مجلة الرسالة/العدد 517/أدباؤنا والمسرح

مجلة الرسالة/العدد 517/أدباؤنا والمسرح

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 05 - 1943


2 - أدباؤنا والمسرح

للأستاذ دريني خشبة

تكلمنا في الكلمة السابقة عن السبب الأول من أسباب عقم الإنتاج المسرحي بين أدبائنا المصريين، وذكرنا أن هذا السبب الأول هو تأخر الترجمة في مصر، وضآلة النقل الفني المسرحي، إن لم يكن انعدامه. . . ثم وزعنا جريرة هذا التأخر فتكلمنا عن نصيب كل من كبار أدبائنا، وكلية الآداب، ووزارة المعارف ممثلة في إدارة الترجمة من هذه الجريرة. . .

4 - وتأتي بعد ذلك جريرة دور النشر، ودور النشر مع الأسف الشديد يملكها ويسيطر عليها تجار لا يعرفون للأدب طعماً ولا لوناً، ولا يفهمون منه إلا أنه مغنم لهم ومغرم على الأدباء المساكين، فهم دائماً يلقون في روع الأديب أن طبع كتابه مجازفة قد تجر على داره الخسارة إن لم يدع أنها تجر عليها الخراب والإفلاس، وأنه - أي صاحب الدار يريد أن يضحي والسلام، فإما أفلحت التضحية وإما (أهي خدمة للأدب والسلام!!) - والسلام الذي يتمشدق به هذا التاجر أو ذاك من أصحاب دور النشر هو السم الذعاف الذي يجرعه للأدباء. على أننا لا ندري لماذا تقف لجان الترجمة والتأليف والنشر من شباب الأدباء نفس الموقف الذي تقفه منهم دور النشر التجارية، مع ما تبذله الحكومة لهذه اللجان من المعونات المتواضعة أحياناً السخية أحياناً أخرى؟ ولا ندري أيضاً لماذا تتفشى روح البيرقراطية الأدبية بين السادة القائمين بأمر هذه اللجان؟ إن الشباب من الأدباء يداولون فيما بينهم ألواناً من الشكاوي التي لها ما يبررها بلا ريب، وقد أثبتت أحوالنا الأدبية أن مشايخنا الأدباء المصنفين لا يصلحون بحال للانتاج المسرحي لما صح من أنهم عاشوا أعمارهم الطويلة المباركة هذه ولم يلتفتوا قط إلى أهمية الأدب المسرحي بدليل أنهم لم ينتجوا فيه شيئاً قط ولم يترجموا له شيئاً قط. والذي لا شك فيه هو أن الشباب من الأدباء أقدر على هذا كله من أساتذتهم أدباء أمس الدابر. فإلى أن ينظم أدباء الشباب أمورهم يجب أن يتقدموا إلى الدولة بطلب المعونة التي تبذلها لمشايخ الأدباء، ولكن عليهم قبل ذلك أن يستعدوا. . . فلا يتقدموا لطلب هذه المعونة وأيديهم فارغة، وإلا أضحكوا الدنيا كلها عليهم. . . وإذا هم أقبلوا على نقل المسرحيات الأجنبية إلى اللغة العربية فإنهم بذلك يؤدون خيراً مزدوجاً لنهضة المسرح المصري أولاً ولأنفسهم ثانياً 5 - أما نصيب أغنيائنا من هذه المسئولية فنحن نكتب عنه، ثم نغضي، لأننا أعرف بالنتيجة، ولكنها فرصة طيبة للتكلم عن نصيب الأغنياء في بعض الأمم وفي عصور التاريخ المختلفة في إحياء النهضة الأدبية على العموم، والأدب المسرحي على الخصوص، ففي اليونان القديمة كان الشاعر من شعراء المآسي ينظم مأساته ثم لا يذهب إلى بيوت الأغنياء كي يبذل لديهم ماء وجهه ابتغاء أن يتولى أحدهم الإنفاق على إخراج هذه المأساة، وكان إخراجها يقتضي القناطير المقنطرة من المال، بل كان الأديب لا يلبث أن يذيع في الأوساط الأدبية أنه يوشك أن يتم مأساته التي نظمها في موضوع كذا حتى يتهافت عليه الأغنياء يعرضون العروض السخية لكي يتم لأحدهم شرف إخراج هذه المأساة. . . وإذا علمنا أن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس وبوريبيذز وأرستوفان (وعشرات غيرهم من رجال المسرح اليوناني) قد ألف أكثر من مائة مأساة أو ملهاة، وأن الدرامة الواحدة كانت تكلف الموسر الذي يتولى الإنفاق على إخراجها أكثر من ثلاثة آلاف من الجنيهات، عرفنا كيف كان أغنياء اليونانيين يجودون بملايين الجنيهات. ولا نقول بمئات الألوف - في سبيل تشجيع الأدباء والنهضة المسرحية في ذلك العصر اليوناني القديم - ولا يحسبن القارئ أننا ننفخ في كلمتنا هذه روح المبالغة بذكر تلك الأرقام التي كان سراة اليونانيين يسخون بها على مسارحهم وتيسير أحوال شعرائهم، فقد كان الشاعر ومساعداه ورجال الخورس - ويتراوح عددهم بين الخمسين والثمانين - يأكلون ويشربون ويسكنون ويقبضون أحسن الرواتب لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر حتى يتم إخراج الرواية على حساب هذا المثري كما كان يدفع لهم ثمن الملابس التمثيلية (أربعة أطقم لكل منهم) وأثمان الملابس التنكرية التي كانت مرتفعة جداً، فإذا بدأ التمثيل تولت الدولة الإنفاق على هؤلاء الممثلين وإعطائهم رواتب حسنة، كما كانت تسبغ على الشاعر أجزل المكافآت (غير راتبه الخاص)

