مجلة الرسالة/العدد 516/أدباؤنا والمسرح

مجلة الرسالة/العدد 516/أدباؤنا والمسرح

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1943



للأستاذ دريني خشبة

أخذنا على مجلاتنا الممتازة، في كلمة سابقة، انقطاع الصلة بينها وبين الفنون المصرية الحديثة، وأكبر مظاهرها المسرح والسينما والغناء والموسيقا؛ ونريد في هذه الكلمة بحث العلل التي تصرف كبار أدبائنا عن التأليف أو محاولة التأليف، للمسرح المصري

والملاحظ في مصر اليوم تلك الحركة الطيبة في كتابة القصة، وإقبال القراء على القصة المصرية ذلك الإقبال الكبير المشجع الذي أوشك أن يكون منافساً خطراً لقراء القصة المترجمة. ولدينا ولله الحمد عدد لا بأس به من كتاب القصة المصرية الشائقة التي لا تقل رونقاً ولا بهاء عن القصة الأجنبية وإن لم تبلغ مرتبتها بعد في الطول ولا في التماسك ولا في الصبر على معالجة الأدواء الاجتماعية. . . ولا بأس من أن نسجل هنا أن جل كتابنا، إن لم يكن كلهم، أميل إلى كتابة الأقصوصة منهم إلى تأليف القصة، وقد بلغ بعضهم في ذلك حد الكمال، وهو ما يفخر به الأدب المصري الحديث

وقد يحار الإنسان في انصراف أدبنا هؤلاء عن التأليف المسرحي، وإمداد المسرح المصري بما يفتقر إليه من المسرحيات التي تساعده في شق طريقه بين مسارح العالم الناجحة المحترمة. ولعلنا سائرون في نهضتنا الأدبية الحديثة في مثل الطريق التي سار فيها الأدب الإنجليزي خاصة والآداب الأوروبية على العموم؛ فلقد لاحظ مؤرخو الأدب الإنجليزي أنه لم يتفق أن ازدهرت القصة إلى جانب ازدهار الدرامة في عصر ما من عصور هذا الأدب، ففي عصر إليزابث مثلاً كانت الدرامة هي التي تحتل المقام الأول في إنجلترا، بينما كانت القصة متخلفة نوعا ما. أما في العصر الفكتوري، فقد حدث العكس، إذ ازدهر أدب القصة، وغاض أو كاد يغيض الأدب المسرحي، حتى رد إليه برنارد شو وسير جيمس باري، وطائفة أخرى من الكتاب المسرحيين شبابه الذي ولى، ويتنبأ بعض مؤرخي هذا الأدب أن نهضة التأليف المسرحي الحديثة التي بدأها شو ونفخ فيها باري وجولزورثي وموجهام وكوارد، ومن إليهم دورة من هذه الدورات في تاريخ الدرامة والقصة، تلك الدورات التي تجري إحداها في إثر سابقتها حتى إذا حلت محلها لم تلبث أن تخلي لها الطريق ردحاً من الزمن لتعود إلى مسرح الحياة مرة أخرى، وهكذا دواليك. . .

ويعللون ذلك بروح العصر أولاً، وبما كان من تحريم التمثيل وإغلاق جميع المسارح الإنجليزية خلال الحروب الأهلية ثانياً؛ لكنهم لم يعللوه قط بكسل الأدباء، أو تكاسلهم، أو ازدرائهم للمسرح كما يخيل للإنسان أن يعلل كساد الإنتاج المسرحي عندنا، وتراخي كبار الكتاب في مصر في مد المسرح بما هو جد محتاج إليه من الدرامات بأنواعها. . .

وبعد، فلنكن صرحاء في تعليل عقمنا في الإنتاج المسرحي، هذا العقم الذي يضع أدبنا في مؤخرة آداب العالم بالرغم من تقدم فن القصة المصرية الذي لا يسع المنصف إلا أن يعترف به

فأول أسباب ذلك العقم هو تأخر الترجمة في مصر، وضآلة النقل الفني المسرحي، إن لم نقل انعدامه. . . ويحار الإنسان على من تقع جريرة تأخر الترجمة وضآلة النقل الفني المسرحي؟! أتقع جريرة ذلك على الأدباء المصريين ذوي الثقافة الأجنبية والبصر بمختلف آداب العالم! أم تقع على كلية الآداب المصرية؟ أم تقع على وزارة المعارف العمومية وإدارة الترجمة بها؟ أم تقع على دور النشر ولجان الترجمة والتأليف؟ أم تقع على أغنيائنا الذين يصمون آذانهم عن الحركات الأدبية في مصر؟ أم تقع على أمرائنا الذين لا يشملون بالرعاية (مساكين الأدباء) كما كان يصنع أمراء أوروبا في عصر النهضة؟

