مجلة الرسالة/العدد 525/كيف بدأ الإصلاح في الأزهر

مجلة الرسالة/العدد 525/كيف بدأ الإصلاح في الأزهر

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1943



وكيف نصل الآن إليه

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

كلما صرفت نفسي عن الكلام في إصلاح الأزهر عاودها الحنين إليه. وكيف أنسى عقيدة أشربت حبها منذ الطلب، ومضى على جهادي فيها أكثر من عشرين عاماً، ولقيت فيها من العنت ما لقيت، وبذلت من التضحية ما بذلت، خالصاً لوجه الإصلاح، لا أبتغي بذلك عوضاً، ولا أقصد أن أجرب مغنماً

وقد قرأت ما كتبه صديقي الأستاذ الجليل محمد المدني تعليقاً على محاضرة صديقي الأستاذ الكبير محمود شلتوت، فوجدتهما يرجعان بقاء الأزهر على جموده في هذا العهد إلى الكتب القديمة، لأن الأزهريين لا يزالون يعولون عليها في جميع مراحل التعليم، ولا تزال الدراسة في المعاهد الدينية متجهة إلى شرح ألفاظها، وتضيع الزمن في مماحكاتها اللفظية التي لا طائل تحتها. وقد ذكرني هذا بما نشرته في أوائل هذا العهد على صفحات مجلة الرسالة وغيرها، وذلك حين قمت بنقد ما يشكوان الآن منه بعد فوات الوقت، فغضب لذلك من كان يناصر هذا العهد لغير الإصلاح، وكان لهذا الغضب أثره في حرماني من بعض حقوقي، فقبلت ذلك راضياً، وصبرت عليه إلى وقتنا هذا في غير شكوى ولا تألم، لأن من ينصب نفسه للجهاد لا تؤلمه التضحية، وقد يسر بها كما يسر أصحاب اللبانات بقضائها. ولو أن الصديقين الفاضلين ضما صوتيهما إلى صوتي في ذلك الوقت لكان لذلك منا شأن آخر، ولم ينظر إليه تلك النظرة التي قوبل بها صوتي، لأنهما كانا محل الثقة من رجال هذا العهد، وكانت كلمتهما مسموعة عندهم

وما علينا من هذا كله، فما نريد الآن إلا أن نبين كيف نصل الآن إلى إصلاح الأزهر، وقد مضى على معالجته نصف قرن أو أكثر، وهو ما يقرب إلا ليبعد، ولا يسهل أمره إلا ليعسر. وهانحن أولاء الآن لا نزال كما كنا قبل معالجة ذلك الإصلاح، نألف الجمود ونعض عليه بالنواجذ، ونقف من الإصلاح الذي يقضي على هذا الجمود موقف المعارض المعاند. ولا يزال اللذين يؤمنون بيننا بهذا الإصلاح يعدون على الأصابع، وليس لديهم من القوة ما يمكنهم أن يقضوا به على ذلك التعصب للجمود، وقد بذلوا من التضحية الإصلاح ما بذلوا، ولكن التضحية وحدها لا تفيد في القضاء على التعصب، وإنما يفيد في ذلك القوة الغالبة، والسلطان القاهر، والتاريخ على ذلك شاهد عادل

ومن ينظر إلى بدء الإصلاح في الأزهر يجده لم يتم إلا بتلك القوة، ولم يأخذ سبيله فيه إلا بعد أن تدخلت الحكومة في أمره، وقد كان تدخلها في ذلك بعد أن لجأ إليها المصلحون من رجال الأزهر، وأقنعوها بصواب ما يدعون إليه من الإصلاح، ولولا تدخلها في ذلك ما خطا الأزهر في الإصلاح تلك الخطى، ولبقى إلى وقتنا قابعاً في عزلته، راضياً بالانكماش الذي كان راضياً به، ولم يكن هذا الانكماش في شيء من ديننا، وإنما هو من الرهبانية التي أباها الإسلام لأهله