كان هذا في اليونان من أربعمائة وألفين من السنين. . . أما في أوربا، فقد لقي المسرح ما يقرب من هذا التشجيع في جميع الممالك وفي فرنسا وإنجلترا خاصة. . . ففي إنجلترا مثلا كانت تتكون النقابات التمثيلية أو من أرباب الحرف المختلفة، وذلك بعد أن انتقل زمام التمثيل إليها من أيدي رجال الأكليروس في الطور الثاني من أطوار حياة المسرح الإنجليزية. وكان لكل طائفة من الصناع نقابتها التمثيلية الخاصة بها، فثمة نقابة للدباغين وثانية للسقائين وأخرى لتجار الأقمشة. . . الخ. وكان أصحاب رؤوس الأموال ومدير والمصانع ينفقون على هذه النقابات ويمدونها بالأموال الضخمة لما اضطلعت به من إخراج الروايات القديسية أو الكرامية فكانت النقابات بدورها لا تألو جهداً في الإنفاق عن سعة على الإخراج حتى تبلغ به حد الإتقان استعداداً للمواسم التمثيلية التي تشبه ما كان يقام منها عند اليونانيين القدماء في أعيادهم الدينية، والتي كانت تقام في الأعياد الدينية الإنجليزية أيضاً، مثل عيد الميلاد وعيد الفصح وأحد العنصرة وعيد الجسد أو القربان المقدس. . . الخ. وقد نالت نقابات بعض المدن شهرة كبيرة أدت إلى تنافس شديد بين المدن الإنجليزية كي يبز بعضها بعضاً في الكمال التمثيلي. وكان هذا التنافس الشديد سبباً في أن تضاعف النقابات، وبالأحرى الأغنياء من أصحاب رؤوس المال، ما ينفقون على فرقهم التمثيلية. . . فهذا اتحاد نقابات لندن ينافس اتحاد كوفنترى، كما ينافس اتحاد دبلن اتحاد يورك، وكما تتنافس شسنر ولاتكستر وبرستون. . . وهكذا كانت جميلة رائعة حرب السلام والفن والفكر والأدب هذه بين سائر المدائن الإنجليزية في فجر النهضة التمثيلية في القرن الرابع عشر. وأظرف من هذا التنافس بين المدن، التنافس المحلى الذي كان ينشب بين أحياء المدينة الواحدة لكي يفوز أحدها بتمثيل الرواية فيه دون الأحياء الأخرى، فكانت الأحياء تتبارى في إجزال العطاء لفرق النقابات كي تفوز بهذا الشرف، وكانت الفرق مطلقة الحرية في قبول العطاء الأسخى. وكثيراً ما كانت العطاءات تنيف على الخمسمائة جنيه للحفلة الواحدة، وكثيراً ما كان العرض يستمر لمدة ثمانية أيام متتالية للرواية الواحدة كما حدث في رواية (طوفان نوح) التي مثلت في إسخلين بلندن سنة 149 في عهد الملك هنري الرابع. فهاتان منافستان. ثم كانت هنالك منافسة من نوع ثالث بين المنازل نفسها، فالمنزل الذي يساهم في العطاء بأكثر مبلغ هو الذي يفوز بتمثيل الرواية أمامه، وكان أصحاب المنازل يتبارون من أجل ذلك في الدفع حتى كان أحدهم يدفع قرابة الخمسمائة جنيه حتى لا ينتصر عليه في مضمار المباهاة أحد أعيان الناحية!! وكانت أجور الممثلين والمنشدين مرتفعة جداً حتى كانت تصل إلى خمسة جنيهات عن الحفلة الواحدة وذلك بعملتنا الحاضرة، وقد كان ذلك سبباً في دخول الاحتراف المسرحي في إنجلترا. ولما حدث هذا الإقبال العظيم من الشعب على شهود التمثيل اضطرت النقابات إلى المؤلفين الذين ينتجون الروائع في سرعة فنشأ الاحتراف في التأليف أيضاً. غير أن مؤرخي المسرح الإنجليزي يقررون بكل أسف أن النقابات كانت تعتصر دماء المؤلفين بالثمن البخس، وكان عنصر الربا يدخل في المعاملة بينها وبين المؤلفين لتذلهم إذلالاً، وتربط حياتهم بها ربطاً محكما حتى لا تغر بهم النقابات الأخرى بالعطاء الأجزل. . . وذلك من قبيل ما تبديه دور النشر عندنا من جشع

