مجلة الرسالة/العدد 524/كتب التراجم

مجلة الرسالة/العدد 524/كتب التراجم

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 07 - 1943



بمناسبة كتاب روزفلت

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

قد تستهوي الإنسان سيرة عظيم من العظماء، أو أديب من الأدباء، أو عالم له في ميدان البحث العلمي مجال، أو مغامر له في الكشف مصاولة، فيقرأ عنه ويتتبع حياته، ويجد في مثله العالي ما يستحق العرض والتجلية. ثم يحمله الإعجاب به والاتصال به - من قريب أو بعيد - على الكتابة عنه والترجمة له ووصف الظروف التي كونته، والأقدار التي أحاطت به، والأحداث التي ألمت بعصره، والمبادئ التي تحدرت عنه

وقد يكون ذلك العظيم - موضوع الترجمة - شرقياً فيجد الكاتب الشرقي فخراً في الكتابة عنه والترجمة له، مدفوعاً إلى ذلك بعامل الاشتراك في الجنس أو اللغة أو الدين. ويجد الكاتب الغربي في الترجمة له إنصافاً لعظمته وإظهاراً لفضله. وقد يكون ذلك العظيم غريباً فيجد الكاتب الشرقي لذة وفائدة لبلاده ومعرضاً لعرض المثل الصالح والأسوة الحسنة

وكتابة التراجم المطولة، والدراسات الشخصية المعتدلة المنصفة لا تتقيد بوطن ولا جنس، ولا شرق ولا غرب، ولا دين ولا مذهب

فأميل درمنجهم كتب عن حياة النبي محمد، وأميل لدويج كتب عن حياة المسيح، وفيليب جوادالا كتب عن حياة نابليون الثالث، وماريوس أندريه كتب عن حياة خريستوف كولمب ومغامراته فوق أثباج المحيط، والسير والتر سكوت كتب عن حياة نابليون بونابرت، وتوماس كارليل الإنجليزي ترجم لفردريك شيلر الشاعر الألماني، وآرام سترونج كتب عن الذئب الأطلس أتاتورك، وكربيتس كتب عن إبراهيم باشا وإسماعيل باشا المصريين

لهذا ليس عجيباً في باب التراجم أن يكتب مصري عن غير مصري، أو يترجم عربي لحياة غير عربي كما صنع الدكتور محمد حسين هيكل مع جان جاك روسو؛ وعبد الرحمن بدوي مع نيتشة واشبنجلر وغيرهما من أعلام الفكر والفلسفة؛ وحسن محمود مع ديستويفسكي، وفؤاد صروف مع روزفلت

وقد يقال أن كتاب الأستاذ فؤاد صروف عن فرانكلين روزفلت هو من قبيل السياسة. وهو كلام فيه كثير من الحق. ولكن ما أحوجنا نحن قراء العربية إلى كتب من هذا الطراز فإن الفقر يضرب على مكتبتنا العربية في هذا الباب لولا ما أخرج العقاد عن سعد زغلول، وما أخرج عبد الرحمن الرافعي عن الزعيم الوطني مصطفى كامل، وما وصنعه محمد فريد أبو حديد مع السيد عمر مكرم، وما كتبه كريم ثابت عن فؤاد الأول

إلا أن هؤلاء استوحوا وطنهم واستمدوا من تاريخ بلادهم وترجموا الأعلام رجالهم، ولكن فؤاد صروف استشرف إلى ما وراء العباب، واستكف ما خلف السحاب، فكتب كتابه الأول عن تشرشل (وقد كتبت عنه في حينه بالرسالة الغراء) وأخرج كتابه الثاني عن روزفلت. ولكن ذلك لا ينقص من شأن كتابه، بل على الضد من ذلك يرفع من قيمته ويغلي من بضاعته. لأن حياة روزفلت وسيرته وقصة كفاحه هي شطر من حياة الديمقراطية وقصتها. ومن منا اليوم لم تشغله قضية الديمقراطية ولم تفتنه قصتها؟ ومن منا لم تذهب نفسه اليوم حسرات على المحنة التي تبتلي الحرية اليوم بها وتصلى بنارها؟

