مجلة الرسالة/العدد 519/المرأة والفن

مجلة الرسالة/العدد 519/المرأة والفن

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1943


للأستاذ عباس محمود العقاد

ليس أكثر من المرأة في هذه الدنيا

وليس أخطأ ولا أضل مع هذا من الكلام عنها بين الرجال والنساء على السواء

كأنهم يتكلمون جميعاً عن (عينة) نادرة في بقعة من بقاع الأرض النائية، أو عن بقية من مخلفات العصور الأولى في قارورة مغلقة عليها، أو كأنما هذه المرأة التي نحسبها آدمية - كما قال بعض العلماء - إن هي إلا أنثى حيوان داثر تغلب عليه الإنسان وانتزعها منه لفاقة أصابته في نسائه. وليست هي في النوع الإنساني بالأنثى الأصيلة فيفهمها الرجل وتفهمه كما يتفاهم الزوجان من جنس واحد

وسر هذا الخطأ والضلال فيما نرى هو أن المرأة خلاصة الحياة الحسية كلها، فلا محيص من الخطأ فيها إذ لا محيص في الحياة الحسية من التجدد والتناقض، ومن رؤية الشيء الواحد على شتى الوجوه، حسبما تعرضه لنا المناسبات والطوارق التي لا يضبطها عنان

ومن أكثر الأهداف عرضة للخطأ في موضوع المرأة كلام الناس عن نصيبها من الفنون الجميلة ونصيب الفنون الجميلة منها. نلمح ذلك كلما كتبنا عن المرأة ووحي الفن، أو المرأة وحقيقة الجمال، أو المرأة والشعر والشعراء، ولمحناه في العهد الأخير بعد مقالنا في الرسالة عن (بيفردج والمرأة) حيث نقول إن النساء روائيات مجيدات وشاعرات مقصرات؛ لأن الشعر ابتكار واقتدار على الإنشاء، وليست المرأة مشهورة بالابتكار حتى في صناعاتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الملابس والتزيين، وزدنا فقلنا: إن الشعر وأساسه الغزل (هو وسيلة الرجل لمناجاة المرأة، وقد تعودت المرأة بفطرتها أن تكون مطلوبة مستمعة في هذا المجال. فهي لا تحسن الشعر كما يحسنه الرجل، وعلى هذه السنة تجري جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعى أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء

قلنا هذا فلم نر أكثر من المستغربين أن تكون المرأة عالة على الشعر وهي مصدر وحيه إلى الشعراء فيما يقولون. مع أن المسألة هنا مسألة واقع محسوس وعلة معقولة، وليست مسألة فروض أو مذاهب تفكير. فنحن نقول: إن إجادة المرأة للشعر نادرة في آداب الأمم قاطبة، فمن شك في ذلك فعليه أن يذكر أسماء الشواعر الكثيرات اللوائي يكذبن ما نق ندرتهن في الآداب العالمية. فأين هن أولئك الشواعر الكثيرات المجيدات؟

لا يزدن على الأربع أو الخمس عدًّا في آداب العالم من قديمها وحديثها. وفي إجادتهن للشعر مع هذا شك كثير يطول فيه الخلاف، وإن بطل الخلاف في إجادتهن فأيسر الأشياء أن ترد هذه الإجادة إلى شذوذ في بعضهن يلحقهن بالرجال، ولا يقصرهن على طبائع النساء

ونحن نقول إن علة القصور الذي يلاحظ على المرأة في ميدان الشعر أنها لا تحسن الابتكار والإنشاء حتى في صناعاتها الخاصة بها كالطهي وصناعة الأكسية والزينة. فمن شك في ذلك فعليه أن يقول لا: بل تحسن المرأة هذه الصناعات ولهذا تتقدم الطاهيات على الطهاة، وتتقدم مخترعات الأزياء على مخترعيها، وتتقدم المشتغلات بالتجميل على المشتغلين به، ولا سيما في العصر الحديث

