مجلة الرسالة/العدد 513/سليمان الحكيم

مجلة الرسالة/العدد 513/سليمان الحكيم

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1943



لتوفيق الحكيم!

للأستاذ سيد قطب

(تتمة)

لو انتهت تمثيلية (سليمان الحكيم) عند الحد الذي وصلنا إليه آنفاً ما نقصت في نظرنا إلا القليل من وقعها النفسي، ومن أهدافها الإنسانية. ولكنها كانت تفقد - ولا شك - شيئاً من كمال الصناعة الفنية التي يبدو أن (توفيق الحكيم) يعني بها كل العناية، ولا سيما في هذه التمثيلية الأخيرة. فلما أن بدأ تمثيليته بالصياد والعفريت وجهاً لوجه ثم توسع فيها شيئاً فشيئاً في عرض الأشخاص وفي المجال الذي يعرضهم فيه، كان من كمال هذه الصناعة أن يضيق في مجال العرض وفي الأشخاص شيئاً فشيئاً حتى إذا وصل إلى النهاية كان على المسرح فقط الصياد والعفريت وجهاً لوجه كما بدآ، وكان أن يقذف العفريت القفاز فيلتقطه الصياد، وأن يعلنا ابتداء الحرب الأبدية بينهما بعد انتهاء الرواية الموضعية!

وتلك طريقة توفيق الحكيم المختارة في الصناعة الفنية وفي الأهداف الفلسفية على السواء، في جميع تمثيلياته الرمزية الفلسفية؛ أما التمثيليات والقصص الواقعية فلها نظام آخر وشأن آخر.

ولعله يحسن هنا أن أقول: إن توفيق الحكيم لم يحسم برأي في مشكلة من المشاكل التي أثارها في رمزياته جميعاً. (فشهريار) في نهاية (شهرزاد) ذهب إلى حيث لا يعلم أحد ولم يحل مشكلة القلق العقلي التي صارع من أجلها المكان والمحسوسات والأشياء! و (بيجماليون) مات وفي نيته أن يصنع في الفن ما لم يصنع وأن ينفذ الوحي الأخير الذي يموت كل فنان أصيل وهو في نفسه أمنية توسوس له في الخيال! و (أهل الكهف) فارقوا الحياة، وهم لا يدرون إن كانوا في حلم أم في حقيقة، ولم يدر القراء - ولا توفيق الحكيم نفسه - من المنتصر؟ القلب أم الزمن، والفناء أم الإنسان! وهاهو ذا الصياد والعفريت في (سليمان الحكيم) يعلنان الصراع الأبدي في اللحظة الأخيرة ثم يسدل الستار!

تلك طريقة (توفيق الحكيم) التي لا تتخلف. ومنشئوها - فيما أعتقد - طبيعة توفيق نفسها، فهو (الأديب الحائر) كما قاله عنه مرة الدكتور طه حسين. إنه الشك غير الواعي في طبيعة هذا الفنان، وإنه القلق الدفين في نفسه، يصدانه عن التعرض للحلول الحاسمة وعن الفصل فيما يعرض من مشاكل وأزمات. وإن ظن أنه مختار في اختيار هذه الطريقة!

ومع هذا فكم وددت لو تخلفت هذه الطريقة في (سليمان الحكيم)، أولو سار عليها، ولكنه ظل - كما بدأ - يدع الحادثة تتكلم، بدل أن يلقن أشخاصه الحديث، وبدل أن يطيل الحوار الفلسفي ليعرض به ما يريد أن يعرضه من المشكلات

لقد نسج (توفيق الحكيم) أهل الكهف وشهرزاد وبيجماليون على منوال واحد يختلف نسيجه بعض الشيء في الواحدة منها عن الأخرى، ولكنه منوال واحد على كل حال. فأما (سليمان الحكيم) فقد نسجت على منوال آخر يختلف في طبيعة قالبه عن ذلك المنوال.

