مجلة الرسالة/العدد 521/الأحلام.

4 - الأحلام «مجلة الرسالة/العدد 521/الأحلام.» للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون بقلم الأستاذ ألبير نادر أين الفرق بين الإدراك والحلم؟ ما هو النوم؟ إني لا أتساءل طبعاً ما هي الشروط الجسمية للنوم - هذا أمر يبت فيه الأطباء ولم يفصل فيه بعد. أتساءل كيف يجب أن نتصور الحالة النفسية لرجل نائم لأن النفس تستمر في العمل أثناء النوم. فالنفس - كما سبق أن ذكرنا - نائمة كانت أو يقظة، تربط الاحساسات بالذكريات التي تدعوها - وآلية العمليتين تبدو واحدة في الحالتين: حالة اليقظة وحالة النوم - ولكن يوجد الإدراك الطبيعي من جهة والحلم من جهة أخرى - فآلية العملية لا تقوم بنفس العمل في الحالتين، فأين الفرق إذاً؟ ما هي الميزة النفسية للنوم؟ دعونا، لا نثق كثيراً بالنظريات. يقولون إن النوم عبارة عن انفراد عن العالم الخارجي، ولكننا بينا أن النوم لا يمنع الحواس تماماً من التأثيرات الخارجية، لكنه يستمد منها مادة الكثير من الأحلام. ثم بينا أن وظائف العقل السامية أثناء النوم تستريح ويتسبب عن ذلك توقف في التعقل. لا أظن أن الأمر كذلك. إننا أثناء الحلم نصبح غير مكترثين بقوانين المنطق؛ ولكننا لا نكون عاجزين عن كل منطق، وأكثر من ذلك، وهنا أخشى أن أدهشكم، أن ذنب النائم هو أنه يعقل أكثر من اللازم. والنائم يتجنب المحال إذا كان مجرد مشاهد لاستعراض رؤياه - ولكنه عندما يريد، بقدر المستطاع أن يعبر عنها، يكون منطقه المخصص لربط الصور المبعثرة بعضها ببعض غير قادر إلا على تقليد منطق العقل، ويتلمس حينئذ المحال. نعم إن وظائف العقل السامية تنحل أثناء النوم؛ وإن ملكة التعقل تلهو أحياناً بتقليد التعقل الطبيعي ولو لم تشجعها على ذلك الصور المتماسكة. ويمكننا أن نعمم هذا القول فيما يخص الملكات الأخرى. إننا لا نعلل الحلم بانعدام التعقل ولا بإغلاق الحواس ولنترك جانب النظريات ونتصل مباشرة بالواقع يجب أن نقوم باختبار حاسم في أنفسنا. عندما نخرج من الحلم سنراقب انتقالنا من حالة النوم إلى حالة اليقظة، إذ أننا لا نستطيع أن نحلل حالتنا أثناء الحلم نفسه. ولنتتبع هذا الانتقال بقدر المستطاع - لنوجه التفاتنا إلى حالة عدم انتباه عندنا، ولنأخذ على غرة الحالة النفسية لإنسان لم يزل نائماً، ولكنه في طريق اليقظة. نعم إن هذا العمل عسير ولكنه ليس بالمستحيل لمن مرن نفسه عليه بكل صبر. اسمحوا لي أن أقص عليكم حلماً من أحلامي وأقول لكم ماذا ظننت عندما استيقظت. ظننت أني على منبر أخاطب حشداً من الناس، فصعدت تمتمة مبهمة من مؤخرة المستمعين، ثم أخذت في الوضوح؛ وأصبحت رعداً، ثم نباحاً، ثم ضجيجاً فضيعاً - ثم دوى من كل جانب وعلى وتيرة منظمة صراخ يقول: إلى الباب إلى الباب. استيقظت فجأة عندئذ - وكان كلب ينبح في الحديقة