فهل يقول ذلك القول أحدٌ وله سند من الواقع الذي نراه كل يوم؟

إن الواقع الذي نراه كل يوم هو أن الطهاة المقتدرين أكثر جداً من الطاهيات المقتدرات، وإن اختراع الرجال للأزياء وأدوات الزينة أكثر جداً من اختراع النساء، وإن معاهد التجميل لا تعتمد على فنون النساء كما تعتمد على فنون الرجال. ولو انعكس الأمر لما كان عجباً للوهلة الأولى مع المتبادر إلى الأذهان من اختصاص المرأة بهذه الصناعات.

ونحن نقول إن الشعر أساسه الغزل، وإن الغزل من عمل الرجل وليس من عمل المرأة. لأن المرأة خلقت مطلوبة تستمع النداء فتجيبه، وسنتها هذه هي السنة التي تجري عليها جميع الذكور في أنواع الحيوان حين تسترعي أسماع الإناث بالغناء أو الهتاف والنداء

فمن شك في ذلك فسبيله أن يقول لا: بل هناك باب من الشعر هو أحق من الغزل بأن يكون أساساً للشعر كله، وهو أقرب إلى ملكات المرأة منه إلى ملكات الرجل

وسبيله أيضاً أن يقول لا: بل الإناث هي التي تدعو الذكور وليست الذكور هي التي تدعو الإناث

فأما والقول بذلك بعيد التصديق بعيد المرجع والبرهان فليكن الواقع إذن عمدتنا من نصيب المرأة من الفنون، ولا يكن عمدتنا الفرض والظن والجدل الذي يحيط بالفروض والظنون

والواقع ينتهي بنا إلى حصر الفن الأنثوي في مجالين اثنين نصيبهما من التقليد والمحاكاة أكبر من نصيب الابتكار والإنشاء، وهما مجال الرواية ومجال التمثيل

أما الرواية فالذي نرجو كما قلنا: (إن المرأة تحسن كتابتها لأنها مطبوعة على الفضول والاستطلاع والخوض في أسرار العلاقات بين الرجال والنساء والإطالة في أحاديث هذه الأسرار مع الاشتياق والتشويق، وهذا كله معدن الرواية الذي تصاغ منه، وهو جوهر من جواهرها قد يغنيها عن المزايا الأخرى من تحليل وتعليل وإبداع، في الوصف والتمثيل)

وأما التمثيل فالإجادة فيه قائمة على قدرتين أو على نوعين من القدرة لا على نوع واحد: قدرة الخلق والإنشاء كأنما يخلق الممثل حياة بطله مستمداً لها عناصر الخلق من حياته. فهو لا يحاكي رجلاً بعينه رآه أو قرأ وصفه وعرف سيماه من الصور والتماثيل، وإنما يعمد إلى صفات هذا الرجل فيفرغها في بوتقة من حسه وخياله ويخرجها من هنالك إنساناً حياً جديداً لا موضع فيه للمحاكاة والتقليد

والقدرة الأخرى هي قدرة التقليد والتصنع وسهولة اتخاذ المظاهر والألوان على حسب الدواعي والبيئات، وهذه القدرة في المرأة على أوفى نصيب، فهي مطبوعة على التصنع والمداراة وإظهار الحب في موضع البغض والتمنع في موضع الإقبال، وهي تتلقى الأحاسيس التي توائم طبيعة الأنوثة لأنها مستغرقة في الحس طوال حياتها فلا يجهدها كثيراً أن تحضر على المسرح إحساساً من الذي جربته أو تقدر على تجربته في عالم الحقيقة

ولهذا نبغ في العالم روائيات وممثلات، وإن لم يعرف عن ممثلة نابغة أنها خلقت دوراً من محض خيالها وتفكيرها كما يتفق لنوابغ الممثلين من الرجال

أما الشعر فلم يكثر فيه نبوغ النساء لما قدمناه من الأسباب، بل هن لم ينبغن فيه حتى فيما هو أقرب إليهن وأحرى أن يتفوقن به على الرجال

خذ مثلاً لذلك شعر الرثاء وهو أقرب إلى المرأة التي تطيل الندب والعويل على موتاها. فهل في آداب العالم كله شاعرة راثية تفوق بالرثاء طاقة الشعراء من الذكور!

