مجلة الرسالة/العدد 527/أنات حائرة

مجلة الرسالة/العدد 527/أنات حائرة

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 08 - 1943



للمدير الشاعر عزيز أباظه بك

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

خطر لي موضوع هذا المقال وأنا أقرأ ديواناً من الشعر الحزين الرصين أهداه إلى الشاعر عزيز بك أباظة

وكثير من الناس لا يعرفون شيئاً عن قصة هذا الشاعر، ولا قصة ديوانه الجديد الذي أتحف به باب المرائي في الشعر العربي

أما الشاعر فقد سمعت عنه من بعض أفراد أسرته الكريمة فقلت في نفسي: قريب يحابى قريباً، ونسيب يزكي نسيباً؛ ولكنني لما قرأت ديوان، استصغرت ما سمعت من الأخبار

وأما قصة الديوان، فهي قصة الدموع والأحزان والهموم والآلام نظمها الشاعر في سلك وأهداها إلى من يجدون فيدموع غيرهم شفاء لغليلهم، وراحة لصدورهم

والديوان كله دموع ذرفها الشاعر على زوجته التي اختطفها الموت أنضر ما تكون شباباً. وكل بيت من الديوان يحمل ذكرى. وكل قصيدة تحمل أثراً

وهذا شيء جديد في الأدب العربي؛ فما رأينا قبل اليوم - فيما نعلم - شاعراً عربياً اختص زوجته بديوان كامل من شعره يقدمه تذكاراً لأيام سعيدة وبشاشات من العيش مضت إلى غير رجعة

وأكثر المراثي في الأدب العربي هي من الرجال إلى الرجال؛ اللهم إلا مراثي الخنساء لأخويها صخر ومعاوية وأولادها الأربعة. فهي هنا الشاعرة الوحيدة التي تفردت بالبكاء حياتها.

ورثاء الرجال للنساء في الشعر العربي قليل، وأقل منه رثاء الرجال لزوجاتهم. ولعل ذلك محمول على المحافظة على صيانة المرأة وبعدها أن يكون أسمها مضغة في الأفواه، وسيرة على الألسنة.

وليس في ذلك مناقضة لورود المرأة في شعر الغزل؛ فإن موضوع الغزل ليست محرما للرجل وليست من أهله، ولا يعيب الرجل أن يتحدث الناس عنها. أما الزوجة المرثية، فهي لزوجها أهل وأم أبناء، فيجد من الحرج أن يذكرها في شعره حتى ولو كان ذلك في مقام الرثاء وموضع البكاء. ودليلنا على ذلك أن الطغرائي أَنِفَ أن يذكر زوجته في معرض رثائها فعبر عنها أكثر من مرة بقوله (ستيرته) والستيرة هي المرأة المستورة. وهذا الوصف يوحي بأن الشاعر قصد أن يجعل زوجته في ستر حتى على صفحات ديوانه المنشور

واشتهر من الأزواج الراثين لزوجاتهم مسلم بن الوليد. ويظهر أنه كان ينوي أن يعرض عن رثاء زوجته - على عادة الشعراء قبله - ولكن حادثاً معيناً أغراه برثائها وهاج أحزانه فسجلها في أبيات رائعة. ويلخص هذا الحادث في أن أصحابه لاحظوا عليه بعد دفنها شدة ألمه واستسلامه لأحزانه، فأرادوا لأن يحملوه على الشراب حتى يتسلى بالخمر عن مصابها فرد عليهم بقوله:

بكاء وكأس كيف يتفقان ... سبيلاهما في القلب مختلفان

دعاني وإفراط البكاء فأنني ... أرى اليوم فيه غير ما تريان

غدت والثرى أولى بها من وليها ... إلى منزل ناء بعينك دان

فلا حزن حتى تنزف العين ماءها ... وتعترف الأحشاء بالخفقان

وكيف بدفع اليأس والجد بعدها ... وسهماهما في القلب يعتلجان

ولابن الزيات الكاتب الشاعر وزير المعتصم والواثق العباسيين أبيات يرثي بها زوجته ويصور حال ولده منها وقد تركته طفلاً صغيراً، يقول فيها:

ألا من رأى الطفل المفارق أمه ... بُعيد الكرى عيناه تنسكبان

رأى كل أم وابنها غير أمه ... يبيتان تحت الليل ينتجيان

وبات وحيداً في الفراش تجنُّه ... بلابل قلب دائم الخفقان

فلا تلحياني إن بكيت فإنما ... أداوي بهذا الدمع ما ترياني

ومن الشعراء من يتخذ له جارية أو أكثر وفق ما كان مألوفاً في زمانهم وجارياً عليه عهدهم؛ فإذا ماتت جارية من هؤلاء وكانت عزيزة على الشاعر حبيبة إلى نفسه رثاها كما نرثي الزوجة، وقد يذرف عليها من ساخن عبراتهما يعبر عنه شعره. كما فعل أبو تمام في رثاء جارية له يقول فيها:

