مجلة الرسالة/العدد 511/بين القديم والجديد

مجلة الرسالة/العدد 511/بين القديم والجديد

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1943



بناة القاهرة المسلمون

تأليف السيدة ر. ل. ديفونشير

للدكتور محمد مصطفى

جلست إلى جانبها في عربة يجرها جوادان كريمان، أحدهما أشهب والآخر تغلب في لونه الحمرة، ويقودها سائق فحل عريض المنكبين قوي البنية. وكنا نتحدث في التاريخ الإسلامي، وفي الفن الإسلامي، وفي مجموعة المساجد والمباني الأثرية الإسلامية التي تضمها القاهرة بين أسوارها، والتي لا يوجد لها نظير في بلد آخر. واسترسل بنا الحديث فجعلنا ننتقل بين عصور الفن والتاريخ المختلفة. وكان السائق الفحل يملأ مكانه في خيلاء وغرور، ويسوق جواديه مترفقاً بهما، وهما ينصاعان له هادئين، كأنهما قد استسلما لحبيب يبادلانه الحب، ويعملان جهدهما على إرضائه. ومن وقت إلى آخر كانت السيدة الجالسة إلى جانبي ترسل إلى الجوادين الكريمين نظرة تدليل وإعجاب. ومرت بنا العربة في طريق من طرق القاهرة القديمة التي لم تنلها يد المدنية الزائفة بالتخريب والتشويه، ولم تصل إليها وسائل النقل الحديثة بأصواتها المزعجة. طريق من تلك الطرق الضيقة الكثيرة المنحنيات والتعاريج، والتي تعلوها (مشربيات) البيوت الأثرية من الجانبين، فتترك في أعلاها شقاً ضيقاً يظهر منه القليل من زرقة السماء ممزوجاً بالقليل من أشعة الشمس، وتتخلله مآذن المساجد الشاهقة، شامخة برؤوسها تحدث عن عظمة بُناتها

وصمتت السيدة فصمت احتراماً لها، وجعلت أتطلع إلى منظر هذا الطريق فاستهواني، وتملّكني سحره وانتقل بي إلى زمن مضى، فخيل إلى أنني عدت شاباً فتياً مزهواً بعنفوان شبابه؛ وأنني أجلس إلى جانب فتاة هيفاء ترنو إليّ بعينيها النجلاوين لتزيد من أثر فتنتها في نفسي. وإذ كنت غارقاً في هذه التأملات، سقط شعاع دقيق من أشعة الشمس على رأس الجواد الأشهب، وانتقل منها إلى ظهره، ثم إلى رأس السائق الفحل، ثم أصاب عيني فآلمني وأيقظني وعاد بي إلى الحقيقة السافرة. ونظرت إلى السيدة الجالسة إلى جانبي فوجدته كأنها عادت هي الأخرى من ذكريات عزيزة حلوة، وقالت كمن يحدث نفسه: يا لها من طريق جميلة!. . . وقلت مؤكداً: حقاً! إنها طريق جميلة ساحرة. . . وكيف لا تكون جميلة ساحرة وقد ملكت عليّ مشاعري، فعشقتها من أول نظرة، وعشقت معها هذه البيوت القديمة التي تطل عليها، وهذه المساجد والمآذن التي تقوم على جانبيها، وعشقت هذا القليل من زرقة السماء الممزوج بالقليل من أشعة الشمس، بعد أن كنت أنظر إلى السماء والشمس فيبهرني جمالها ويعمى عيني فلا أتبين منه شيئاً! وشكرت السيدة الجالسة إلى جانبي لأنها حببت إلى كل هذا، وقادتني لرؤية هذا السحر والجمال.

هذه هي السيدة (ر. ل. ديفونشير) وهي سيدة وقور، يعرفها أغلب سكان تلك الأحياء القديمة الجميلة، ويقابلونها بالإجلال والاحترام. وهي من جانبها تسر لرؤيتهم، وتتحدث معهم باللغة العربية كأنها واحدة منهم. وقد اعتادوا - منذ عشرات السنين - أن يروها تمر في أحيائهم كل أسبوع، وفي صحبتها جماعة من نزلاء مصر، تقودهم ليستمتعوا بجمال هذه الأماكن الأثرية، ويدرسوا معالمها، ويتبينوا بأنفسهم مكان حضارة مصر بين حضارات الأمم الأخرى. ولا شك أننا مدينون لها بالشكر والثناء للدعاية الطيبة التي ما زالت تنشرها لبلدنا الذي عاشت فيه طويلاً وأحبته كثيراً. فقد تطوعت

- على الرغم من تقدمها في السن - أن تقود في أيام معينة فريقاً من رجال وسيدات القوات الحليفة الموجودة بين ظهرانينا، ليشاهدوا أماكن الحضارة المصرية من متاحف ومعاهد ومبان أثرية، ليلموا بالناحية الثقافية في مصر إلى جانب ما يجدونه فيها من وسائل اللهو والتسلية.

