مجلة الرسالة/العدد 512/سليمان الحكيم
مجلة الرسالة/العدد 512/سليمان الحكيم
لتوفيق الحكيم!
للأستاذ سيد قطب
- 2 -
يلتقي الصياد الساذج القانع الطيب القلب بالعفريت الطامح المتمرد العاصي (داهش بن الدمرياط) حين يجذب شبكته أول مرة فتخرج حماراً ميتاً، ويجذبها ثاني مرة فتخرج زيراً مملوءاً بالرمل، ويجذبها ثالث مرة فتخرج أحجاراً وقوارير. حتى إذا طلب من الله أن يرزقه من فضله في الرابعة خرج له قمقم نحاسي مختوم بخاتم سليمان، وفيه هذا العفريت الملعون الذي حبس في هذا القمقم جزاء عصيانه أمر الملك وإبائه أن يذهب لجلب الأرز وخشب السرو لبناء بيت الرب، لأنه عفريت طموح مهيأ لأكبر من هذه الأعمال التافهة!
ويهم العفريت بقتل الصياد الذي أنقذه لأنه كان قد نذر أن يقتل من يخرجه في هذه اللحظة (وهنا ينسج المؤلف الخيط الأول في شخصية العفريت) لولا أن يحضر سليمان وجنوده فيرجو العفريت الصياد في أن يعيده إلى القمقم وأن يستشفع له عند الملك، ويستنجد العفريت بشرف الصياد فلا يجد هذا مفراً من القبول (وهنا ينسج الخيط الأول في شخصية الصياد)
ويقبل سليمان الشفاعة على شرط أن يكون الجني محسوباً على الصياد بخيره وشره، وأن يعدهما شخصاً واحداً أمامه في السراء والضراء (ومن الصياد الطيب والعفريت الشقي يتألف الإنسان). ويقبل الصياد - وأمره لله - ولكنه يختار أن يكون مع عفريته في خدمة النبي سليمان! (وتلك أول بذرة من بذور الحكمة في نفسه)
ويسمع سليمان من الهدهد الغائب (حسب رواية القرآن) عن ملكة سبأ وعظمة ملكها وعن جمالها أيضاً. ويكون حاضر هذا الحديث صادوق الكاهن وآصف الوزير. فأما صادوق فمشغول بالسؤال عن معبود الملكة وقومها، وأما آصف فمشغول بالسؤال عن عرشها وملكها، وأما سليمان فمشغول بهذا كله، ولكنه مهتم كل الاهتمام بما يسمع عن الملكة الجميلة (وهنا ينسج الخيط الأول في هذه الشخصيات الثلاث. ويمهد للصراع الذي ينتظر قلب سليمان)!
ويعمل سليمان على استزارة الملكة فتسير القصة حسب نصوص القرآن تقريباً، من إرسال الهدهد إليها وإرسالها هدية لسليمان ترد إليها، ومن التشاور بين الملكة ورجالها. وفي هذا التشاور يدور حوار طريف لا نستطيع أن ننقله هنا. ولكنه يصور طبيعة المرأة وأحاسيسها الخفية ووسائلها الغامضة، ويصور طبيعة الوزير السياسي، وطبيعة القائد الحربي في بضع كلمات (وتلك براعة توفيق الحكيم في الحوار. وهي براعة تفوّق وتفرّد في هذا المجال. فما هي إلا لفظة من هنا ولفظة من هناك، وجملة عابرة هكذا، وجملة خاطفة كذلك. حتى تستوي القضية التي يريدها أو الشخصية التي يرسمها، كأنما مستها عصا ساحر فانتفضت من بين الركام. فهو من هذه الناحية متفوّق ومتفرد حتى اليوم بلا جدال.)
ونعلم هنا أن للملكة أميراً أسيراً هو (منذر). وإنها لمشغوفة به حباً، وإنها لتواري هذا الحب عنه في مشقة وعسر لتعترف به متهالكة ناسية كل أبهة الملك أمام جاريتها (شهباء) وإنه هو لمشغوف حباً بشهباء، وإنه لا يعبأ بقلب الملكة الآسرة. وإن شهباء لتبادله هذا الحب في الخفاء، ولا تظهره له ولا للملكة على السواء!
فإذا ما جاءها رسول سليمان، وإذا ما ردت إليها هديتها، أدركت بغريزة المرأة التي تشم من بعيد أن سليمان لا يبغي ملكها ولا ثروتها إنما يريدها هي لذاتها. فتنعش لهذا وتنشط وتحس أنه يرد عليها شيئاً من كبريائها المحطمة مع الأمير الأسير فتجيب الدعوة. ولكنها تحب أسيرها ولا تستطيع فراقه، فهي تحتال عليه لتأخذه معها في رحلتها.