ذلك بعض ما كان يسخو به الأغنياء الإنجليز لتعضيد المسرح وما كان يحدث أعظم منه في فرنسا، فمتى يصل هذا الصوت إلى أغنيائنا فيشاركوا في صناعة الذوق العام لهذه الأمة بإحياء المسرح المصري؟

6 - وإذا كنا نطمع أن يعضد أغنياؤنا الأدب المسرحي - وسيضحك القراء جميعاً حين يقرأون هذا الهذيان! - فنحن نطمع في أن يتشبه أمراؤنا بأمراء أوربا في عصر النهضة، وذلك بحماية المؤلفين ورعاية الأدباء المسرحيين بوجه خاص. فالأمير الذي يساعد مؤلفاً أو يوفر الراحة الذهنية لشاعر، إنما يقدم لأمته أثمن هدية في الحياة. . . إنه يقدم لها قلباً من القلوب النابضة، وقريحة من القرائح الخصبة التي تشيع فيها النشاط وترد إليها العزة. . . وكل من درس تاريخ النهضة وإحياء العلوم في أوربا يذكر أن هذه النهضة العجيبة التي عم خيرها جميع شعوب الأرض هي من صنع أمراء فلورنسا من أسرة دى مديشي تلك الأسرة التي كانت تنفق معظم أرباحها التجارية في شراء الكتب والمخطوطات مهما كانت أثمانها عالية باهظة، كما كانت تحمي العلماء والأدباء ورجال الفكر، والتي أنشأت في فلورنسا تلك الأكاديمية الفلسفية لدراسة آراء الفلاسفة الإغريق فكانت أول منارة شع نورها في ظلمات أوربا السادرة في الجهالات. وستظل أسماء كوزيمو وحفيده لورنزو وابن لورنزو الثاني جيوفاني دىمديشي كواكب ساطعة على الزمن في سماء النهضة العالمية، فإليهم يرجع الفضل في إحياء التراث اليوناني الخالد من فلسفة وأدب، وذلك بما أنفقوا من حر مالهم في سبيل الحصول على مخطوطات أفلاطون وآرسطو وأدباء المسرح اليوناني القديم، مما قدره علماء الببليويلزم (جمع الكتب والمخطوطات القديمة) بملايين الجنيهات

كذلك يعلم كل من درس تاريخ النهضة ما كان لأمراء بافاريا وغيرها من الولايات الجرمانية من فضل على النهضة الألمانية. وكان لحماة الأدباء من لوردات إنجلترا أكبر الأثر في رعاية المسرح الإنجليزي، وكل من له معرفة بشكسبير يعلم تلك الصلة الخالدة التي كانت بينه وبين هنري ريوتسلي (إرل أوف سوثمبتون). الحق. . . أنه قد آن أن يكون للوطن حق معلوم في الأموال المصرية التي تفتقر إليها العبقريات المصرية. ولن تنسى مصر تلك اليد التي أسداها إلى الفنون الرفيعة واحد من أبر أمرائها

وبعد، فقد أطلنا القول في أسباب تأخر الترجمة وما جرت إليه من تأخر الآداب المسرحية في مصر، وما أدى إليه ذلك من فقر الأدب العربي الحديث بالقياس إلى آداب الأمم المتحضرة، إذ نكاد نكون الأمة الوحيدة - بين جميع الأمم - التي ليس لها أدب مسرحي تقريباً.

