مجلة الرسالة/العدد 515/السياسة التوجيهية العلمية

مجلة الرسالة/العدد 515/السياسة التوجيهية العلمية

مجلة الرسالة - العدد 515
السياسة التوجيهية العلمية
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 05 - 1943



في الأزهر

للأستاذ محمد محمد المدني

ذلكم أيها القراء هو عنوان المحاضرة التي حدثتكم عنها من قبل، وقد كان لهذه المحاضرة شأن لا أجد بأساً في أن أقص عليكم منه طرفا:

عجب الأزهريون أول الأمر حين سمعوا أن محاضرة بهذا العنوان سيلقيها أزهري في دار أزهرية، ثم عجبوا وازداد عجبهم حين علموا أن صاحب هذه المحاضرة هو فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمود شلتوت:

قالوا: هذا موضوع شائك دقيق ينبئ عنوانه عما سيقال فيه مما نعرفه ونشهد آثاره، ولا بد أن يمس الكلام فيه بعض أصحاب السلطان من قريب أو من بعيد، وأصحاب السلطان في كل زمان ومكان يرون أنفسهم في منزلة من السمو ليست لغيرهم: فهم لا يحتملون في أنفسهم ما يحتمله سائر الناس، ولا يصبرون على ما يصبر عليه سائر الناس؛ وهم يغالون فيما لهم من حقوق يجب أن تُرعى، ويغمضون عما للناس من آمال (ينبغي) أن تحقق؛ وهم يرون من حقهم أن يشكّوا في الناس إذا خالفوهم في سبيل الحق والواجب، ويرون من حسن السياسة أن يرفضوا النقد إذا كان صريحاً مسفراً، وأن يعرضوا عن النصح إذا لم يُلف لهم في أوراق من الورد والريحان! فأيّ أزهري يعلم ذلك ثم يعرّض نفسه لما يستلزمه الخوض في مثل هذا الحديث؟

فلما سمعوا اسم (شلتوت) قالوا: هذا أعجب وأغرب! ولم يكن عجبهم إلا لأن صاحب هذا الاسم صديق حميم لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، ونصير قوى لإصلاحه طالما دافع عنه، وأشاد به وأيده بقلمه ولسانه وبحوثه العلمية؛ وهو مع هذا وذاك وكيل كلية الشريعة، وعضو في مجلس إدارتها، بل هو عضو في جماعة كبار العلماء، فكيف يتكلم إذن في هذا الموضوع، وكيف يذكر حقائقه، ويعرض للناس وقائعه؟

عجبوا لذلك كله أول الأمر، وتساءلوا عنه في مجالسهم؛ ولكن هذا العجب لم يطل بهم كثيراً، فقد تأملوا الأمر من جميع جهاته وروّوا فيه فتبين لهم أن الذي أنكروا منه غير منكر، وحينئذ جرت الأحاديث بينهم على نحو آخر: قالوا: أن الكلام في هذا الموضوع، ولو كرهه بعض الناس، لا بد منه لمصلحة الأزهر ولمصلحة الثقافة الإسلامية العربية. فلو كان الأزهر معهداً من هذه المعاهد المتشابهة المتكررة لهان الأمر، ولجاز لأبنائه أن يجاملوا فيه أو يصانعوا، ولقال الناس: معهد من المعاهد إن ضاع ففي غيره عوض منه، ولكن الأزهر ليس كذلك، وإنما هو الجامعة الكبرى التي تعتز بها الأمة الإسلامية في مصر والشرق، بل يعتز بها العالم كله شرقيّه وغربيّه. هو الجامعة الفريدة في نوعها، القوية بتاريخها التي انحاز إليها تراث الفكر الإسلامي في أجيال بعد أجيال!

وقالوا: إذا كان (شلتوت) صديقاً (للمراغي) فذلك أقرب إلى نجاح دعوته، فإن كلام الصديق أيسر على السمع، وأدخل إلى القلب. وإذا كان (شلتوت) نصيراً للاصلاح، حريصاً على النظام القائم إلى درجة الدفاع عنه فذلك أنفى للتهمة، وأبعد من الشبهة. وإذا كان (شلتوت) متصلاً بالعمل، مكابداً لشئونه فذلك أدنى إلى القسط، وأهدى إلى الرشاد