وقد ألّفت هذه السيدة الفاضلة عدة كتب عن مصر الإسلامية، يبحث بعضها في التاريخ، والبعض في فن العمارة، والبعض الآخر في نواحي تأثير الفن الإسلامي في الفنون الأوربية. أما كتابها الذي ظهر أخيراً (بناة القاهرة المسلمون) فهو يبحث في تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي إلى وقت الحملة الفرنسية (1798م). وقد فصّلت فيه أخبار حكام مصر وولاتها وملوكها وسلاطينها، وما خلفوه من آثار وبنوه من مساجد ومدارس ومارستانات ونكايا وقناطر وحمامات وقباب ومدافن وغير ذلك من المباني.

وتكلمت في الفصل الأول من هذا الكتاب عن دخول العرب مصر، وولاية عمرو بن العاص، وتشييده جامعه إلى جانب مدينة الفسطاط. وأشارت إلى من خلفه من الولاة، حتى جاء أحمد بن طولون والياً من قبل الخلفاء العباسيين، الذين كانوا قد اتخذوا إذ ذاك مدينة سامرا (سُرَ من رأى) عاصمة لبلادهم. وجلب ابن طولون معه من سامرا المعماريين والفنانين، فنسجوا فيما شيدوه بمصر من المباني والعمائر على نسق الطرز الفنية التي كانت مزدهرة في بلادهم في ذلك الوقت. لذلك نجد أن جامع أحمد بن طولون مبني على طراز جامع سامرا من حيث تخطيطه وزخارفه وشكل مأذنته، حتى أنهم استعملوا في بنائه الآجرّ (الطوب الأحمر) الشائع في العراق بدلاً من الحجر الجيري الذي كان يستعمل بكثرة في مصر لقرب محاجر جبل المقطم

وتحدثت في الفصول التالية عن انتقال الحكم في مصر إلى الخلفاء الفاطميين وتأسيسهم مدينة القاهرة. فتكلمت عن أخبار خلفائهم وما بنوه من جوامع ومساجد كالجامع الأزهر والحاكم، ثم استئثار الوزارة بالسلطة في أواخر العصر الفاطمي وما بنى في عصرهم من المباني مثل السور العظيم الذي بناه أمير الجيوش بدر الجمالي مع باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة، وجامع الجيوشي، وجامع الأقمر، ومشهد السيدة رقية وغير ذلك. ثم مجيء صلاح الدين الأيوبي إلى مصر واستقلاله بالحكم بها، وقيام الدولة الأيوبية، وبناء قلعة القاهرة لصد هجمات الصليبيين المحتملة في ذلك الوقت. إلى أن قامت دولة المماليك البحرية، وانتقلت الخلافة العباسية إلى مصر أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري، بعد أن فتح التتار بغداد. ثم ذكرت أخبار من حكم مصر من سلاطين دولتي المماليك البحرية والبرجية وأمرائهم وشدة شغفهم بالفنون الجميلة التي ازدهرت قي مصرفي عصرهم، وتشييد المباني الفخمة مثل جامع الظاهر ومارستان قلاوون وجامعه ومدفنه وجامع بيبرس الجاشنكير وسلار وسنجر الجاوي والناصر محمد بن قلاوون والسلطان حسن وبرقوق وبرسباري وجقمق وأينال وخشقدم وقايتباي والغوري. إلى أن كانت موقعة (مرج دابق) الشهيرة بين العثمانيين ومماليك مصر، وانتصر فيها السلطان سليم الأول العثماني على السلطان قانصوه الغوري، وفتح العثمانيون مصر في سنة 1517م، فصارت منذ ذلك الوقت ولاية عثمانية، إلى أن جاء المغفور له محمد علي باشا الكبير فحررها من ربقة الإدارة العثمانية وأفردت الفصل الأخير من كتابها لذكر أخبار ولاة مصر العثمانيين وما بناه بعضهم من المساجد والمباني الأخرى، رغماً من حالة الاضطراب التي كانت سائدة في هذا العصر، والسياسة التي كانت تتبعها الدولة العثمانية في كثرة تغيير الولاة، لكي لا يتوفر لأحدهم الوقت لتقوية مركزه والاستقلال بالبلاد. وبينت في هذا الفصل كيف تأثر فن العمارة في مصر، بعد فترة انتقال قصيرة، بفن العمارة العثماني، وهذا هو السبب في أننا نجد بعض المساجد من هذا العصر مبنية على نسق جامع (أيا صوفيا) باستانبول في تخطيطه وبعض زخارفه. ومن أكبر مباني هذا العصر جوامع حاير بك وسليمان باشا والملكة صفية وغيرها وكذلك بيت جمال الدين الذهبي وبيت السحيمي، وأخيراً بيت الكريدلية الذي اتخذه اللواء جاير أندرسون باشا في السنوات الأخيرة مقراً لسكناه، وكون لنفسه فيه مجموعة كبيرة من التحف أهداها عند سفره إلى إنجلترا - للحكومة المصرية، لتبقى في هذا البيت كمتحف باسمه تابعاً لدار الآثار العربية