ومن أسباب عقمنا في الإنتاج الأدبي المسرحي هذا التهيب الذميم الذي نتناول به تاريخنا الديني والسياسي. والمدهش أن الأدباء إنما يخشون رجال الدين وما عساهم أن يحدثوا من ضجة إذا هم وضعوا درامات مشتقة موضوعاتها من أحداث التاريخ الإسلامي، وما أروع أحداث هذا التاريخ! وهذا الذي يخشاها الأدباء في مصر، حدث ضده في تاريخ المسرح الأوربي الحديث، فقد نشأ التمثيل أول ما نشأت أوربا في الكنائس والبيع، وكان الأحبار والقسيسون والرهبان والعرفاء هم الذين ابتدعوا الدرامات الإنجيلية والدرامات الكرامية وأخذوا موضوعات النوع الأول من الكتاب المقدس مع المحافظة على حرفية القصص، كما أخذوا موضوعات النوع الثاني من خوارق القديسين ومعجزات الأنبياء وكرامات أهل التقى والورع. ولما رأى رجال الدين إقبال الشعب على شهود تمثيلياتهم الدينية هذا الإقبال فكروا في تنشئة صبيان البيع على هذه الصناعة الجديدة فكان الاحتراف في التمثيل، وبذلك وجد عمل شريف عظيم لهذه الكثرة من رجال الدين - غير المتفقهين - ممن عندنا منهم آلاف مؤلفة احترفت قراءة القرآن بأبخس الأثمان على المقابر والمزارات وفي المنازل والمتاجر للتبرك مما يستنكره ديننا وتأباه كرامة الإسلام وتألم له روح نبينا العظيم ويبغضنا الله من أجله. . . فلو أن الذي حدث في أوربا حدث بعضه عندنا لخلصنا من هذا الخرى المنتشر بيننا مما جعلنا أمة جنائزية عجيبة الأحوال. . . وإذا كنا نحرص على عدم تمثيل شخصيات الرسل الكرام توفيراً للوقار الذي ينبغي لهم، مع أن القصص العظيم الذي جاء به القرآن هو أسمى ألوان القصص التمثيلي الذي تندق دون تقليده أعناق المقلدين، فما بالنا جعلنا الانصراف عن ذلك عاماً بحيث شمل جميع الموضوعات الدينية والشخصيات الدينية؟ إن في سير صحابة الرسول الكريم آيات من القصص التمثيلي لو عرفنا كيف نبرزها عن المسرح لتوفرت لنا مئات من التمثيليات الرائعات التي تزري بما هو نوعها عند الأمم الأخرى. . . وأقول مرة أخرى إنني وأنا أكتب ذلك الكلام الآن ألمح هذه الابتسامات الساخرة ترقص على بعض الشفاه التي لم تشد قليلاً ولا كثيراً من تاريخنا الإسلامي - على أنها شفاه جاهلة لا تزن ما للدين من أعمق الأثر في توجيه الأمة المتدينة - على أنني أيضاً لست أريد أن نبدأ في نهضتنا المسرحية من حيث انتهت أوربا، وإلا تكون دعوة إلى نكسة لا تليق بنا، لكنني أرى استغلال الروائع العظيمة من سير الصحابة الذين يجلهم الشعب في إيجاد مسرحيات دينية تمس روح الشعب الدينية وتلعب على أوتاره الحساسة في سبيل النهوض به وهدايته إلى مثله الأعلى الذي يرفعه إلى منازل العز والسؤدد الأخلاقي. يجب أن نفهم روح العصر ونتخذ الوسائل المستحدثة في الوصول إلى روح الجماهير، ويجب ألا نتخلف عن موكب الإنسانية فنتخذ وسائل عقيمة غير التي يتخذها هذا الموكب وإلا كنا شذاذاً - ويجب أن نصنع ذلك ما دام لا يناقض ديننا. . . إن رواية القصة على الأسماع ليس له من السحر في النفس والأسر في القلب ما تحدثه مشاهدتها على المسرح تتحرك شخصيتها، وتتحرك وقائعها، وتتحرك مشاهدها، فتثبت في الذاكرة إلى الأبد. يجب ألا نكون أميين فنفسد آذاننا عن هذه الحقائق

دريني خشبة