مجلة الرسالة/العدد 520/تشارلز دكنز

مجلة الرسالة/العدد 520/تشارلز دكنز

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1943



مواهبه وخصائص فنه

للأستاذ محمود عزت عرفة

حلم. . . يتحقق

كان جمال الطبيعة وفتنة المناظر في الطريق بين بلدتي شاتهام وجريفسِند مما يملك لب الصغير (تشارلي) ويستثير عنده أدق الأحاسيس بالجمال. وكان أحب شيء عنده أن يقف ويستوقف أباه لدن هذا الصرح الممرد القائم على قمة الربوة. . . صرح جادْزْهيل؛ حيث كان يربض فيما مضى قاطع الطريق فالسْتاف مع رجال عصابته ليسلب المسافرين والمنقطعين؛ وحيث تنبسط اليوم على مدى البصر السهولُ الآمنة الخضر والمروج الأواهل الفيح

قال الوالد الفقير المثقل بأعباء الحياة لطفله ذات يوم، وهو يحاول أن يبعث في قلبه الصغير بصيصاً من الأمل:

أترى هذا القصر الأنيق يا تشارلي؟ إنك لتستطيع أن تكون مالكه يوماً ما، إذا أنت أخذت نفسك منذ اليوم بالجد والدأب، وسلكت في حياتك مسلكا ناجحاً شريفاً حتى تنال ما ينبغي لك من الجاه والثراء جميعاً. . .

وما من شك في أن الأب كان يرتاب في إمكان تحقيق هذا الأمل الذي داعب به مشاعر غلامه؛ ولكن مشيئة القدر، وانطواء الزمن تلو الزمن كانا كفيلين بتحقيق هذه الأمنية النفيسة، في جملتها وفي تفصيلها. فقد جد تشارلز ودأب، وسلك في حياته سبيلاً ناجحاً شريفاً، ونال الجاه والثراء جميعاً. . . ثم امتلك قصر جادزهيل بمروجه ومزارعه، وقضى في رحابه أجمل أيام حياته. ولكن لم يتم له ذلك إلا في أعقاب أربعين سنة كاملة تجرع فيها كؤوس الآلام مترعة دهاقا. . .

لم يكن تشارلز من مواليد شاتهام وإنما انتقل إليها مع والده وهو في الرابعة من عمره؛ وكان مولده في لاندبورت بجزيرة بورت سي يوم الجمعة السابع من فبراير عام 1812 م.

وكان والده - وهو كاتب ببعض خزائن الأسطول - رجلاً ممتلئ النفس بالعطف البالغ على أسرته، وتلمس أسباب السعادة والنعيم لها، إلى الحد الذي لا يفي به دخله، أو تتسع له ذات يده، فأقبل يستدين ويستدين حتى اضطرب ميزان حياته، وحتى جنى بهذا التصرف على أسرته أكثر مما أفادها! ولم تُتح بذلك أدنى فرصة لتشلرلز يتلقى فيها من العلم ما يشبع بعض نهمه أو يُروى القليل من غلته

وبلغ العاشرة من عمره دون أن ينتظم في سلك مدرسة أو يتلقى دروساً بالمعنى المفهوم؛ ولكنه كان قد لقن من الحياة دروساً نافعات، واستنبط من الإهمال والجهالة اللذين اكتنفاه علماً ولقانة قل أن أتيحا لغيره؛ وكان أثر هذه السنوات الست التي قضاها في شاتهام بالغ الوضوح في تفكيره وإنتاجه الأدبي فيما بعد. ففيها ثقب فكره وتفتحت مداركه، وفيها اكتسب دقةً في النظر وقوة في الملاحظة شعَّ سناهما على سائر تآليفه، وفيها عرف من بأساء الحياة وذاق من مرارة العيش ما أجداه ذوقه ومعرفته كثيراً، وتقلب في أحضان الفاقة والضر إلى الحد الذي مكَّن له من أن يصف ذلك في رواياته أبلغ الوصف وأصدقه؛ حتى لأصبح البؤس مادة لفنه والبائسون أبطالاً لقصصه، يفصح في التعبير عن أشجانهم، ويجلِّي في الإبانة عما دق أو عظم من أحداث حياتهم.