1 - على من تقع جريرة تأخر الترجمة في مصر؟ لا جرم أن شطراً كبيراً من تلك الجريرة يقع على عاتق الأدباء المصريين الذين لهم دراية كاملة بالتيارات الأدبية الحديثة في العالم كله. . . فأولئك الأدباء - وهم كثيرون جداً والحمد لله - يعلمون مما درسوا من آداب الأمم المختلفة أن لابد لكل نهضة أدبية في مدارج ارتقائها الأولى من لقاح أجنبي تستفيد به، وينير لها السبيل إلى الكمال، ويوقيها الوقوع في التجارب الفاشلة التي مرت بها الأمم الأخرى - وهم يعلمون كذلك أن الأمة التي لا مسرح لها لا أدب لها، مهما كثر عندها كتاب المقالات ومؤرخو الأدب العربي وناظمو القصائد والموشحات، فالمسرح اليوم عند جميع الأمم، وكما كان في معظم العصور، هو المظهر الأول من مظاهر النشاط الأولي عند أي شعب من الشعوب، وقد أسلفنا القول في كلمة سابقة أن نصف، أو ثلاثة أرباع الآداب العالمية هو أدب مسرحي صرف. فإذا كان الأمر كذلك، فإلى متى يا ترى نظل بأدبنا الحديث في مؤخرة آداب العالم؟. . . ليس معقولاً ولا مقبولاً أن يماري أحد في قيمة المسرح ومساسه بالتربية الشعبية، ومجرد المماراة في ذلك ضرب من الجنون أو النقص الذهني لا يليق بأمة ناهضة طامحة إلى الكمال. . . فلماذا لا يترجم كبار كتابنا مع ما لهم من الإلمام باللغات الأجنبية؟. . . إن الذي له دراية بأية لغة أوربية من اللغات الكبيرة يستطيع أن يقرأ روائع الآداب العالمية منقولة إلى تلك اللغة نقلاً يشبه الأصل إن لم يفقه جمالاً وروعة. . . فمتى يستطيع القارئ العربي الاطلاع على روائع آداب العالم منقولة إلى اللغة العربية؟ متى يستطيع أدباء الأزهر ودار العلوم وطلاب الثقافة العامة من جمهور القراء الاتصال بالأذهان العالية دون أن يتجشموا تعلم اللغات الأجنبية؟ متى يستطيع المسرحيون في مصر الاطلاع على تاريخ المسارح العالمية وروائعها وتراجم أبطالها، ومعظمهم على ما نعرف من الأمية والعجز والفقر الأدبي والثقافي؟. . . ثم ماذا يمنع كبار أدبائنا من الترجمة وأنا أعرف منهم أربعين أو خمسين على الأقل يستطيع الواحد منهم أن ينقل إلى العربية ثلاث مسرحيات كل عام على أن يشغل كل يوم ساعة، فإذا انتهى العام قدموا للقارئ العربي وللمسرح المصري مائة أو مائة وخمسين من روائع درامات العالم. فماذا تكون هذه الثروة الأدبية يا ترى؟ وماذا يكون أثرها في خلق النهضة المسرحية وتوجيهها في مصر؟. . . وأعود إلى التساؤل عما يمنع هؤلاء الأدباء الكبار من الترجمة؟ إني أجلهم عن أن يكون ما يحول بينهم وبين ذلك هو الكسل، أو التعلل بالعوامل المثبطة التي سنتناولها فيما بعد!

2 - أما نصيب كلية الآداب من جريرة تأخر الترجمة في مصر فهو كبير بلا شك، وإن كان في رأيي في المرتبة الثالثة أو الرابعة بعد نصيب الكبار من أدباءنا. فخريجو كلية الآداب ولا سيما خريجو أقسام اللغات الأجنبية. ما يزالون قلة في مثقفي هذه الأمة، ولست أريد أن أنتقص من أقدار هؤلاء الخريجين حين أقرر أن معظمهم ضعاف أشد الضعف في اللغة العربية، وأن كثيرين منهم - إن لم يكن أكثرهم - ينصرفون عن القراءة وإدمان المطالعة والاتصال بما أخرجته المطابع الأوربية، وما تزال تخرجه من روائع الأدب، والأدب المسرحي بوجه خاص. على أن كثيرين من هؤلاء الخريجين يجيدون أكثر من لغة أجنبية، كما يجيدون العربية إجادة تامة، فماذا يمنع هؤلاء من النقل المسرحي إلى اللغة العربية؟ إنهم أعرف من جمهور القراء بما نقوله هنا عن المسرح والأدب المسرحي، فهل الذي يحول بينهم وبين هذا العمل هو نفسه ما يحول بين كبار الأدباء في مصر وبين المسرح والدرامة المسرحية؟ على أننا نعفي من ذلك هيئة خريجي قسم اللغة الإنجليزية التي تنفي عن نفسها تهمة الكسل بما تقدمه لنا أحياناً من إذاعات تمثيلية جيدة وإن تكن مقتضبة. . .

