مجلة الرسالة/العدد 52/في الريف

مجلة الرسالة/العدد 52/في الريف

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1934



بقلم عبد الرحمن فهمي

ليسانسييه في الآداب

إذا أردت أن تمتع النفس بجمال الطبيعة فانك لست واجداً هذا الجمال في المدينة لأنها دائمة الصخب والضجيج، مشتبكة المصالح العامة والخاصة بشباك يتعذر على المرء الولوج منها إلى حيث الحرية الطبيعية التي وهبها الله عباده. ولا شك أن المدينة أحد العوامل التي أرخت ظلها الثقيل على جمال الطبيعة في المدن. بل إن هذه المدينة نفسها هي التي اضطرت ابن الطبيعة إلى أن يعقها إرضاء لشهوة المدة، حتى إذا سئم حياة المدينة - وسرعان ما يملها لأنها حياة مضنية للعقل والجسد - تطلع إلى الطبيعة وارتمى في أحضانها إلى أن يرتوي ببهائها.

وجمال الطبيعة في مصر يتجلى في الريف والصحراء والبحر بصورة جلية واضحة، وقد ذقت لذة الجمال في كل فطبت نفسا بهدوء الريف وسذاجته، وأخذتني روعة الصحراء ورهبتها، ورقصت مع أمواج البحر وأعجبت بعظمته، ولكني لم ألق جمالاً أكثر تأثيراً في النفس مثل جمال الريف الطبيعي.

ولا عجب إذ تراني أقضي بعض أوقات فراغي في قريتي بالمنوفية وهي قريةغيرة بحجمها كبيرة بتاريخها، ومن أبنائها العالم الكبير، والوزير الخطير، والمدير القدير، ونسبة المتعلمين فيها طيبة. فإذا حللت بها نسيت كل شئ إلا الجمال: فهذه حقول واسعة تتزيا في كل موسم بلباس خاص قد يكون أخضر سندسياً مسترسلاً موشى بالأبيض اللامع والأصفر الفاقع في موسم البرسيم الجميل، وقد يكون ذهباً براقاً عندما تنضج سنابل القمح والشعير إيذاناً بالبركة والخير الجزيل، وقد يكون أبيضافياً عند ظهور وبر القطن ثروة القطر وأمل الجميع، وقد يأبى هذا اللباس إلا أن يكون ذا خطوط متقاطعة أو متوازية عند إطلاق الماء في المصارف قبل أن ينبت الزرع. وهذه دور ساذجة تقرأ فيها أخلاق القروي من بساطة العيش ووداعة النفس وشئ من الدهاء مقرون بالسذاجة، ونوع من الإهمال ممزوج بالجهل، يشرف على هذه الدور جميعاً، مئذنة مسجدغير ينبعث منها كل وقتلاةوت مسترسل عذب يدعو المؤمنين إلى ربهم.

ويعجبني جمال الخلق الذي عفا معظمه في المدن، فالفضيلة لا تزال محافظة لكيانها في القرية، فلا بغاء ولا فحش، ولا يمكنك أن ترى قروياً ثملاً في أحد طرق البلدة، بل إن أغلب القوم متمسكون بالعروة الوثقى. والشرف ظاهر في جوانب الحياة، والكرم والسخاءفتان ملازمتان للقروي والقروية.

توقظك في الصباح الباكريحات الديكة المتناوبة، وزقزقة العصافير المرحة، فإذا أطلّت الشمس من خدرها مؤذنة الحياة والكد والعمل، خرج الفلاحون من دورهم إلى حيث انعامهم فجهزوها ورووها بالماء وقادوها إلى العمل طوال النهار، ويعطف القروي عليها ويحنو، عطفاً كبيراً وحنواً زائداً، ولا عجب فهي ذراعه اليمنى التي يعتمد عليها في حياته، تطعمه وتهيئ أرضه للزرع.

ينعم الفلاحون في الحقل بكثرة العمل ونقاء الهواء وضوء الشمس إلى أن يؤذنهم غروبها بوجوب العودة إلى دورهم وهم في ذلك أيضاً أول ما يعنون به بهائمهم يقودونها إلى حضائرها وينثرون أمامها التبن والفول أو البرسيم والعشب، أما هم فتمد لهم ألوان الطعام على الأرض وهو طعام دسم كثير وهو الوجبة الوحيدة التي يعتمدون عليها في غذائهم فضلاً عن وجبة أخرى أو وجبتين من الخبز والجبن المخزون.

وفي العشية والمساء يجتمع أهل القرية جماعات في البيوت أو خارجها على المصاطب يتسامرون، أو يهيئونفقة بيع أو يتفقون على ري قطعة من الأرض بعد قطعة، أو يصلحون بين متخاصمين وتلحظ عليها جميعا روح المعاونة والحب.

وعلى ضفة النهير الذهبية برملها المبلور اللامع ترى الفتيات النواهد الحسان كلهن في جلابيبهن السوداء قد بدون سافرات الوجه في زينة طبيعية جميلة، وما أجمل الوجه القروي الناعم الذي لم تعمل فيه يدناع! وقد حملن فوق رؤوسهن الجرار، هذه تغسل جرتها وقد ارتسم جسمها الجميل علىفحة الماء الصافي، وتلك تغترف من الماء ما هي في حاجة إليه، وضفة النهر في هذه الفترة من كل يوم في نظري ناد لأولئك الفتيات يتقابلن فيه ويتحدثن عنده ويستعرضن يومهن الذي خلا، وقد يغنين بصوت متناسق جميل أناشيد قروية طريفة:

وأظهر ما تلحظه في القرية اليوم نوع من الركود المالي، فبعد أن كانت عقب مواسم الحصد نشطة بحركة بيع المحصول بالأثمان العالية أصبحت متأثرة بالأزمة، فأسعار رزق الفلاح رخيصة، وديونه كثيرة، وموارده قليلة، وقد نتج عن هذا هجرته إلى المدينة باحثاً عن عمل يلقى منه أجراً يومياً أو راتباً شهرياً.

وتقام في القرية رغم هذا سوق أسبوعية تعرض فيها أنواع التجارة فيبتاع القرويون ما هم في حاجة إليه من أقمشة أو بضاعة. ويبيعون ما هم في غنى عنه من الغلال أو الطيور أو الزبد. ويفد إليها كثير من أبناء القرى المجاورة يبتاعون ويبيعون.

ومنذ بضع سنوات لم يكن بالقرية محطة للسكة الحديدية، أو دار للشرطة، أو بكتب للبريد والبرق، وإنما كان المسافرون يحتملون عناء السفر بركوب ظهور الدواب ومتن النهر إلى أن يصلوا إلى محطة بعيدة يستقلون منها القطار، وكان ساعي البريد الجوال يصل إلى القرية كل يوم على حماره فينفخ في بوقه فيهرع القوم إليه ويقرأ عليهم الأسماء فيتناول منه كلاحب رسالة رسالته، أما اليوم فأسباب المواصلات موفورة.

ويثلجدرك بعض الشيء أن ترى بالقرية اليوم مكتباً للتعليم الإلزامي، وفكرة ناضجة في النفوس عن خطر الأمراض لا سيما (الرمد، والبلهارسيا، والانكلستوما) وغيرها، ورأيي أن أفضل ما تقوم به حكومة مصرية هو ترقية شئون الفلاح وأحوال القرية، لأن الفلاحين هم كثرة سكان مصر، ولأن القرية مما مورد ثروة البلاد الأساسي.

عبد الرحمن فهمي