في التمثيليات الأولى - على خلاف بينها في الاتجاهات - كان المؤلف يبرز لنا شخصيات ويدير بينها حواراً حول مشكلة فلسفية أو إنسانية، فنشعر لأول وهلة أن هذه الشخصيات إن هي إلا دمى تحركها أصابعه من وراء ستار لتنطق بهذه الأفكار

وتختلف تلك التمثيليات في هذه الخاصية - كما قلت -؛ ففي (شهرزاد) مثلاً لا يخطر لقارئ يفهم ما يقرأ أن (شهرزاد) و (شهريار) و (قمر) و (العبد). . . هم أشخاص حقيقيون ممن نلتقي بهم في هذه الحياة؛ وإنما هم منذ أول لحظة رموز؛ والمشكلة التي يراد منهم التعبير عنها هي مشكلة القلق الإنساني والشك العقلي، والتطلع إلى المجهول، والتخلص من الواقع بعد ارتواء الغريزة والحصول على الاكتفاء الأرضي المحدود. وفي (أهل الكهف) ربما خطر للقارئ أول الأمر أن (مشلينا وبريسكا، وأرنوش ويمليخا). . . هم أشخاص حقيقيون - ولو كانوا من أشخاص الأساطير - ولكنه يلمح هنا وهنالك ما يشككه في واقعيتهم؛ وما يلبث أن ينكشف له أنهم رموز وأن المشكلة التي يراد منهم التعبير عنها هي مشكلة الصراع بين الفناء والإنسان، أو بين القلب والزمان. وفي (بيجماليون) يحس القارئ من أول الأمر أنه يعيش في جو أسطوري رمزي وأن (بيجماليون) و (جالاتيا) و (فينوس) و (أبولون) و (نرسيس) و (إيسميه). . . إن هم إلا رموز لقوى بشرية وكونية تتصارع في الحياة أو في نفس الفنان؛ وإذا تصور لحظة أن بيجماليون هذا إنسان خاص، فسرعان ما يرى أنه رمز للفنان الحائر المثالي والواقع الحي، وبين الطموح الخالد والقدرة المحدودة؛ وبين التسامي الفني والميل الغريزي في الفنان.

فأما (سليمان الحكيم)، فقد نسجت على منوال جديد، وعاشت في جو جديد. إنه جو أسطوري نعم، ولكن الحياة كانت تدب فيه منذ اللحظة الأولى، فسليمان إنسان نبي يحيا حياة النبي الإنسان، وبلقيس ملكة وامرأة محبة تتصرف تصرف الملكات والنساء المحبات، ومنذر أمير أسير محب حتى وهو تمثال! وصادوق وآصف والصياد هم أناس يعيشون في هذا المستوى طوال الفصول الخمسة، وحتى (داهش بن الدمرياط) هو كذلك عفريت حي على هذه الأرض، على الرغم مما يدلف به إلى عالم الرموز!

وهم جميعاً يعيشون ونشعر معهم بحرارة الحياة، ولكنهم في الوقت ذاته يعرضون لنا في تصرفاتهم وفي حوارهم القصير (بالقياس إلى الحوار الطويل في التمثيليات الأولى) مشاكل فكرية وإنسانية ونفسية في كل خطوة وفي كل حركة، دون أن ينبهونا إلى انهم يعرضون هذه المشاكل ويقصدون إلى هذه الأفكار. . .

وهذه في اعتقادي مقدرة فنية أكثر من المقدرة التي يحتاج إليها المؤلف في التمثيليات الأولى، ومنوال أصعب في النسج عليه من ذلك المنوال

لذلك وددت أن يظل هذا النسق إلى نهاية التمثيلية؛ ولكن توفيق الحكيم لم يطق صبراً على الاختفاء الطويل عن المسرح، فقد أطل مرة أو مرتين برأسه في أثناء الفصول الخمسة الأولى ليتفلسف بالعبارات! وليشعرنا بوجوده خلف الستار. حتى إذا كان الفصلان الأخيران تمرد على السكون، واقتحم حياة أبطاله الذين خلقهم، وظهر على المسرح بشخصه، ليلقن هؤلاء الأبطال حواراً طويلاً يكشف عنا في نفوسهم، ويصور المشاكل الفكرية التي يريد تصورها، بدل أن كانوا هم أول الأمر يصورون هذه المشاكل الفكرية التي يريد تصورها، بدل أن كانوا هم أول الأمر يصورون هذه المشاكل بتصرفاتهم في الحياة!