ونلمح هنا بين ما يشبه الضباب - أو بين السطور - غريزة المرأة التي تحب ويمتلئ قلبها بمن تحب، ولكنها ترحب بكل لفتة من قلب رجل! ونلمح أغراضاً شتى متداخلة مبهمة في نفسها من استصحاب أسيرها معها. أهي تفعل هذا لأنها لا تصبر على فراقه؟ أهي تفعله لتري حبيبها المعرض كيف يعجب بها سليمان العظيم فتوقظ إعجابه هو بها وتثير في نفسه الغيرة عليها؟ أم إنها تريد أن تقول لسليمان: إنك لست المعجب الوحيد فلي أيضاً حبيب؟! أم تريد أن تصد سليمان عنها مع تمتعها بإعجابه بها؟. . . إلى آخر هذه الاحتمالات؟
كل ذلك نستطيع أن نلمحه وراء ستار من الضباب أو من السطور والكلمات. وتلك مقدرة من مقدرات الحوار.
وتقدم الملكة على سليمان في موكبها العظيم، فيحس قلبه من بعيد بما هنالك (وهنا تشترك الأسطورة والنبوة والغريزة في رسم الصورة وتقريب الإحساس) وعندئذ يبدأ في محاولة بهرها ولفت نظرها بخوارق الأمور؛ فيطلب استحضار عرشها من بلاد سبأ. ويتبارى في ذلك أتباعه. وعندئذ تعرض الفرصة للجنيّ (داهش) صاحب الصياد ليأتي بالعظائم ويلبي الطموح، فيعرض أن يأتي به في غمضة عين أو يقتل هو والصياد! ويعارض الصياد بطبيعة الحال، ولكن طموح الجني ورغبة سليمان يغلبان. وينجح (داهش) فيظهر الصياد الساذج مشاركاً في النجاح، وترتسم للصياد صورة فيها كثير من الدعابة والفكاهة تلازمه في معظم الأحوال! ويسر سليمان ويستقبل الملكة ومعها الأمير الأسير، فترى عرشها وتعجب بهذه المقدرة، ولكنها تشم بغريزتها لماذا يحاول سليمان أن يبهرها! ويختليان بسرعة فتلاحظ هذه السرعة، وتصارحه بها، فيفاجئها بما ساور نفسه من أسيرها، فتعترف! ويصدم سليمان صدمة عنيفة فينسحب لتنال راحتها! وتبتهج هي في دخيلة نفسها بما تم حتى الآن!
فإذا خلا سليمان إلى نفسه فهو منقبض قلق ضيق الصدر، في حاجة إلى السلوى وإلى التسلية، فهو يلتمسها عند أضعف أتباعه وأشدهم سذاجة. عند الصياد! وإنه ليسأله إذا كان قد ذاق طعم الحب؟ وهنا يروي الصياد قصة حب خائب لم يدم إلا لحظة. أدى ثمنها ثروة مفاجئة كان يملكها. وقد ضحى بحبه ليفسح لمن أحبها طريق السعادة، لأنه ليس كفئاً لها فهي كفء لملك! (وفي هذه القصة ينسج خيطاً آخر من شخصية الصياد فهو رجل طيب ذو ضمير نقي وقلب كريم)
ومرة أخرى يجد الجني أن الفرصة سانحة لإرضاء طموحه، وللنزغ في قلب النبي سليمان، وتلبية رغبته في آن! فيعرض خدماته - على كره كذلك من الصياد - ويرسم خطة لتحويل قلب الملكة وانتزاع إعجابها. ويستجيب سليمان، تدفعه الرغبة الإنسانية الجارفة؛ فإذا الجني مفوض في استخدام جميع السلطات وجميع القوى، وإذا هو يسخر بساط الريح ليحمل الملكة مع سليمان في الفضاء؛ وإذا هو يبني الصرح الممرد من قوارير وتحته ما يشبه اللجة، لتبهر الملكة، وليجد سليمان الفرصة متاحة ليحملها بين يديه ويتخطى بها اللجة الموهومة! وماذا يصنع محب محروم إلا أن يلتمس كل وسيلة للتمتع بمثل هذا الفتات؟!
ثم ماذا؟
ثم إذا المرأة التي تحب أقوى من جميع هذه المغريات؛ وإذا القلب الإنساني الذي يحب أقدس من جميع هذه المظاهر؛ وإذا هو يسخر بجميع قوى الأرض وجميع مظاهرها؛ وإذا الملكة على حبها لأسيرها أمام كل جهود سليمان وجهود الشيطان!
ثم ماذا أيضاً؟
ثم إذا سليمان غاضب على الجنيّ وعلى الصياد؛ وإذا الصياد خائف مذعور، عاتب لائم لهذا الجنيّ الذي لا يعرف الهدوء ولا يني عن المحاولة، ولا يكف عن الطموح؛ وإذا (داهش) يعرض عروضاً جريئة، وينزغ نزغات شريرة. إنه يعرض اقتحام الحصن الذي لم تفتحه المحاولات، وتحطيم القلب الذي لم تحوله المغريات!