ولا يرجع إعجاب فؤاد صروف بشخصية روزفلت إلى زمن اشتراك أمريكا في الحرب، ولا إلى اندلاع الشرارة الأولى لها حتى يقال إنه حب طارئ وإعجاب عارض؛ ولكنه حب متمكن وإعجاب قديم دفين يرجع إلى أكثر من عشرين عاماً حين رشح الرئيس روزفلت نفسه لوكالة الجمهورية. فقد تابعه المؤلف منذ ذلك الحين وشغف به وتحمس له وتقصى كل نبأ عنه أو خبر له، وطوى نفسه على متابعته والقراءة عنه حتى تهيأ له اليوم أن يخرج كتاباً قيماً في مائتين وأربعين صفحه من القطع الكبير

ولقد كانت تجري كتابة التراجم في اللغة العربية على نسق محدث ممل يعني بالسرد والقص والحكاية والجمع والترتيب والتأريخ ولا يعنى بالدراسة السيكلوجية والتحليل والنظرة العامة أو المقارنة. وكتب المؤرخ ابن الجوزي عن العمرين (ابن الخطاب وابن عبد العزيز). وكتاب يوسف بن شداد عن صلاح الدين الأيوبي خير مثال لهذا النسق العتيق

أما اليوم فقد تغير المجرى واستقام النسق وتأثر كتاب العربية بكتاب الفرنجة في هذا الباب، وأخذ عنهم طرق الدرس ومناهج البحث، وظفرت المكتبة العربية بما كتب هيكل عن النبي محمد وأبي بكر، وبما كتب العقاد عنهما وعن عمر وسعد زغلول، وبما كتب الرافعي عن مصطفى كامل؛ وفؤاد صروف عن روزفلت وكتابة التراجم لها في الآداب الأوربية اعتبار أي اعتبار، ولا يكاد يخلو إنتاج أديب ملحوظ من ترجمة شخصية أعجب بها وتوفر على درسها، مهما كان لون هذه الشخصية ومزاجها ومجالها الحيوي في السياسة أو العلم أو الفن. فلويس ديمييه يكتب عن ديكارت الفيلسوف، وهنري بيرو يكتب عن روبسبيير، وفرانسوا مورياك عن راسين، وراؤول أرنو عن كاميل ديمولان، وأميل لدويج عن روزفلت

ومن كتب التراجم ما يتحدث فيه المرء عن نفسه ويترجم لذاته. وهذه التراجم غير كتب المذكرات التي يدون فيها رجل ممتاز حوادثه اليومية كمذكرات اللورد جراي. وقد تكون هذه التراجم الذاتية قطعاً أدبية ممتازة كترجمة (لي هانت) لنفسه وهو من كتاب الإنجليز في القرن التاسع عشر، وترجمة دي كوينسي التي كانت سابقة على كتابه المشهور (اعترافات آكل أفيون)، وترجمة جيبون المؤرخ الإنجليزي التي حكم لها النقاد بالامتياز في نوعها وأسلوبها الذي يعد بحق مزية ذلك المؤرخ العظيم

والترجمة للأناس تتطلب فناً غير ترجمة الحيوان الأعجم. لأن ترجمة الناس تقتضي الاختلاط بهم أو السماع عنهم أو القراءة لهم أو رؤية آثارهم. أما الترجمة للحيوان فتقتضي ملاحظة أقوى وجلداً أكثر، وعلماً أغزر، وإحساساً أعمق. وتوفر الكثير من هذا في موريس مترلنك، فترجم لحياة النحل وحياة النمل بما لا يتهيأ لكاتب عادي أن يصنعه. ولكن لدويج ترك ترجمة الحيوان إلى ترجمة الذوات. . . فكتب عن (النيل) كتابه الذي جسد فيه هذا النهر الخالد كأنما كان يترجم لإنسان

