن الحربية في ذلك اليوم، وانطلق موغلاً في اليم حتى ذاب كما تذوب السحابة في صفحة الأفق الغارق في الصمت، المتشح بالدفء والسكون. أما سير رتشارد فقد حمل من الشاطئ رجال سفينته الإعلاء، من مواطنيه أبناء بدفورد في إقليم ديفون. وأضجعهم برفق تام وعناية بالغة فوق الهواجل من قاع السفين، فراحوا يدعون له ويباركونه في ساعات آلامهم الممضة على أن انتاشهم من هذه المحنة، فلم يتركهم فريسة للأسبان يمثلون بهم أشنع التمثيل، ويسومونهم بمعدات نكالهم سوء العذاب.

كان لديه مائة من البحارة لا أكثر، عليهم أن يضطلعوا بإدارة السفينة وتدبير القتال معاً؛ فأقلع مبتعداً عن الفلورز حتى أصبح على مرمى البصر من الأسبان الذين اعترضوا مهب الريح إلى سفينتنا بقصورهم العوائم الفخمة وجواريهم المنشئات كالأعلام. وارتفع صوت منا يقول:

ألا أخبرنا يا سير رتشارد، أنكرّ أم نفِرّ؟. . . إن اشتباكنا في هذا القتال لا يعني غير الهلاك؛ وما نحسب أن سيكون منا في عداد الأحياء إلا القليل عندما تجنح شمس هذا النهار إلى مغربها.

وتحدث سير رتشارد مرة أخرى فقال: نحن جميعاً من أبناء إنجلترا الأنجاد وفتيانها المصاليت؛ فدعونا نسدد الطعن وخضاً إلى هذه الكلاب (الإشبيلية) الخواسيء، أبناء الأبالسة ونسل الشياطين. . .

لا جرم أني حتى اليوم لم أُولِّ الأدبار أمام أحد اثنين: دُونٍ أو شيطان!

نطق السير رتشارد بهذا ثم افتر فمه عن ابتسامة ساخرة. وانفجرنا جميعاً نهتف في صوت مدوٍّ: مرحى، مرحى!. . . وهكذا صمدت (الانتقام) صمد عدوها دون محاشاة، وعلى ظهرها مائة مقاتل، وفي جوفها تسعون مريضاً قد أداءتهم العلل وبرَّحت بهم الأسقام.

وانشعب الأسطول الأسباني حول (الانتقام) شطرين راحا يكتنفانها عن يمين وشمال، بينا اندفعت هي في الشقة الضيقة من الماء بينهما لا تلوى على شيء. وشهدنا ألوفاً من جنودهم قد أوفوا علينا من ظهور سفائنهم وهم يضحكون، وألوفاً آخرين من بحارتهم يسخرون من المركب الصغير الذي ركب فيما زعموا متن الغرر، وأقحم نفسه بلقائهم المتالف. وراحت (الانتقام) تندفع وتندفع، وتوغل في تقدمها وتوغل، حتى بجدت في موضعها ما تريم؛ وقد سدت عليها السبيل خليَّتهم الضخمة (سان فيليب) تلك الناهضة كالطود الشامخ، والحاملة جُماءَ ألف من الأطنان وخمسمائة. فقد أوفت علينا بهيكلها الرائع من علٍ مصوِّبة نحونا صفوفاً من المدافع فاغرات الأفواه، وصرفت وجه الريح عن أشرعتنا فوقفنا مُبلسين.

(البقية في العدد القادم)

محمود عزت عرفة