وإننا لنلخص هنا هذا الحوار لنشرك معنا القراء فيما نراه:

لقد اصطدمت بلقيس بالحرمان النهائي. وقد اصطدم سليمان بالخطيئة والحرمان، وقد اصطدم الصياد بالمحاولة التي لم تتم، ولكنها نزغة من نزغات الشيطان

فأما سليمان فقد حبس الجنيّ وترك الصياد - بعد أن علم من أمره ما علم - وهو متهالك على نفسه، شقي بعذاب ضميره، معترف بخطيئته؛ بينما يحاول (صادوق) أن يبرر هذه الخطيئة وأن ينظر إلى سليمان بمنظار التقديس التام (شأنه منذ أول القصة) ذلك أنه يعمل لحساب المظاهر والجماهير، بينما سليمان يستوحي العقيدة والضمير. (وذلك هو الفرق بين الكاهن والنبي)

وأما بلقيس فقد هدأت باليأس واطمأنت إلى صداقة سليمان فهي لن تحبه ولم يعد قلبها صالحاً للحب. ولكنه رجل منحها في فترة ما حبه وإعجابه، فصداقته الآن هي أقرب الأحاسيس إلى نفسها وفيها بعض العزاء

وإن بلقيس وسليمان ليحسان لهذه الصداقة طعماً مريحاً بعد الحرمان!

وأما الصياد، فقد استيقظ ظميره، وإنه ليطلب إلى سليمان عقابه على النية (وقد ارتفع درجات هائلة في سلم الحكمة العالية) فلا يجيبه سليمان إلى طلبه؛ بل يطلب هو إلى الصياد أن يكون قاضيه لأنه خير منه فقد همّ ولم يفعل. أما هو فهمّ وفعل!

ثم تودع الملكة بلقيس الملك سليمان عائدة إلى مملكتها بعد المعركة!

فإذا كان الفصل الأخير، فإن سليمان قد اعتكف في القصر الذي كان قد بناه لبلقيس (فهو إذن مكان حبيب إلى نفسه وما تزال للحب الإنساني خيوط على الرغم من الندم والتوبة)!

وإذا هو متكئ على عصاه، وإذا الصياد قائم على حراسته بإذنه. وإذا هو يموت دون أن يعلم أحد بموته (حسب رواية القرآن). فإذا انكشف أنه مات بدأ حوار فلسفي طويل بين أصف وصادوق والصياد، تثار فيه مسائل فلسفية حول الحكمة الإنسانية الصغرى، والحكمة الكونية الكبرى. وحول السخرية بحكمة الإنسان وعظمته، مهما بلغ من الحكمة والسلطان!

ثم إذا الجني يظهر وجهاً لوجه أمام الصياد - قوة الخير وقوة الشر - وإذا هو يعلن الصراع الأبدي بينهما فيلتقط الصياد القفاز! وإذا الصياد والعفريت في هذه الصورة رمزان خالصان وقد كدنا نظن طول الرواية أنهما شخصان كائنان! وكذلك تسفر الرمزية في سليمان وصادوق وبقية الأشخاص

وفي هذين الفصلين أشياء تزيد وضوح أهداف الرواية، ولكن كم وددت لو سارا على النسق الأول في استبدال الحادثة بالحوار والحركة بالكلمات ولكنه توفيق الحكيم على كل حال!