ولكتابة التراجم سبيلان: سبيل الاتصال الشخصي بالمترجم له والاختلاط به والعمل معه أو تحت ظله وفي ذراه؛ وسبيل القراءة عن المترجم له وذلك لبعد الزمان بين الكاتب وبينه كما صنع ارفنج ودرمنجهم عن النبي، أو لبعد المكان كما صنع فؤاد صروف مع روزفلت اليوم

وإذا جمع كاتب التراجم بين قرب الزمان والمكان من المترجم له كان ذلك أقرب إلى الصدق وأدنى إلى الحق، وخاصة إذا كان الكاتب غير ميال إلى الهوى في حكمه أو الغرض في رأيه. ولكن بعد الزمان وحده خير ضمان للاعتدال في الحكم لبعد الكاتب عن المؤثرات والمغريات فسيرة ابن شداد عن صلاح الدين هي أقرب السير زماناً ومكاناً من المترجم له. فالمؤلف معاصر لصلاح الدين وقاضي عسكره وناظر أوقاف بيت المقدس في عهده. وهي سيرة صادقة إلا أن فيها بالطبع بعض الميل

جرت عادة القراء أن يبدءوا الكتب من أول فصولها. ولكنني قرأت (روزفلت) من الفصل الثالث. وهو عندي خير فصول هذا الكتاب القيم. فهنا سيرة زكية من النضال والكفاح. هنا قوة تسري من الكتاب إلى القارئ فتوحي إليه أن الضعف ليس عدة الرجال ولا أداة الأبطال. هنا جسد اصطلح عليه المرض ومشى فيه الشلل، ولكن عزيمة صاحبه كانت أقوى من أن تخضع للحوادث. هنا سيرة يقرؤها المريض فيصح، والضعيف فيقوى، والهيابة النكس فيتقدم

وقد تمد فصول الكتاب الخمسة عقل القارئ بألوان من العلم والسياسة والمعرفة بأحوال العالم الجديد ونظمه ودستوره ومجلسيه التشريعيين وحكومته ونظام اقتصاده؛ ولكن الفصل الثالث يمد قلب القارئ بالشجاعة ويملؤه بالقوة ويجعله موصول الآمال، حتى في الساعات الحرجة واللحظات العصيبة، لأن الإرادة القوية تغلب كل حرج؛ وتتحكم في كل شدة. فهذا الرجل المشلول لا ينطوي على نفسه كمن تقعدهم الأدواء ولكنه طلعة دءوب، فكيف تصده آفة جسدية عن تحقيق مطامعه القوية؟

ومزية كتاب (روزفلت) أنه ليس من الأدب المحض وحده أو الفن الصراح وحده، فليس من نوع النثر الفني المقصود لذاته؛ ولكنه فكرة قبل أن يكون كتاباً، ومعنى قبل أن يكون لفظاً، فهو طراز عال من كتب السياسة الأدبية التي اتجه إليها الكتاب في العصر الحديث. فلم يحاول فؤاد صروف فيه أن يكون عالماً فحسب أو سياسياً فحسب أو أديباً فحسب، ولكنه كان مزيجاً من ذلك كله. فهنا علم بالنظم الأمريكية، وهنا معرفة بتيارات السياسة الدولية؛ وهنا إحاطة واسعة بأشتات التاريخ الذي وعاه المؤلف في صدره؛ وهنا أدب يتجلى في تعبير مترسل مستقيم المنطق صحيح التسلسل؛ وهنا ريشة مصور لا أقول إنها عنيفة ولكنها صادقة ترسم الحدود وتوضح المعالم في بيان وجلاء

وهو كتاب يذكرني بكتاب أندريه مورواه الفرنسي في تاريخ إنجلترة

محمد عبد الغني حسن