وكان الذي قام بإقناع الحكومة بذلك هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فقد ذكر السيد محمد رشيد رضا في تاريخه أنه لما جلس عباس باشا حلمي على كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال، وتوجهت إلى أعمال يقصد منها إزالة الاحتلال، وكان الشيخ محمد عبده يرى أن إزالة الاحتلال لا يمكن أن يحل بوسيلة السياسة إلا باتفاق الدول، وأن الرجاء في اتفاقهم على ذلك بعيد، فأراد أن يكون حظه من حب الخديو للعمل السعي في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية والأوقاف، فاتصل به وحظي عنده وكاشفه برأيه في إصلاحها، فقال له: إن لدى أفندينا هذه المصالح الثلاثة العظيمة، فيمكنه أن يصلح الأمة كلها بإصلاحها، وهي دينية ويجب المبادرة بإصلاحها. ثم ذكر له كليات هذا الإصلاح، ولم يخرج من عنده حتى أقنعه به

فمن هذا الوقت أخذت الحكومة في إصلاح الأزهر، وقد بدأت أولاً بتأليف مجلس إدارة للأزهر مؤلف من أكابر علماء المذاهب الأربعة، وأضيف إليهم الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان على أنهما عضوان من قبل الحكومة، فسار هذا المجلس بهمه صادقة في إصلاح الأزهر، وسلك في ذلك سنة التدرج ليأمن الاصطدام بأعداء الإصلاح، ويأخذ الأزهريين به شيئاً فشيئا، وكانت الحكومة من ورائه ترعاه بالمساعدة، وتصد عنه كيد هؤلاء الأعداء، وتأخذهم بالشدة إذا جنحوا إلى الثورة، حتى لانوا واستكانوا. ونجح هذا المجلس في إقامة الدعائم الأولى للإصلاح، فألف أهل الأزهر النظام في أعمالهم ودروسهم، وأقبلوا على دراسة العلوم الحديثة التي كانوا ينفرون من دراستها وكان الشيخ محمد عبده يرى أن ما نجحوا فيه من ذلك يجب أن يكون وسيلة لا غاية، لأن الإصلاح الحقيقي لا يصح أن يقف عند هذه الحدود، بل يجب أن يتعداها إلى فتح الأذهان المقفلة في الأزهر، وكسر قيود التقليد في العلوم القديمة، حتى تدخلها آثار التجديد، وتخلع تلك الأثواب البالية، وتعود إلى ما كانت عليه علوماً تفتح العقول، وتربي العلماء المجددين، والأئمة المبرزين. وقد سأله السيد محمد رشيد رضا عن رأيه فيما قاموا به من إصلاح الأزهر، فذكر أنه لم يحصل شيء من الإصلاح يذكر إلى ذلك الوقت، وأنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة في الإصلاح اغتناماً للفرصة، فأشير عليه بوجوب التدرج في الإصلاح، وأنه لابد له من المسايرة، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة بما يسمونه التدرج

وقد أتى القوم بعد الأستاذ الإمام فساروا في ذلك على أنه غاية لا وسيلة، ووقفوا عند هذه الحدود التي لا يصح أن يقف عندها الإصلاح، فلم ينهضوا بالأزهر إلى ما يرجى له في هذا العصر، وبقيت علومه القديمة في أثوابها البالية التي تزهد الناس فيها، وتجعلها مماحكات لفظية لا فائدة في دراستها. وقد نبهتهم إلى ذلك بكتابي (نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف) فقامت علي قيامتهم، ولم تهدأ ثائرتهم إلا بعد أن أنزلوا بي من العقاب ما أنزلوا، وكانوا يريدون عزلي من المعاهد الدينية، فتداركني لطف الله تعالى، وبقيت إلى وقتنا هذا مخلصاً لعقيدتي لا يثنيني عنها ما يفوتني بسبب إخلاصي لها

وقد أراد أستاذنا الشيخ المراغي في عهده الأول أن يصل بالإصلاح إلى هذه الغاية التي أرادها الأستاذ الإمام، وأن يخطو في الإصلاح خطوة جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يبالي بما تحدثه من ضجة وصريخ، فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة، ولكنه اعتزل منصبه بعد فترة وجيزة

وهاهو ذا قد عاد إلى منصبه مرضياً عنه كل الرضا من ولي الأمر، فما عليه إلا أن يستغل الفرصة السانحة كما استغلها الأستاذ الإمام، ويستدرك بها ما فاته في المرة الأولى، وقد هيئت له أسباب النجاح، ومد له في منصبه حتى ذلت له العقبات، وزال ما كان يعترض تلك الخطوة الجريئة في الإصلاح

عبد المتعال الصعيدي