3 - أما جريرة وزارة المعارف في تأخر الترجمة فهي بلا شك أعظم شأناً من جريرة كبار الأدباء ومن جريرة كلية الآداب؛ ومن المؤلم جداً أن يكون ذلك كذلك، وفي وزارة المعارف إدارة للترجمة يرأسها مدير مجد صبور على العمل، ويشرف عليها رجل ارتبطت به نهضتنا الأدبية الحديثة إلى حد بعيد، وكان من حسن حظ هذه النهضة أن يتزعمها من نحو عشرين عاماً. . . ذلك هو عميد الأدب العربي، ومؤلف (مستقبل الثقافة في مصر) ومستشار وزارة المعارف الفني. وقد يخيل لي أن الكلام هنا لابد أن يكون شائكاً لأنه يتناول الإدارة التي أعمل فيها منذ عهد قريب، ولذلك أعتذر مقدماً عن صراحتي التي جرّت عليّ كل مصائبي في هذه الحياة، لأني إن لم أكن صريحاً في الكلام عن هذه الإدارة فماذا أكون؟ إن إلواء الكلام لم يكن قط من سجاياي، وإن كان - قبحه الله - من أحسن فضائل العصر الحديث! وقبل أن أخوض في نقد المنوال الذي تسير عليه إدارتنا المحترمة أنقل للقراء ما يأتي من كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الذي ألفه الدكتور طه حسين بك. قال حضرته في الفصل الثالث والخمسين (جـ 2 - ص 496 وما بعدها): (وفي حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزي كما يصيبنا كثير من الجهل وما يستتبعه الجهل من الشر. ولا بد من إصلاحه إن كنا نريد أن ننصح لأنفسنا ونعيش عيشة الأمم الراقية. وإن كنا نريد أن ننصح للعلم نفسه ونشارك في ترقيته وتنميته. وإن كنا نريد أن ننصح للشعب فنخرجه من الجهل إلى المعرفة، ومن الخمود والجمود إلى النشاط والإنتاج. ومظهر هذا التقصير المخزي إهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية. . . إلى أن يقول. . . ونحن من غير شك أقل الأمم حظاً من الترجمة، وأقلها علماً لا أقول بدقائق الحياة العقلية الأوربية بل أقول بأيسر مظاهرها. . . وينشأ عن هذا أننا لا نترجم؛ وكيف نترجم إذا كنا لا نقرأ؟ وكيف نقرأ إذا كنا لم نثقف هذه الثقافة التي تجعل القراءة جزءاً مقوماً لحياتنا اليومية؟ وينشأ عن هذا خطر عظيم جداً وهو أن القارئين الكاتبين منا على قلتهم يجهلون الحضارة الحديثة جهلاً تاماً، لأن كثرة هؤلاء القارئين الكاتبين يجهلون اللغات الأجنبية جهلاً تاماً، ولأننا لا نترجم لها إلى اللغة العربية مالا تستطيع أن تقرأه في اللغات الأجنبية. . . ثم يقول. . . وقد قلنا غير مرة في غير هذا الحديث أن من غير المعقول أن تكلف كثرة القارئين الكاتبين في أمة من الأمم إتقان اللغات الأجنبية؛ فلا بد من أن تنتقل لها خلاصة هذه اللغات إلى لغتها العربية. ذلك حق لها على الدولة، وهو حق لها على المثقفين القادرين على الترجمة. . . إلى أن يقول: فلنترجم إذن ولنكثر من الترجمة، ولنبذل في ذلك أقصى ما نملك من الجهد وأكثر ما نستطيع من المال. وعلى الدولة المسكينة يقع هذا العبء كما يقع عليها كثير من الأعباء وقتاً طويلاً، لأن ظروف الحياة المصرية تقتضي ذلك وتفرضه فرضاً. وإذا كانت وزارة المعارف تمنح الإعانات لكثير من الجماعات والهيئات التي يُشك في نفعها، فلا أقل من أن تنشئ مكتباً للترجمة على أن يكون عمله منوعاً بعض الشيء، فينهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التي أصبحت تراثاً للإنسانية كلها والتي لا يجوز للغة حية أن تخلو منها. يترجم هذه الآثار لأغناء اللغة نفسها ومنحها ما تحتاج إليه من المرونة، ولإرضاء الكرامة القومية. . . ثم يقول. . . وواضح جداً أن هذا المكتب لن يستطيع وحده أن ينهض بهذه الأعباء الثقال، فلا بد من تشجيع المترجمين وإغرائهم بالمال. . . الخ)