فلتُقل إذن كلمة الحق، وليقلها (شلتوت) في صديقه ولصديقه، وليصدع بها عالية بريئة يبتغي بها وجه الله، وليؤثر الأزهر على صاحبه وعلى عاطفته في صاحبه، فإن الحق أحق أن يتبع، وإن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المؤمنين! ولقد كان ذلك فكانت هذه المحاضرة

ولست أريد في هذا المقال أن أثبت شيئاً من نصوصها، فقد سمعها الناس حين ألقيت، وقرأها الناس حين طبعت ونشرت، وإنما أريد أن أذكر أهم المبادئ التي اشتملت عليها:

لقد مهد فضيلة الأستاذ الكبير لموضوعه بمقدمة بين فيها الغرض من الأزهر وعرض لتاريخه العلمي من يوم أن انسلخت عنه الصبغة الشيعية التي أنشئ لتركيزها وتنميتها والقضاء بها على المذاهب الأخرى، ووصف العلل التي ورثتها عن ماضيه الطويل فصرفته عن التفكير والإنتاج وقصرته على غير النافع وغير المستقيم من عناية بالمناقشات اللفظية، وتقديس للآراء والإفهام التي دونها السابقون، واشتغال بالفروض العقلية والاحتمالات التي لا تقع، وباختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي، ومن تغليب لروح التعصب المذهبي، وتحريم لتقليد غير المذاهب الأربعة. . . الخ. وبعد أن فرغ من هذا التمهيد وأيد ما ذكره بالأمثلة العلمية أخذ يفيض في موضوعه بما يرجع إلى المبادئ الآتية:

(1) كانت أول صيحة أيقظت الأزهر من نومه، ونبهته إلى واجبه، هي صيحة الأستاذ الإمام المغفور له الشيخ محمد عبده. (فكانت مبادئه وأفكاره بمثابة شعاع انبثق في أفق الأزهر. انتفع به من انتفع، وازورّ عنه من ازورّ، ولكنه مع ما قوبل به من محاولات متعددة لإطفائه ظل قويا وهاجا يجذب إليه أنظار المؤمنين، وينفذ إلى بصائر المخلصين. . . وإن الأزهر لينتفع الآن في كلياته ومعاهده، وفي القضاء الشرعي والإفتاء، والوعظ والإرشاد بطائفة كبيرة من العلماء الذين تخرجوا في ظلال هذه النظم التي تستمد من إصلاح الشيخ عبده، لهم أثر واضح في حياة الأمة من جميع نواحيها)

وفضيلة الأستاذ المحاضر ينفي بهذا فكرة ربما فهمت من عبارة ذكرها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في مذكرته الإصلاحية التي وضعها في سنة 1928 إذ يقول في شأن النظم التي تقدمت إصلاحه: (وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه!)

(2) إن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي قد وضع في عهده الأول مذكرته الكبرى في إصلاح الأزهر (تلك المذكرة التي لا نعلم مثلها في تاريخ الأزهر - حديثه وقديمه - قوة وفهماً وإدراكا للعوامل المختلفة المحيطة بالأزهر، والتي جعلها برنامجه في الإصلاح المنشود، ودستوره الذي عاهد الناس على أن يسير على مبادئه في النهوض بالأزهر وإعلاء شأنه، وتحقيق آمال الأمة الإسلامية فيه) (تلك المذكرة التي علقت عليه الأمة من أجلها آمالها الكبرى في إعلاء شأن الدين وإنهاض أهله)

وهو يرى في هذه المذكرة رأياً معيناً في الكتب المعقدة (التي لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية)

ويرى فيما يختص بدراسة الفقه أنه (يجب أن يدرس دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة. . . الخ)

ويرى في دراسة التفسير كذا، وفي دراسة الحديث كذا، وفي دراسة اللغة العربية كذا. . . إلى غير ذلك مما سجله في مذكرته ولقد مضى على هذا الإصلاح أمد هو فيما يرى المصلحون غير قصير، ونحن مع ذلك لم نزل حيث كنا، وإن حدث اختلاف في بعض الصور والمظاهر:

(لم تزل كتبنا هي الكتب المعقدة التي لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية)

(لم نحاول أن نقرب للناس ولا لأنفسنا هذه الكتب، ولم نحاول أن نأخذ النافع منها لنعرضه عرضاً يروج عند أهل العصر)

(ولم نزل ننفق أوقاتنا الثمينة في المناقشات اللفظية، وفي خدمة نصوص المتون وعبارات المؤلفين)

