مجلة الرسالة/العدد 513/قاسم أمين

مجلة الرسالة/العدد 513/قاسم أمين

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1943


للأستاذ عباس محمود العقاد

قرأت في مجلة (روز اليوسف) حديثاً للسيدة الجليلة قرينة قاسم أمين رحمه الله، نشرته المجلة لانقضاء خمس وثلاثين سنة على وفاة ذلك المصلح الكبير، وكان من المصادفات الموفقة أن تؤدي هذا الواجب - واجب الذكرى - مجلة تصدرها سيدة. ففي ذلك بعض الوفاء (المناسب) لموضوع الوفاء

وقاسم أمين رحمه الله حقيق بالتذكار لغير سبب واحد: حقيق بالتذكار لغزارة علمه؛ وحقيق بالتذكار لنزاهة قضائه؛ وحقيق بالتذكار لدماثة خلقه ولطافة ذوقه وامتزاج الثقافة الروحية فيه بالثقافة الفكرية؛ وحقيق بالتذكار قبل كل شيء، وبعد كل شيء، لدعوته إلى إنصاف المرأة وإخراجها من ربقة الظلم الذي كان محيطاً بها وبالرجال

كتبنا عنه قبل ثلاثين سنة في (خلاصة اليومية) فقلنا: (إن المرأة المصرية مدينة لقاسم؛ لأنها كانت سجينة فأطلقها، وكانت أمة فأعتقها. والأمة المصرية مدينة لقاسم؛ لأنها كانت شلاء فأبرأها من ذلك الشلل الذي أمسك شقها عن الحركة دهوراً وأعواماً. والإنسانية مدينة لقاسم؛ لأنه أنقذها من رق لا تجرؤ مصلحة الرقيق على مطاردته. والفخر في تحرير المرأة لا يزال الآن وبعد الآن من نصيب قاسم. أما من قفوه في هذا المقصد فهم إنما درجوا على طريق بينه الآثار وسلكوا في منهج مأبور)

وقد مضت الآن خمس وثلاثون سنة على وفاة قاسم، ومضى نحو خمسين سنة على دعوته الأولى في سبيل تحرير المرأة، وولد في يوم دعوته - بل في يوم وفاته - بنات يعشن الآن ويحسبن من الرجعيات المتخلفات، لأنهن يتحرجن من أشياء لا يتحرج منها بناتهن الناشئات اللائى ولدن متحررات، وغلون في الحرية أبعد الغلواء، ولما يسمعن باسم قاسم أمين ولا بالدعوة التي دعاها. لأنهن أخذن الحرية من عدوى المجتمع ولم يأخذنها من معرفة الحقوق ولا من العناية بنهضة المرأة

وإنصاف قاسم يستدعينا إلى تقرير هذه الحقيقة. فإن عدوى المجتمع شيء ودعوة قاسم إلى تحرير المرأة شيء آخر، وإنما اللوم كل اللوم فيما نعيبه الآن من الشطط والبهرج الكاذب إنما هو من عدوى المجتمع لا من الدعوة القاسمية التي لا يزال لها فضلها ولا يزال له حقها من الثناء وإن شط بها الطريق على غير ما أراد صاحبها، وعلى غير ما يستطيع أن يريد

قاسم أمين قد رأى خطأ فنبه إليه

ويكفي أن يثبت الخطأ ليثبت الفضل في التنبيه إليه. ثم يكفي أن يكون التنبيه إليه شجاعة وتضحية ومجازفة بالمصير ليغنم صاحبه منا حمد الشجاع المقدم على التضحية في سبيل الخير والفلاح، ثم لا عليه بعد ذلك من الخطأ الآخر الذي جاءت به الحوادث ولا جناح عليه فيه

مثل قاسم أمين في دعوته إلى تحرير المرأة مثل محام فاضل غيور على حقوق الناس رأى إنساناً يساق إلى السجن بغير جريرة معروفة وبغير حجة مشروعة يقبلها القانون؛ فغضب المحامي الفاضل الغيور على الحقوق غضبة الكرامة الإنسانية، وجهد في إطلاق ذلك السجين جهده المستطاع، وبر بذمة القانون وذمة الصناعة وهو يخرجه من السجن ويسلمه إلى الطريق الطليق. ثم دهم الترام ذلك السجين المظلوم على مدى خطوات من سجنه فمات؛ أو بدا له أن يعرج على حانة فيذهل عن صوابه ويعتدي على بريء أو يصاب بما يسقمه ويضنيه