وليس يخامرني شك في أن الدكتور طه هو أقدر الناس في التعليق على هذا الكلام الحماسي عن الترجمة ومكتب الترجمة الآن، فقد عبر، عندما كان يؤلف كتابه، عن أماني مصر والمصريين وعن حاجة النهضة المصرية إلى هذه الثقافة التي تعتمد - أول ما تعتمد على شيء على الترجمة، وعبّر عن حاجة اللغة إلى ما يغنيها حين ينقل إليها من اللغات الأجنبية ويكسبها المرونة اللازمة لها. . . ثم هو قد رسم المنهاج لمكتب الترجمة الذي هو ضرورة الضرورات لمد النهضة واللغة وجماهير المثقفين والقارئين الكاتبين بروائع الآداب العالمية وإن لم يستطع وحده أن يضطلع بهذا العمل. . . وها هي الأيام قد دارت ووقع اختيار الدولة على الأستاذ الدكتور ليكون مستشارها الفني في تطبيق برنامجه الحافل الذي رسمه في كتابه الجليل. . . والدولة - والله المحمود - سخية أعظم السخاء على جميع المشروعات الحيوية هذه الأيام، وقد بلغت ميزانيتها من الضخامة هذا العام مبلغاً لم تعرفه من قبل، فماذا صنع الدكتور لمكتب الترجمة؟ هل نال هذا المكتب بعض ما تناله قنطرة أو مصرف أو تطهير ترعة أو مدرسة إلزامية ولا أقول ابتدائية أو ثانوية؟ وهل أصبح هذا المكتب - الذي هو ضرورة الضرورات لنهضتنا الثقافية - من الأشياء التي لا نفكر فيها إلا ذلك التفكير الخلفي؟ وبهذه السرعة ننسى الأحلام التي يزخرفها لنا الخيال ونحن نؤلف؟ وهل يستطيع هذا المكتب ولما يبلغ أعضاؤه العشرة، أن يؤدي للنهضة حقوقها عليه؟ وهل العمل الذي فرض على هذا المكتب، والذي لن ينتهي في أقل من عشر سنوات هو من قبيل التنويع الذي أشار إليه الدكتور للنهوض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة؟ وأخشى أن يكون الدكتور قد نسى تلك المثل العليا التي كان يغازلها خياله الخصب وهو يكتب فصوله الشائقة عن الأدب والأدباء والترجمة والمترجمين والتمثيل والممثلين في كتابه الجليل. لقد كان الأجدر بإدارة الترجمة أن تكون شيئاً آخر غير هذا الشيء الذي لن تشعر به الأمة إلا بعد عشرات السنين. . . لماذا نفرغ إلى هذا العمل البطيء السلحفائي الذي يخمد الأنفاس ولا تعطي لنا الحرية في نقل روائع الآداب العالمية التي أشار إليها الدكتور في كتابه؟. . . إني لا أجادل في قيمة الموسوعة التاريخية التي ننقلها إلى العربية، ولكني أجادل في عدم الملائمة بين احتياجاتنا وبين أعمالنا. . . وليس يجادل أحد في أننا أحوج ألف مرة إلى روائع المسرح العالمية وروائع القصص العالمية منا إلى هذا التاريخ العام الذي يأتي دوره بعد أدوار الآداب المختلفة بمراحل شاسعة. فإن لم يكن بد من القيام بكل ذلك، فلنعن على الأقل بهذه الإدارة الضيقة (ولتبذل لها الدولة أقصى ما تملك من جهد وأكثر ما تستطيع من المال) كما يقول الدكتور في كتابه. أما أن نحلم بأشياء جميلة فتتاح لنا الفرصة في إنشائها فنوجدها ولا نوجدها في وقت واحد، فهذا من المتناقضات التي ينبغي ألا نقع فيها، كما يجب ألا تتبعثر جهود تلك الإدارة التي يرأسها أقدر رجال الترجمة في مصر فيما هو بالمحل الثاني أو الثالث مما نحتاج إليه أصلاً. إن الساعات الثمينة التي يقضيها شباب المترجمين يومياً في نقل هذه (الأضابير) التاريخية إلى اللغة العربية كانت تتيح لهذه اللغة عشرين أو ثلاثين درامة كل سنة من أروع الدرامات التي تمد المسرح والقراء في وقت معاً بثروة لا تعدلها ثروة

(للحديث بقية) دريني خشبة