المجاورة، وكلما كان يعوي كان الصراخ القائل: إلى الباب يمتزج بكل عوية من عواء الكلب - هذه هي اللحظة التي يجب انتهازها. فشخصية اليقظة التي ظهرت الآن تتحول نحو شخصية الحلم التي لم تزل موجودة وتقول لها: (أقبض عليك متلبسة بجرمك؛ تظهرين لي حشداً يصرخ وليس هناك إلا كلب يعوي! لا تحاولي الهروب. إني قابضة عليك. ستدلين لي بسرك وأمرك - ستدعينني أرى ماذا كنت تصنعين) وشخصية الحلم تجيب قائلة: انظري! إني لم أكن أفعل شيئاً؛ ولأجل ذلك كانت شخصيتانا مختلفتين، فتقول لها شخصية اليقظة: أتظنين أنك لا تفعلين شيئاً وأنا أسمع كلباً ينبح وأفهم أن من ينبح هو كلب؟ إنه لضلال مبين. . . أنت تبذلين مجهوداً كبيراً بدون أن تشعري بذلك - يجب أن تجمعي كل ذاكرتك وكل تجاربك المتراكمة وتقوديها بواسطة حصر مفاجئ حتى لا نقدم للصوت الذي تسمعينه سوى جزء من هذه الذاكرة أعني الذكرى التي تكون أكثر شبهاً بهذا الإحساس والتي يمكنها أن تعبر عنه أحسن تعبير: فحينئذ إذ تغطي الذكرى الإحساس. ثم يجب أن تكون هناك الموافقة التامة حيث لا يترك أي فرق بين الذكرى والإحساس (وإلا فستكونين في حالة حلم). لا يمكنك أن تضمن هذه المطابقة وهذه الموافقة التامة إلا بواسطة الانتباه أو بالأحرى بواسطة مجهود مشترك من قبل الإحساس والذاكرة. هكذا يفعل الخياط عندما يجرب لك رداء قصَّه فقط، فهو يضع الدبابيس ويشد بقدر الإمكان القماش على الجسم حتى ينسجم عليه تماماً. وحياتك في حالة اليقظة هي حياة عمل وإن ظننت أنك لا تعملين شيئاً. وذلك لأنه يجب عليك في كل لحظة أن تختاري وأن تعزلي. إنك تختارين بين احساساتك لأنك تبعدين عن الوجدان آلاف الاحساسات الشخصية التي تعود إلى الظهور حينما تنامين. إنك تختارين بكل دقة وتأن من بين ذكرياتك بما أنك تبعدين كل ذكرى لا تنسجم وحالتك الحاضرة. هذا الاختيار الذي تقومين به بلا انقطاع، وهذه المطابقة (بين الذكريات والحالة الحاضرة) المستمرة والدائمة التمدد هما الشرط الأساسي لما يسمونه الصواب. ولكن المطابقة والاختيار يجعلانك في حالة إجهاد غير منقطع أنت لا تشعرين به في الحال كما أنك لا تشعرين بالضغط الجوي ولكنك تتعبين إذا ما طال. والصواب متعب جداً. (لقد قلت لك تواً: إني أتميز عنك لأني لا أفعل شيئاً. والمجهود الذي تبذلينه بدون انقطاع أنا أمتنع فقط عن بذله. أنت تتمسكين بالحياة وأنا أنفصل عنها. لم أعد أكترث بشيء ولا أهتم بشيء. النوم عدم اهتمام ونحن نيام بقدر ما نكون غير مبالين. الأم النائمة بجانب طفلها يمكنها ألا تسمع قصف الرعد، بينما تنهدة واحدة من تنهدات طفلها توقظها. فهل كانت غافلة (نائمة) حقاً بالنسبة لطفلها؟ إننا لا نغفل عما يزال يهمنا (تسألينني عما أفعل عندما أحلم؟ سأقول لك ماذا تفعلين أنت أثناء اليقظة. تأخذينني أنا شخصية الأحلام، أنا مجموعة ماضيك وتقودينني، مضيقة على الخناق، حتى تحصريني داخل الدائرة الضيقة التي تخطينها حول عملك الحالي، هذه هي حالة اليقظة: الحياة النفسية الطبيعية، الجهاد، الإرادة. أما الحلم فهل أنت بحاجة لأن أعبر لك عنه؟ إنها الحالة التي تلاقين فيها نفسك في حالتها الطبيعية عندما تتركينها على غاربها، عندما تهملين حصرها في نقطة واحدة، عندما تكف الإرادة عن العمل. وإذا ألححت أو أصررت في طلب شرح أي شيء فسلي كيف تعمل إرادتك في أي وقت من أوقات اليقظة حتى يمكنها أن تحصر كل تحمله فيك في نقطة واحدة تهمك وذلك بدون أن تشعري واسألي فجأة حينئذ حالتك النفسية وقت اليقظة، ووظيفتها الأساسية أن تجيبك لأن اليقظة والإرادة شيء واحد) هذا ما تقوله شخصية الأحلام، وإنها لتقص علينا أشياء أخرى كثيرة إذا تركنا لها المجال لذلك. لكن لقد حان الوقت للوصول إلى النتيجة. ما هو الفرق الجوهري بين الحلم واليقظة؟ سنلخص ما سبق قائلين إن القوى نفسها تعمل سواء كنا في حالة اليقظة أو في حالة الحلم. فقط في الحالة الأولى تكون هذه القوى منحصرة وفي الحالة الثانية تكون منطلقة الحلم هو الحياة العقلية بأكملها ينقصها مجهود الحصر. فلا نزال ندرك ولا نزال نتذكر ولا زال نعقل. والحالم يمكنه أن يدرك ويتذكر ويعقل كثيراً. والإكثار في هذه العمليات لا يعني أن النفس تبذل مجهوداً لأن ما يتطلب المجهود إنما هو الدقة والتأني في الانسجام. فنحن لا نعمل شيئاً ولا نبذل أي مجهود ليرتبط نباح الكلب صدفة بذكرى حشد متضجر، ولكن يجب بذل مجهود فعلي حتى يتصل هذا النباح بذكرى نباح الكلب وحتى يمكننا التعبير عنه أنه فعلاً نباح. ولكن لم تبق عند الحلم أي قوة لبذل هذا المجهود، فبذلك وبذلك فقط يتميز الحالم عن اليقظان هذا هو الفرق ونحن نعبر عنه بطرق مختلفة. وإني سأتجنب التفصيلات؛ فقط ألفت نظركم إلى نقطتين أو ثلاث وهي: عدم استقرار الحلم، والسرعة التي يمكنه أن يسرد بها، والأفضلية التي يعطيها للذكريات التافهة من السهل التعبير عن عدم الاستقرار، إذ أن الحلم من خاصيته ألا يجعل الإحساس ينطوي تماماً على الذكرى، بل يترك في ذلك مجالاً للعب، فعليه يمكن لذكريات مختلفة تمام الاختلاف أن تنطبق على الحلم. إليك مثلاً بقعة خضراء منتشرة عليها نقط بيضاء، وذلك في حقل البصر - فيمكنها أن تحقق ذكرى جزء مزدهر في حديقة أو ذكرى مائدة لعب الكرات مع كراتها، أو أشياء أخرى كثيرة. وجميع الذكريات تريد أن تعود إلى الحياة في هذا الإحساس وكلها تعدو وراءه. ففي بعض الأحيان تبلغه الواحدة تلو الأخرى، والجزء المزدهر في الحديقة يصبح مائدة لعب الكرات، ونشاهد حينئذ تطورات مدهشة. وفي بعض الأحيان تبلغه جميعها فيصير الجزء المزدهر مائدة لعب الكرات، ويحاول الحالم أن يرفع عنه هذا التناقض بواسطة تفكير يزيد في دهشته (البقية في العدد القادم) ألبير نادر