ويشفق الصياد ويضطرب ضميره؛ ويتردد سليمان وتتحرك قداسته. ولكن الرغبة الملحة تغلبه، فإذا الجنيّ مفوّض في عمل ما يشاء!
فلما نفذت الخطة الجديدة الجريئة، فمنذ رقد الأمير مسخ تمثالاً في حوض الرخام؛ ولن تعود إليه الحياة إلا إذا بكت عليه حبيبته حتى تغرق جسده بالدموع. وإذا الملكة ترسل الدمع مدراراً بجانب التمثال الحبيب، وإذا سليمان يرسل الضحكات كلما أطل عليها سخرية وشفاء (ونلمح هنا جو ألف ليلة وليلة. ولكننا نلمح التضحية الأسطورية للحب، والشر الذي تثيره الرغائب الجامحة في قلب إنسان).
حتى إذا ما أوشكت المعجزة أن تتم، تدخّل الجنيّ فهدى سليمان إلى حيلة يبعد بها الملكة قليلاً عن التمثال، ولم تبق إلا دمعتان حتى تصل الدموع إلى قلبه فينبض ويحيا. وزيّن لشهباء أن تنتهز الفرصة السانحة وتحيي حبيبها لنفسها. وأغرى الصياد أن يذهب - هو الآخر - إلى الحديقة ليجد حبيبته الضائعة فهي الآن من نساء سليمان (وبهذا يضرب الشيطان جميع هذه القلوب في لحظة واحدة!)
فأما الملكة فتؤخذ بالحيلة. وأما الصياد فيتردد ثم يذهب ولكنه يحجم عن مخاطبة حبيبته تحرجاً وتورعاً. وأما شهباء فتتمنع ثم تدمع عيناها في الحوض، فإذا حبيبها يحيا، وإذا هو يراها بجانبه تبكي فيحسبها صاحبة التضحية في سبيله وواهبة الحياة له، فيطوقها بذراعيه.
ولكن ضميره يتحرك فتخبره بالمضحية الحقيقية التي ملأت الحوض بالدموع، وإن هما إلا دمعتان منها لا سواهما. ولكنه هو (لأنه يحب) يرى الدمعتين الأخيرتين اللتين وصلتا إلى قلبه أغلى وأعظم من جميع دموع (بلقيس)!
وحين تعود الملكة ومعها سليمان تقع عيناها على المنظر الفظيع فتصدم صدمة عنيفة ويجلجل صوت سليمان ضاحكاً. ولكن الملكة تتهدم بين يديه وتنهار. وهنا يدرك عظم الكارثة وفظاعة الجريمة، فيأخذه الوجوم. . . إنه أفاق ولكن بعد فوات الأوان!
وهنا يستعرض الناقد من المنظر عدة لوحات
فلوحة يتجلى فيها الصراع بين الخير والشر في نفس الصياد وقد تغلب الخير في النهاية على نزغات الشيطان، لأنها نفس محدودة المطامع ضيقة الرغبات!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس شهباء وقد تغلب الحب المكتوم على همسات الضمير، لأنها امرأة تحب!. ولوحة يتجلى فيها هذا الصراع في نفس سليمان وقد غلب الشر حين أججته الرغبة والمقدرة، ثم غلب الخير حين كشف الجرم وتبين العجز، لأنه نبي وإنسان!
وهناك لوحة منزوية يتراءى فيها جحود الحب الأعمى، بجانب نبله المقدس؛ فدمعتان اثنتان من عيني شهباء يقومهما المحب بالدموع الغزار والليالي الطوال فترجحان، وهما وحدهما اللتان تبلغان قلبه لأنهما ممن يحب!. وعظمة سليمان وملك سليمان ومحاولات سليمان كلها لا تحول قلباً يحب لأن هذا الحب فوق الملك والقوة والسلطان!. ونبوة سليمان وحكمة سليمان لا تعصمانه من الشر الذي اندفع إليه، ولا من نزغ الشيطان في قلبه؛ لأن الشيطان يستخدم الحب الذي يذهب بالعقل وبالحكمة جميعاً
هذا الجحود العجيب بجانب الوفاء العظيم، بجانب الاندفاع المريد: لوحة فاتنة لأنها صادقة
وإلى هنا كان يمكن أن تنتهي التمثيلية، فلا تفقد شيئاً كثيراً من وقعها النفسي ومن أهدافها الإنسانية. ولكن توفيق الحكيم يؤثر الحوار الفلسفي ويؤثر ألا يكتفي بالإشارة عن العبارة؛ فهو يسجل في فصلين تاليين تسجيلاً مفصلاً في حوار ذهني ما سجلته الحوادث حتى الآن في تصرف حيوي، وما يستشف من هذه الحوادث في بساطة وبغير انتباه
وموعدنا ببيان هذا العدد المقبل فقد بلغنا اليوم أقصى الفراغ
سيد قطب