ولكن، يا سيدتي الفاضلة! إن هذا البلد الحبيب إليك له عليك حق آخر، وواجب أنت مدينة له به. وإني أتقدم إليك اليوم على صفحات (الرسالة) لأطلب منك أن تقومي بأداء هذا الواجب، فيحفظ لك هذا البلد الأمين ذكرى خالدة تبقى إلى جانب ما ألَّفت من كتب وأبحاث. لقد قضيت في مصر وقتاً هو بمثابة انتقال بين القديم والجديد، فهلا دوَّنت ذكرياتك ومشاهداتك وتجاريبك، لتبقى لمؤرخي هذا العصر يجدون فيها رأياً حراً لشخص أجنبي جاء إلى هذا البلد وأحبَّه وعاش فيه وساهم في نهضته الوطنية والثقافية؟ لقد عشت حوالي أربعين سنة في مصر، كنت في خلالها على صلة وثيقة بكبراء البلاد وعظمائها ومن وفدوا عليها من رجالات البلاد الأخرى، وكنت موضع احترام الكبير والصغير. وهذه - كما تعلمين - حقبة من الزمن طويلة في تاريخ مصر الحديث، لا شك أنك تتبعت في أثنائها حوادث النهضة الوطنية التي كان لها أكبر الأثر في تغيير مجرى التاريخ. ثم شاهدت عصر النهضة الثقافية في عهد المغفور له الملك فؤاد الأول، وما كان له من أياد كريمة في نشر الثقافة والعلوم وإنشاء المعاهد المختلفة في أنحاء البلاد. وهاأنت ذا تحضرين عهد ابنه الملك المفدَّى (فاروق الأول) حفظه الله، وتشاهدين أعمال الإنشاء والإصلاح والتجديد أيتها السيدة الفاضلة: بالله عليك، تكلمي وحدثينا، هل كان الأجدر بنا أن نبقى على القديم. . . وهل نحن أفلحنا في الانتقال من القديم إلى الجديد؟. . . وهل نحن حقاً في بداية عصر جميل جديد؟. . . أم لا تزال هناك بعض الشوائب علقت بهذا الجديد فشوهت جماله؟

لا شك أننا قد خطونا في تقدمنا نحو الجديد بخطى واسعة وأنه قد آن لنا أن نحد من سرعة هذا التقدم، فنعمل على تقوية أخلاقنا وتقويمها ونشجع البحث العلمي الصحيح ونشر الآداب والعلوم على شرط أن نعاقب على السرقات الأدبية والعلمية، ونطهر مصالحنا العامة من (أدوات الحكم) الماضي. حقاً سيدتي! إنني أعرف رئيساً في مصلحة حكومية، يحكم فيها - بدون لائحة داخلية أم نظام للعمل - حكما دكتاتورياً، في وقت تحارب فيه الدكتاتورية، ويفخر بأن له 32 سنة خدمة في هذه المصلحة، مع أنه لم يحصل في أثناء هذه المدة الطويلة على شهادة دراسية من أي نوع كان، ولم يؤلف خلالها أي بحث علمي أو مقال صغير، بالرغم من أن هذه المصلحة يجب أن تكون في صفوف المعاهد العلمية الراقية. ولي صديق عزيز طبع في كل شيء على نقيض هذا (الرئيس)؛ فهو متعلم وله أبحاث علمية وذو خلق قويم مع عفة نفس وشهامة وترفع عن إيذاء مرءوسيه. وشاء حظ هذا الصديق أن يشتغل في هذه المصلحة؛ فما قولك يا سيدتي في أن هذا (الرئيس) يغار من صديقي ويحاول أن يحقر من شأنه ويحول دون مواصلته أبحاثه العلمية ولا يدع له أي مجال لإظهار كفاءته ومقدرته على العمل، ولا يراعي في ذلك الصالح العام. وقد بلغ السفه بهذا (الرئيس) أن سب مصور هذه المصلحة ورماه بالسخف لأنه التقط صورة صديقي إلى جانب كبير من أكبر كبراء البلد! مع أن صديقي قام بالواجب نحو هذا الكبير ولم يشعره بكثرة تغيب الرئيس عن أعمال مصلحته وعدم محافظته على مواعيد العمل بها

هذه يا سيدتي الفاضلة حالة تكاد تكون فردية، أرجو ألا يكون لها أو لأمثالها أي اعتبار لديك إذا تفضلت ودونت مذكراتك عن مصر. وإنني أرى أن نهدم هذه البقية الباقية من فترة الانتقال هدماً لا قيام لها من بعده، قبل أن نتابع طريقنا نحو الجديد الجميل!. . .

محمد مصطفى

مساعد في دار الآثار العربية