الخنساء التي يضربون بها المثل بين الشواعر لا تخرج من ديوانها بأكثر من أبيات متفرقات في بكائها على أخيها قلما ترتقي إلى منزلة الشعر الجيد السيار، وما عدا ذلك من قصائدها العديدة فكله تكرير وترديد وإعادة وإبداء في معنى واحد، بل في ضرب من القول واحد لا يصح أن يقال عنه إنه معنى من معاني القريحة والخيال

وعلى إدمان المرأة البكاء والرثاء لم توجد قط راثية بلغت في هذا الباب ما بلغه رجل كالشريف الرضي في رثاء أمه، أو رجل كابن الرومي في رثاء أولاده، أو رجل كالمعري في رثاء أصدقائه، سواء رجعنا إلى وصف الشعور أو إلى معاني الحكمة ومعارض الاعتبار

وإذا كان هذا شأن البكاء والرثاء فما بالك بالمطالب الأخرى التي لا تقترب من طبائع المرأة هذا الاقتراب

وقد يظن أن التصوير مخالف للفنون الأخرى في هذا القياس لأن النقش والتطريز من معدن واحد على ما يخيل إلى بعض الناظرين، وللمرأة حظ من إجادة التطريز والوشي قد تضارع به حظوظ الرجال في هذه الصناعة الآلية

ولكن الحقيقة بعيدة مما يتخيله هؤلاء الناظرون، لأن التصوير كالتمثيل يعتمد أيضاً على نوعين من القدرة لا على نوع واحد، وهما الخلق والتقليد

فأما التقليد فهو لا يعدو صبغة الألوان وظاهر الأشكال، وقد يتاح للمرأة أن تجيد نقل الألوان ومحاكاة الأشكال فيقال إذن إنه تطريز بالريشة يجري على منوال التطريز بالإبرة ولا يزيد

وأما الخلق فهو صوغ المرئيات في بوتقة النفس والخيال ثم إعادتها على اللوحة صورة نفسية خيالية ليس نصيب العين منها إلا نصيب الأداء والإبلاغ

وهذا هو الجانب الذي لم تنبغ فيه المرأة بين المصورين، ولا نحسب أننا عرفنا مثلاً هاماً من الأمثلة الدالة على إجادتها فيه

وفحوى هذا جميعه أن المرأة موضوع حسن للفن وأهله، وأنها قد توحي إلى أهل الفن معاني يرتفعون بها إلى مراتب النبوغ، ولكن الموضوع لا يخلق شيئاً إلا بخالق، ولو جاز أن يكون إيحاء المرأة للفن حجة على نبوغها الفني لجاز كذلك أن تنبغ البساتين والبحار وكواكب السماء مثل هذا النبوغ

واستحضار هذه الحقيقة لازم جد اللزوم في عصرنا هذا، لأننا نسمع المذاهب الاجتماعية حولنا تمارى على حسب أهوائها ومراميها في تقويم الجنسين بين قائل بالتشابه الكامل وقائل بالفوارق والمزايا التي يقتضيها توزيع العمل واطراد الخلق في طريق التخصيص والامتياز، ورأينا نحن أميل إلى هذا المذهب القائل بالفوارق والمزايا، لأنه الحق الواضح أمامنا، ولأنه العدة التي ندرع بها أذهاننا للقاء فوضى المذاهب التي فيها الضير أكبر الضير على المجتمع الإنساني وخلائق الإنسان

عباس محمود العقاد