مجلة الرسالة/العدد 525/تينة الجبل!

مجلة الرسالة/العدد 525/تينة الجبل!

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1943



للأستاذ أحمد الصافي النجفي

(. . . وهذه طرفة ثانية من طرائف (الصافي) نقدمها للدكتور طه حسين بك. ولعل من الخير أن نذكر أن (الدكتور) ينكر على شعرائنا المحدثين فيما ينكر عليهم انعدام (الوحدة الفنية) في أكثر منظوماتهم. ولقد فهمنا من محاوراته معنا أن من أظهر خصائص الشاعر الأصيل في رأيه وضوح المثل الأعلى الذي يدور عليه فلك وحي الشاعر، واستحضاره في فترات الخلق والإنتاج. وليس هنا محل مناقشة الدكتور في هذا الرأي؛ ولكن أضع يده على هذه الطرفة البارعة التي تمثل مذهبه في الشعر أصدق تمثيل

و (تينة الجبل) شجرة عجيبة شاذة معروفة في سورية لا يطلب لها أن تنمو وتستطيل إلا في جو قاس من العزلة والتوحيد والانزواء، فتراها بعيدة عن مجاري المياه العذبة والأعشاب الندية والطيور المغردة، فهي تعيش دائماً في صمت وسكون. ولكن أي فوز تناله يوم عرض الثمار؟ هذا ما نترك الإجابة عنه لحضرات القراء وهم ينعمون بتلاوة هذه القصيدة الرمزية البارعة)

القدس - عبد القادر جنيدي

نبتتْ في الجبال دَوحة تِبنِ ... وقفت مثل وقفة الجبار

أَلِفت وحشة الدجى واستمرَّت ... في صراع مضنٍ مع الإعصار

فهي أخت الثلوج والأمطار ... وهي نبت العُواء والتزآر

وهي تحيا كراهب في قفارٍ ... دون ديرٍ يضمه أو دار

وإذا ما هفتْ لنجوى سمير ... رنَّ في سمعها صدى الأدهار

أينما تلتفتْ فليس تلاقى ... من سمير لها سوى الأحجار

حرمتها يد الطبيعة حتى ... من غناء الحفيف في الأسحار

لم تظلَّل غصونُها ندماَء ... لا ولم تُسقَ منهم بعقار

وهي لم تستمع لنجوى حبهِ ... بين وما أعلناه من أسرار

لا ولا أَمَّها هزارٌ يغني ... فانتشى سمعها بشدْو الهزار

ما وعتْ حين أينعت للعصا ... فير سوى لحن نقرة المنقار ما جلتْ جسمها ليوم أزدهاء ... أو رأت وجهها بنهر جار

فهي تبدو كأشعث ذي سفار ... وهي تحكى فلاّحة في القفار

أَنفت من تمايل واختيال ... وسمتْ عن تجمّل وازدهار

أصبحت لا ترى سوى البرّحلياً ... لا ولم تشتمل بغير الوقار

إن تردَّي دوح الرياض اخضراراً ... فهي لا ترتدي بغير الغبار

لم تفاخر بالمجد دوحاً ونالت ... قصب السبق يوم عرض الثمار

ولو أني أتيتللدوح باسمٍ ... قلت هذي أميرة الأشجار

فهي بنت الجبال ذات وقار ... وهي بنت الصخور ذات اصطبار

وهي تسعى للسيرِّ دون ضجيج ... وهي تعطي الخيرات دون افتخار

وهي طيُّ الخفاء تدأب كدْحاً ... مستمراً في ليلها والنهار

تصهر الشمس رأسها كل صيف ... وتلاقي الشتا بجسم عار

قد تلقَّت حوادث الدهر تتري ... دون أن تشتكي من الأقدار

ما الذي ساقها لنفع البرايا ... دون ما دافع ولا إجبار

هم ذووها إِن أطعمتْهم وإلا ... قطعوها فعذّبت في النار

كم لها من يد علينا ولكن ... ما عليها يدَّ لغير الباري

لمْ تزل تأكل التراب ولكن ... تطعم الخلق أطيب الأثمار

ليتنا مثلها فنعطي جنانا ... لا لنفع يُرجَى ولا استثمار

وأراني كالدوح شأناً ولكن ... ما جَنَا دوحتي سوى الأشعار

ولكلّ في الكون شأنٌ به خُصَّ ... وخُصَّ الفناء بالأطيار

أحمد الصافي النجفي