هو لو بقي في السجن لما قتله الترام، ولا وصلت يده إلى الكأس أو أقدم على العدوان

ولكن الرأي فيمن ظلمه وأدخله السجن، وفيمن أنصفه وأخرجه منه، لا يختلف مع كل ما حدث أو يحدث بعد انطلاقه

فلا يقول أحد فيه ذرة من إنصاف أن ظالمه خير من منصفه، وأن إدخال الناس السجن بغير الحق عمل أشرف وأكرم من إعادتهم إلى الحرية وفاقاً لحكم القانون

والذي حدث في الدعوة إلى تحرير المرأة شبيه بهذا من وجوه كثيرة. فإن الذي أنكره قاسم من ظلم المرأة وحرمانها العلم والتربية والرعاية الإنسانية لحقيق بالإنكار، وحقيق بان يتبدل أو يزول. وهنا صنع قاسم ما لابد أن يصنع، وقام بالواجب الذي نكص عنه آخرون. فوجب له الحمد وعرفان الجميل، وإن ذهبت المرأة بعد ذلك في حريتها مذهباً لم يكن ليرضاه

دعوة قاسم هي فضيلة قاسم التي تحسب له ولا تحسب عليه أما (عدوى المجتمع) فليست من فعله ولم يكن في يديه أن يمنعها ولو كف عن دعوته وسكت عنها في زمانه كل السكوت

فهذا الشطط الذي نراه اليوم إنما نشأ من أمور كثيرة بمعزل عن الدعوة القاسمية وعن كل دعوة من قبيلها

نشأ من رؤية المرأة الأوربية في مصر بالمئات والألوف، ثم هجوم الناس على المحاكاة العمياء بغير تفرقة بين الأحوال عندنا والأحوال عند الأوربيين

ونشأ من الصور المتحركة التي تعرض لنا كل يوم مفاتن الحياة الغرامية بين الجنسين على نحو يراد به الإغراء وقلما يراد به التعليم والتهذيب

ونشأ من انتقال الألوف من أبنائنا إلى أوربا يعيشون هناك كما يعيش الشبان الميسورون في غير رقبة ولا تقيد بالعرف الشرقي الذي نشأوا عليه

ونشأ من القراءة الرخيصة التي يصح أن يقال فيها ما يقال في العملة (إن الرديء منها يطرد الجيد من الأسواق)

ونشأ من الأزمات الاقتصادية ثم من تداول الضنك والرخاء على البلاد، وفي هذا التداول ما فيهمن إفساد الأخلاق وزلزلة العرف والبيئة

ونشأ من معقبات الحرب الماضية التي عمت جميع الأقطار، ولم تخصنا نحن الشرقيين أو نحن المصريين

وهذه كلها أسباب أين منها دعوة قاسم أمين وأين منها جهود قاسم أمين أو جهود نفر من المصلحين؟

إن القدوة الاجتماعية لتصنع الكثير ولو قامت في طريقه العقبات ولم يرتفع بالدعوة إليه صوت داع من الدعاة؟

فلم يقم في مصر (قاسم أمين) يؤلف الكتب ويستهدف للملام في سبيل (التنحيف) وإقلال الطعام

وإن الإقلال من الطعام لعسير جد عسير، لأنه تضييق على الحرية وتضييق على الجسم في وقت واحد. . . ومع هذا تصبر المرأة على الحرمان والشدة وتزهد في الطعام المشتهى لتظفر (بالنحافة) الموموقة التي فرضتها العدوى الاجتماعية ولم تفرضها على المرأة دعوة ولا عقيدة

بل فرضت الدعوة القوية صياماً في وقت من أوقات السنة وأنذرت على تركه بالعقاب في الدنيا والآخرة، فلم تصم امرأة واحدة لاتقاء هذا العقاب إلى جانب عشر نساء ممن يصمن في العام كله مرضاة للعرف وتلبية للعدوى الاجتماعية. وما كانت دعوة قاسم رحمه الله بأقوى من دعوة الصيام ونذير العقاب على تركه باسم الدين