أصبت بخود سوف أغبر بعدها ... حليف أسى أبكى زمانها عنان من اللذات قد كان في يدي ... فلما قضى الألف استردت عنانها

منحت الدُّمى هجري فلا محسناتها ... أود ولا يهوى فؤادي حسانها

يقولون هل يبكي الفتى لخريدة ... إذا ما أراد اعتاض عشراً مكانها

وهل يستعيض المرء من عشر كفه ... ولو صاغ من الحر اللجين بنانها؟

وأبو تمام هنا يؤمن بالفردية وعدم القابلية للتعويض، فقد يكون من الجواري من يزدن حسناً على جاريته المرثية، ولكنه لا يجد فيهن العوض منها لخصائص فيها ليست لواحدة منهن

والشريف الرضي يرثي (بعض أهله) بأبيات فيها أثر اللوعة والحزن الشديد؛ ولعل بعض أهله زوجة له، لأن العرب تعبر عن زوجة الرجل بأهله. قال الشريف:

ذكرتك ذكرة لا ذاهل ... ولا نازع قلبه والجنان

أعاود منك عداد السليم ... فيا دين قلبي ماذا يدان

ونابي الجوى أن أسر الجوى ... إذا ملئ القلب فاض اللسان

وما خير عين خبا نورها ... ويمني يد جذ منها البنان

فيا أثر الحب إني بقيت ... وقد بان ممن أحب العيان

وقالوا تسل بأترابها ... فأين الشباب وأين الزمان؟

والشريف صادق في البيت الأخير؛ فأين الشباب المسعف على اصطناع الحب من جديد؟ وأين الزمان المعين على ذلك بعد أن ضاع من العمر غير قليل؟

وأكثر الشعراء رثاء لزوجته في الأدب العربي (الطغرائي) فيه أكثر من خمس قصائد مختلفات في الوزن والقافية. وكلها تدل على شديد حرقته. ولعله بذلك مهد السبيل لمحمود سامي البارودي باشا الذي رثى زوجته بقصيدة تعد أطول ما رثيت به امرأة في الأدب. فقد بلغت أبياتها سبعة وستين بيتاً

وقصيدة البارودي هذه لا تمتاز من مراثي النساء بطولها فحسب، بل تمتاز بتعبيرها عن أحزان البارودي ونفسه المحطمة أصدق تعبير، فقد كان منفياً بجزيرة سرنديب يوم ورد إليه نعيها. ولكنه على عزيمته القوية لم يستطع احتمال الصدمة فيها فيقول:

أيد المنون قدحت أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي أوهنت عزمي وهو حملة فيلق ... وحطمت عودي وهو رمح طراد

ويقول:

يا دهر فيم فجعتني بحليلة ... كانت خلاصة عدتي وعتادي

إن كنتَ لم ترحم ضناي لبعدها ... أفلا رحمت من الأسى أولادي

ولكنه بعد أن يذيب قلبه حسرات عليها يعود فيرضى بقضاء الله الذي لا مرد منه ولا محيص عنه فيقول:

كل امرئ يوماً ملاق ربه ... والناس في الدّنيا على ميعاد

أما الطغرئي فكان على إكثاره من القصائد غير مرتفع إلى مستوى البارودي في مرثيته الخالدة. وإذا كان الطغرائي هو شاعر الشكوى من الزمان، فلم يستطع أن يكون بحق شاعر الرثاء. وأحسن أبياته في رثاء زوجته قوله:

إن ساغ بعدك لي ماء على ظمأ ... فلا تجرعت غير الصاب والصَّبِر

وإن نظرتُ من الدنيا إلى حسن ... مذ غبت عني فلا متعتُ بالنظر

صحبتني والشباب الغض ثم مضى ... كما مضيت فما في العيش من وطر

سبقتماني ولو خيرت بعدكما ... لكنتُ أول لحاق على الأثر. . .

وقوله:

وا بؤس منفرد عمن يضاجعه ... مشرد النوم بين الأهل والمال

يزيد حر حشاه برد مضجعه ... ويملأ القلب شجواً ربعه الخالي

يبكي ويندب طول الليل أجمعه ... فلا يقر ولا يهدا على حال

هذه خواطر أملتها عليَّ قراءتي لديوان (أنات حائرة) الذي نظمه عزيز أباظة الشاعر لذكرى زوجته. ومن حق ناظمه الكريم - بعد تعزيتنا له - أن يفاخر بأن ديوانه الجديد هو أول ديوان في الشعر العربي يعمل برمته في رثاء زوجة.

محمد عبد الغني حسن