وأحب أن أنبه هنا إلى لبس قد يقع فيه من يتصدون للنقد بلا اطلاع ولا استقصاء. فالناقد المنصف لتوفيق الحكيم يرى أن له تمثيليات وقصصاً أخرى تنبض بحرارة الحياة الإنسانية وفيها الفكاهة والدعابة التي زعم الأستاذ (محمد مندور) أنه محروم منها بعد اطلاعه الخاطف على تمثيلية (بيجماليون) وحدها. وإني لأذكر في هذه اللحظة (رصاصة في القلب)، و (عودة الروح) و (يوميات نائب في الأرياف) وغيرها، وفيها جميعاً هذه الحياة الحارة البسيطة الجميلة، وهذا تنبيه يجب أن يقال

ولقد أسلفت رأيي في مقدرة توفيق الحكيم على الحوار، فأريد هنا أن أسجل له سبقه وتفرده في إدخال الحوار إلى عالم الأدب العربي مستقلاً عن المسرح، بحيث يصلح للقراءة المجردة عن التمثيل. وفي تناوله الأسانيد والأساطير تناولاً فنياً في التمثيلية الأدبية، واستخدامها لعرض المشكلات الفكرية، والصراعات الإنسانية على السواء

وقد بلغ توفيق الحكيم في (سليمان الحكيم) - على الرغم مما لاحظناه - قمته الفنية في الصناعة: بلغها في تنسيق العرض الذي تحدثنا عنه في أول المقال؛ وبلغها في إدارة الحوار وفي رسم الشخصيات، وفي الالتفاتات السريعة الموحية والإشارة الخاطفة المصورة (وفي مقال لصحيفة لا يتسع المجال لضرب الأمثال كما يتسع لها في كتاب)

ولقد كنت ألمح في أثناء دراستي للتمثيلية تلك الخيوط التي ينسجها في شخصية كل شخص، ثم يلقيها على أبعاد متقاربة أو متباعدة، ليعود إليها بعد حين، فينسج الخيط التالي بجوار الخيط الأول وهكذا. فأحس بعد خطوات لِمَ ألقي بهذا الخيط هنا وبذلك الخيط هناك!

والصورة التي أستخلصها لطريقة عمل المؤلف: أنه استحضر جميع أفكار تمثيليته وجميع مشاهدها بالتفصيل قبل أن يمسك القلم ليكتب، ثم جعل يلقي بهذا الخيط هنا وبذلك الخيط هناك، ليجمع أطرافها إليه ويشدها جميعاً في الوقت المناسب. وهو تنظيم دقيق قد يستغرب من (توفيق الحكيم) المعروف للناس؛ ولكنه غير مستغرب عند الناقد الذي (يفقس) توفيق الحكيم!

ولقد بلغ كذلك قمة التمثيلية في اللغة العربية حتى الآن. أما القياس إلى التمثيلية العالمية فلست أنا صاحب الحق في هذا المجال وقد تكون الفكرة في (شهرزاد) أعلى أفقاً وأوسع مدى، ولكن الطريقة هنا أكمل والحركة أسرع والحياة أوضح وأبسط

وإلى هنا كان يمكن أن ينتهي الحديث، ولكن لا بد من كلمة قصيرة عن لغة التمثيلية فهي عامية معربة حين يتحدث في جو أسطوري؛ وهي عربية سهلة حين يخرج إلى الجو الفكري

ولا يفوتني أن أنبه إلى ثلاث غلطات لفظية جاءت في الرواية:

فقد جاء في ص 42: (فأنتم ترون من حسن السياسة أن توكلوا الأمر إليَّ) وصحتها (تكلوا). وجاء في ص 111: (أومن بي أيها الأحمق) وصحتها (آمن). وجاء في ص 181: (عما أتكلم؟) وصحتها (عمَّ أتكلم؟)

وقد وددت أن أغض الطرف عن هذه الغلطات، لولا أنني أريد السلامة التامة لفن توفيق الحكيم ولغة توفيق الحكيم!!

(حلوان)

سيد قطب