(ولم نزل نشغل أنفسنا بالفروض الفقهية كما اشتغل بها السابقون. ولم نزل نحس ثقل العلم ولا نجد في أنفسنا اندفاعاً إلى تحصيله، ولا رغبة في المثابرة على طلبه. ولم نزل نحضر العلم حضوراً زمنياً لنقطع به أعوامنا الدراسية عاماً في إثر عام)

(ونحن لا نقرأ من المقررات إلا نسباً ضئيلة تافهة لا تكوّن ملكة ولا تعد تحصيلاً)

3 - يقرر المحاضر أن هذه الحالة المؤسفة هي حالة الأزهر الواقعية، وأن فضيلة الأستاذ الأكبر وجميع معاونيه يعلمونها فيقول (هذه حالتنا التوجيهية الواقعية، وهي حالة عامة تشترك فيها الكليات جميعها على اختلاف بينها في النسب، وهي مسجلة في التقارير التي تقدمها لجان الامتحان إلى الرياسة العامة إثر كل امتحان، وفيها يقول حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الأكبر: (وهناك أمثلة ظاهرة العوار في قراءة المقررات تعلمونها كما أعلم، وتشعرون بأنها أمثلة سيئة لا يجوز أن تبقى ماثلة) ولكنها مع ذلك بقيت ماثلة، وازدادت سوءاً

4 - يقرر فضيلة المحاضر (أن من المؤلم له أن يصرح في موقفه هذا بأن جهوداً كثيرة بذلت في سبيل إصلاح هذه الحالة، ولكنها لم تقابل بإخلاص ولا تضافر على تنفيذها، فماتت تلك الجهود، واستمرت هذه الحالة)

وهذا تصريح خطير من رجل مسئول. ولعل فضيلته يفصل للناس ما أجمله فيه حتى يعلموا: من هم المسئولون عن موت تلك الجهود!

5 - يقرر فضيلة المحاضر (أن العامل الذي وقف بالأزهر هذا الموقف لا يرجع إلى الطلاب ولا إلى الأساتذة، فإن هؤلاء جميعاً خاضعون لنظام يظلهم وتوجيه يوجههم. ولا يمكن أن يرجع إلى المناهج، لأن المناهج في جملتها قوية صالحة لتخريج نوابغ من العلماء في الفقه والتشريع وفي غير الفقه والتشريع) وإنما يرجع إلى أن الإصلاح لم ينفذ بالروح التي وضع بها، ولم يتعهد حتى يؤتي ثماره، ولم يتهيأ له ما ذكره فضيلة الأستاذ الأكبر في مذكرته الإصلاحية حيث يقول:

(يجب أن تكون الخطوة إلى ذلك الإصلاح خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ، وقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة)

ويقول فضيلة الأستاذ المحاضر: (وإلى أن تحدث هذه الخطوة الجريئة التي يقصد بها وجه الله، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ سيبقى الأزهر في عزلته عن الأمة، لا يسعفها بحاجتها، ولا تقدره في وجوده ولو سُنّ له ألف قانون!)

أما بعد:

فهذه هي المحاضرة التي وعدتكم بها - أيها القراء - كمثال من أمثلة الظاهرة الجديدة التي ظهرت في الأزهر هذا العام، وقد تبينتم منها حالة الأزهر الواقعية، وسياسته التوجيهية، ولو كان فضيلة الأستاذ الأكبر لا يعلم، أو كان مع علمه لا يرى أن يعمل، أو كان مع عزمه لا يقدر، لكان الأمر مفهوماً؛ ولكن فضيلته يعلم هذه الحالة حق العلم، ويعترف بها في أحاديثه وكتبه الرسمية، ويعد من يكلمه فيها بأنه سيتداركها ويسرع إلى إنقاذ الأزهر من سوء مغبتها، وهو مع ذلك كله مالك لأمره غير مغلوب عليه، تحترمه الأمة والحكومة ويعطف عليه المليك حفظه الله. أليس هذا موقفاً تحار فيه العقول؟ وهل يطلب منا أن نقول فيه كما يقول الراسخون في العلم عن المتشابه:

(آمنا به كل من عند ربنا)

لا. لا، ولكنا نقتبس ما اقتبسه الأستاذ الزيات حين نشر مذكرة فضيلته في إصلاح الأزهر فنقول:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا

محمد محمد المدني