من شاتهام إلى لندن

انتقل تشارلز وهو في العاشرة من عمره مع أسرته إلى لندن. وكان الجو من حوله يزداد قتاما، ومشاكل الأسرة المالية تهدد بقية نعمتها بالزوال؛ فألحقه قريب له بمخزن لبعض معامل الصباغة لقاء أجر أسبوعي يقل عن ثلاثين قرشاً!

وبدأ تشارلز يتذوق نوعاً من الشقاء لم يألفه من قبل؛ ولقد كتب مرة يقول وهو يسترجع ذكريات هذه الفترة من حياته: إني لأعجب كيف كنت مطرحاً منبوذاً بمثل هذه السهولة وفي مثل تلك السن. أعجب كيف أن إنساناً واحداً لم تحركه دواعي الشفقة والرحمة فيرى تدارك ما فات من أمري بإرسالي إلى أية مدرسة عامة!

. . . وقبض على والد تشارلز بعد قليل وأُلقي به مع زوجه في معتقل المدينين؛ فتقوضت بهذا الحادث دعائم الأسرة الصغيرة، وقطن تشارلز بالكراء في بيت عجوز لم تكن لتعنى به في كثير ولا قليل

ولقد رسم لنا تشارلز فيما بعد صورة صادقة لهذه المرأة في روايته الموسومة بعنوان: دومبي وولده!

كان في هذه الفترة من حياته يعتمد على نفسه اعتماداً تاماً، ولا يكاد يحظي بكلمة عطف من مخلوق، إذا استثنينا هذه الفترات المتباعدة التي كان يُسمح له فيها بلقاء أبويه

وإن من المؤلم حقاً أن نتصور طفلاً في الحادية عشرة من عمره يعاني وحده أعباء مثل هذه الحياة الشاقة المريرة؛ ولكن يبدو أن أباه في معتقله كان يحاول تسوية مشاكله المالية، ولم يكن النظام في معتقلات المدينين يحول بينهم وبين محاولة ذلك. . . ويبدو أيضاً أن تشارلز كان يتلقى من عطف أبويه ومن معونتهما ما يخفف عنه أعباء المسكن ويعفيه من مؤونة الكسوة. وكان يزورهما في نهاية كل أسبوع فيقضي بينهما سحابة يوم الأحد سجيناً مختاراً. . .

ويصف تشارلز بعد سنين ما ألم به في هذا الطور من حياته فيقول: لذا أعتمد على نفسي في تهيئة طعام إفطاري الذي لا يعدو خبزة بلدية بأربعة مليمات وبمثل هذه القيمة لبناً. وكنت أحتفظ بخبزة أخرى مع ثلاث أواق من الجبن فوق رف لي من خزانة خاصة، ليكون ذلك عشائي عندما أعود ليلاً. وكان هذا القدر الضروري من الإنفاق يستغرق جانباً كبيراً من شلناتي الستة التي ينبغي أن أعتمد عليها طوال الأسبوع. وأحسب أن أجر المسكن كان يدفعه أبي، لأني لم أكن أسأل عنه ألبتة. ولم أكن أتلقى أي مساعدة أخرى كيفما كانت - عدا ملابسي على ما أذكر - من صبيحة الاثنين إلى مساء السبت من كل أسبوع. وما أذكر أني حظيت من أي مخلوق بأيسر شيء من الترفيه أو الإرشاد أو المعونة، أما أيام الآحاد فكنت أقضيها إلى جانب أبويَّ في السجن

ولقد طالما تسكعت في الطرقات والجوع يقض أحشائي؛ وأعرف أنه لولا رحمة من الله تداركتني لكان من أيسر الأمور أن أتحول على يد من يريد، لصاً متمرداً أو عياراً متشرداً. . .