إنما هي آفة الإصلاح حيث كان

وإنما هي القسمة السيئة التي يصاب بها المصلحون في الحياة وبعد الممات

ففي حياتهم يكرهون ويصابون

وبعد حياتهم تعرض لدعواتهم العوارض التي لا ذنب لهم فيها ولا قدرة لهم عليها فيلامون من حيث يسكت الناس عن علة الملام

وقد تثمر دعواتهم أحسن الثمر بعد زمن طويل، فإذا الناس يستمتعون بالثمر وينسون غارسيه، ولعلهم إن ذكروهم لا يشكرون ولا يكترثون

ذلك كله حق نلمحه بيننا ونلمسه بأيدينا كل يوم، فإن أوجب علينا شيئاً فإنما يوجب علينا أن نضاعف الجزاء للمصلحين الذين يساء إليهم بمقدار ما أحسنوا، وإنهم لأقمن الناس بإحسان

قالت السيدة الجليلة قرينة قاسم بك في حديثها الذي أشرنا إليه: (إنما كان قاسم ينادي بالسفور الشرعي الذي لا يزيد عن إظهار الوجه واليدين والقدمين ولا يتجاوزه إلى إظهار العورات وإلى اختلاط المرأة بالرجل على النحو الحاصل الآن. وإني أعتقد أن قاسم بك لو كان حياً لما رضي عن هذه الحال بل لانبرى لمحاربتها. ويحزنني أن أرى الكثيرين يسيئون إلى قاسم أمين إذ يحملونه المسئولية عن هذا التهتك وينسبونه إلى دعوته، فيدللون بذلك على أنهم يسيئون فهم الدعوة)

وصدقت السيدة الجليلة في قولها عن مقاصد قرينها الكريم وهي بها أدرى. فقد أراد قاسم عزة للمرأة تخرج بها من ذلة الجهل وفقد المشيئة، فإذا بها قد وصلت إلى ذلة أخرى أسوأ لها من الذلة الأولى، لأنها من طريق المشيئة والحرية التي لا تحسنها

فالعوارض التي نراها الآن إن هي إلا عوارض الضعف عن حمل الحرية قد أصيب بها النساء كما أصيب الرجال في المرحلة الحاضرة، وغاية ما نرجوه أن تكون مرحلة انتقال وراءها مراحل استقامة وصلاح

عدت إلى كتب أدبائنا منذ أسبوعين لأكتب عنهم في مجلة (الاثنين) فقرأت في فيض الخاطر للأستاذ أحمد أمين مقالاً عن حرية المرأة بين جيلين يقول فيه بلسان البنات وهن يخاطبن أباهن:

(يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سراً فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهراً، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حباً فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال: نعم. قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الروح ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها. فإننا نرى شبان اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كارادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا، فهم أحرار ونحن أحرار، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟)

والذين نراه أن شكوى الجيل الحاضر من مشكلة الزواج أعظم من شكوى الجيل الغابر الذي منه آباؤهم وأمهاتهم، فليست المسألة قوة إرادة من هذا الجنس أو من ذاك، ولكنها مسألة حرية لا يقوى على علاجها هذا ولا ذاك. وإن هان شأن الفتاة حيناً فإن شأن الفتى ليهون في حين آخر على حسب المناسبة العارضة أو على حسب قانون العرض والطلب الذي يتحدث به الاقتصاديون. ويغلب الهوان على الفتاة في المعترك الحاضر لأنها هي التي كانت مطلوبة فأصبحت معروضة أو طالبة فأصابها الرخص والهوان من طريق الحرية، وهو ما عنيناه بالذلة في طريق مشيئتها بعد الذلة التي أصابتها قديماً من فقد المشيئة. فإذا وقع الفتى في قيد الزواج فإنه ليشكو من زواجه أضعاف ما كان يشكوه أبوه وجده، ويحار فيه الحيرة التي لا مخرج منها إلا بالفرار أو الاصطبار

هي بلوى الحرية المفاجئة بعد بلوى العدوى الاجتماعية، وهي حالة جديدة تحتاج إلى (قاسم أمين) جديد يعالجها ويرفع العقيرة بالثورة عليها، ولا يكون في عمله إلا فاتح صفحة من الكتاب الخالد الذي فتح صفحته السابقة قاسم أمين قبل خمسين سنة. رحمه الله.

عباس محمود العقاد