مجلة الرسالة/العدد 516/كيف عرفت الرافعي
مجلة الرسالة/العدد 516/كيف عرفت الرافعي
للأستاذ محمود أبو رية
(ننشر هذه الكلمة بعد انقضاء ستة أعوام على وفاة أديبنا
الكبير مصطفى صادق الرافعي طيب الله ثراه، ونرجو أن
تكون تحية طيبة منا نقابل بها ذكراه، وآية صادقة على أنه
مهما باعدت بيننا وبينه السنون فأنا لن ننساه.)
(أبو رية)
رغب إليّ بعض إخواني من الذين يعرفون ما كان بيني وبين أديبنا الكبير مصطفى صادق الرافعي رضي الله عنه من وُصلة الصداقة، وما ربطني به من آصرة المحبة، أن أنشر بعض ما لدي من كتبه الخاصة التي كان يرسلها إليّ؛ فصادفت هذه الرغبة مني قبولاً وارتياحاً، لأنها من أمانيَّ العزيزة، التي كنت أود من قبل أن أقوم بها مع ما هو واجب عليّ أداؤه للناس في هذه الحياة لولا ما رمتني به الأقدار من مصائب في أولادي ومصاعب في حياتي حتى أصبحت ممزق القلب مشرد اللب لا أكاد أحسن عملاً أتولاه، ولا أجيد أمراً أقوم به
ولقد كان أشد هذه الضربات على تلك التي نفذت إلى صدر أكبر أولادي بعد أن تم دراسته العالية فخر منها صريعاً
وإذا كان نشر هذه الكتب سيكون فيه شيء من الخير للأدباء بما سيرون فيها من آراء أديبنا الرافعي وفتاواه في أغراض كثيرة من الأدب ورجاله، فإنه سيكشف لهم كذلك عن جوانب جديدة من أدبه وحياته لم يطلعوا عليها من قبل، ويعرفون كيف كان يكتب رسائله الخاصة التي تصدر في الغالب بغير أن ينالها تهذيب أو يصيبها تنميق، وإنما ترسل إرسالاً من عفو الخاطر وصفو الهاجس، وهذه ناحية لا يتم تأريخ رجال الأدب وأمراء البيان إلا بمعرفتها والاطلاع عليها
ولقد كنت أظهرت الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في بعض أحاديثي معه على هذه الأُمنية فرحب بها وطلب مني تحقيقها.
على أني رأيت أن أقدم لما سأنشره من كتب الرافعي كلمة أذكر فيها كيف عرفت هذا الأديب الحجة، والسبب الذي جعلني أتصل به ذلك الاتصال الذي نما حتى صار صداقة وثيقة امتدت بيننا أكثر من ربع قرن خلطني فيها بنفسه، واصطفاني لصحبته، حتى لقد كان يشاورني في خاص أحواله، ويظهرني على مكنون أسراره
وليس من همي اليوم أن أعرض لتاريخ هذه الصداقة، ولا يتجه قلمي لبيان ما كان لها من أثر وما كان فيها من خير لأن لذلك يوماً أرجو أن أبلغه
ترجع معرفتي بأديبنا الكبير إلى أوائل سنة 1912. ذلك أن الحرب الطرابلسية كانت حينئذ مستعمرة بين الترك والطليان. وكان الأمير الجليل شكيب أرسلان قد ألم بمصر في سفره مع بعثة الهلال الأحمر إلى طرابلس الغرب، وما كاد يحط بها رحاله حتى أشرق على الناس نور بيانه فاستنارت به الأندية واستضاءت به وجوه الصحف، وكنت يومئذ في صدر شبابي والأدب العربي قد غلب على حبه حتى أغرمت به غراماً؛ ولكني لم أكن أعرف كيف السبيل إلى دراسته ولا قرأت من مصادره إلا كتباً قليلة كان قد أشار عليّ بقراءة بعضها العالم الكبير محمد فريد وجدي بك حفظه الله.
ولما رأيت الأبصار قد اتجهت إلى الأمير شكيب أرسلان، وذكره قد استفاض حتى نفذ إلى كل مكان، وأن رجال الأدب قد ذهبوا في الإعجاب به إلى أن لقبوه بأمير البيان، دفعتني الرغبة المشبوبة بين جوانحي لدراسة الأدب إلى أن أتوجه له بكلمة أرغب إليه فيها أن يبين لي وللذين هم مثلي في هوى الأدب كيف يبلغون منه غايتهم، فأجابني حفظه الله بجواب طويل ملأ صدر العدد الذي خرج من جريدة المؤيد في 19 فبراير سنة 1912 وكان صدر هذه الجريدة يزين كل يوم بمقال ممتع من تحبيره في الأدب والسياسة؛ وكان المؤيد يقدم لكل مقال له بهذه العبارة: (لسعادة الكاتب العثماني الكبير صاحب الإمضاء) أما الأمير فكان يرمز لاسمه في أعقاب ما يكتب بهذا الحرف (ش) وقد ساق الأمير الجليل في هذا الجواب القيم الذي لازلت أحتفظ به وأعده من نفائس البيان نصيحة غالية لكل من يريد دراسة الأدب، ثم أنشأ بعدها يبين للناس طريقته هو التي اتخذها في دراسته. ولما عرض للمصادر والكتب التي يجب على كل أديب أن يقرأها أخذ يثني ثناء طيباً على كتاب (تاريخ آداب العرب للرافعي) وكان قد صدر يومئذ الجزء الأول منه، فكان مما قاله هذه العبارة البليغة: (لو كان هذا الكتاب خطَّاً محجوباً في بيت حرام إخراجه منه لاستحق أن يحج إليه، ولو عكف على غير كتاب الله في نواشيء الأسحار لكان جديراً أن يعكف عليه)
ومن ثم عرفت الرافعي وفضله ولم ألبث أن أقبلت على ما له من كتب أدرسها وأنتفع بها. وبعد انقضاء بضعة شهور على ذلك رأيت أن أجاذبه حبل المودة وكان ذلك في أواخر سنة 1912 ولكن أنى لي ذلك وأنا لا أعرف أين مكانه ولا بأي عمل يعمل؟ على أني استخرت الله وأرسلت إليه خطاباً جعلت عنوانه على القاهرة إذ ظننت أنه من أهلها وما كان أشد فرحي إذ تلقيت منه بعد أيام قليلة أول جواب وهذا الجواب مؤرخ 20 ديسمبر سنة 1912
وقد امتدت بيني وبينه بعد ذلك أسباب المراسلة طوال السنين التي صادقته فيها حتى بلغ ما لدي من كتبه أكثر من ثلاثمائة خطاب، منها نحو مائتين في شؤون أدبية وغير أدبية يصح نشرها كلها وإن كان في بعضها ما قد يؤلم بعض أدبائنا المعاصرين بما جاء عنهم فيها
أما سائر الكتب وهي أكثر من مائة فهي في أمور خاصة بي وبه لا يمكن نشرها ولا يصح إظهار أحد على ما جاء فيها.
(المنصورة)
محمود أبو رية