انتقل تشارلز بعد حين إلى مسكن قريب من سجن مارشالسي حيث كان هو أول الدالفين من الباب صبيحة كل يوم، لينعم بلقاء أبويه ويتناول معهما إفطاره، وكان في هذا أكبر العزاء لنفسه المحرومة المستوحشة

حياة جديدة على أن هذه الحياة المؤلمة انتهت عند حد، وكأن طبيعة دكنز كانت قد صهرت في بوتقة الآلام إلى القدر الكافي، وتهيأت لأن تتجلى في عنصرها المشرق الوضاء، فهاهو ذا والده يغادر السجن وقد سوى مشاكله المالية. وهاهو ذا تشارلز يجد نفسه في الثانية عشرة من عمره تلميذاً بإحدى المدارس بعد أن كان عاملاً في مخزن صباغة! واستمر به الحال على ذلك سنتين

وإنه ليصور لنا، فيما بعد، هذه الفترة من حياته تحت عنوان (مدرستنا) ويصف لنا شخصياتها وحوادثها وقد استقر عليها غبار ربع قرن كامل من الزمان

. . . والآن وقد بلغنا تلك المرحلة من حياة دكنز لا نجدنا بحاجة إلى الإطناب في تتبع بقية المراحل لسبب واضح: ذلك أن خصائص دكنز الأدبية وعناصر تفكيره، وكل مقومات حياته الفنية إنما تكونت في هذه الفترة التي ألممنا بها من سيرته؛ أما ما تلا ذلك من أحداث فهو أشبه شيء بالحاشية تحت المتن، أو الإطار حول الصورة. ولكن الإشارة إليه مع ذلك أمر محتوم لإتمام هذه الهالة المشرقة التي نريد أن نرسمها لدكنز غير مباهين كي تتسنى لنا رؤيته على وضعه الحقيقي وهو في عنفوان مجده وقمة شهرته. . . فها هو ذا يغادر مدرسته بعد عامين ليعمل في مكتب أحد المحامين عاماً وبعض العام. ثم تتجه به نزعته الأدبية إلى الصحافة فيعمل مندوباً برلمانياً لبعض الصحف، وتتفتح أمامه في هذه الفترة من حياته آفاق جديدة. فهو يدرس فن ليستعين به على أداء مهمته الصحفية ويتعرف إلى بعض الشخصيات البارزة بحكم عمله وطبيعة مهنته، ولكن أهم ما يستحق التسجيل في نظرنا هو انصرافه في ذلك العهد إلى التزود بأنواع العلوم والمعارف المختلفة، وتردده الطويل على قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني. ويبدو أن هنا كانت مدرسته الحقيقية التي اضطلع فيها بمهمة المعلم والتلميذ معاً. . .

وفي عام 1831 - وكان في التاسعة عشرة من عمره - أصبح مندوباً لصحيفة , وبعد سنيَّات قليلة كان المحرر الدبلوماسي للمورننج كرونكل. . . منصبٌ وثب به إلى الأمام وثبات بعيدة!

وكان أول إنتاج دكنز الأدبي مجموعة مقالات نشرها في (المجلة الشهرية) بتوقيع ثم ضمنها كتاباً في مجلدين أصدره في ربيع عام 1836م وقد أعجب الناس من هذه المقالات بروح التهكم اللاذع الذي يسيطر عليها، وبالفكاهات الرقيقة الحلوة يرسلها دكنز خلال عباراته من غير تصنع ولا كلفة، ثم بقوة ملاحظته التي تجلو له الحقائق فيبسطها أمام القارئ بسطاً رفيقاً دقيقاً

وكانت هذه خصائص دكنز وسماته الفنية في سائر ما كتب، يضاف إليها خبرته الدقيقة الواسعة بحياة الطبقتين الوسطى والفقيرة من أبناء وطنه، وتسجيله البارع لآلامهم وآمالهم، وكفاحه الدائم في سبيل النهوض بهم ورفع أعباء الحياة ومظالم المجتمع عن كواهلهم، مما صير لأدبه قيمة اجتماعية وأخلاقية كبرى، قد تساوي قيمته الفنية لدى الكثيرين إن لم تفقها.

(للكلام بقية)

محمود عزت عرفة