مجلة الرسالة/العدد 527/المسرح المصري،

4 - المسرح المصري «مجلة الرسالة/العدد 527/المسرح المصري،» والدرامة المنظومة للأستاذ دريني خشبة كان شوقي العظيم - عليه رحمة الله - لا يعجبنا! وكنا نتهم شوقي بأنه كان يعيش معنا بجسمه، ومع شعراء الأجيال السابقة بروحه وفنه. . . فهو يردد أوزانهم ويقلد قصائدهم، ويتخذ مطالعهم، ويغزل في أول منظوماته كما كانوا يغزلون، ويعارض الحصري والبوصيري وأبا تمام والبحتري كنا نعيب شوقي لأنه كان يصنع هذا، وكنا نعيبه لأنه لم ينظم للمسرح، فلما سمع إلينا ونظم المسرح أخذنا عليه المآخذ، وعددنا عليه الهفوات. . . والرجل العظيم عليه رحمة الله يصبر على ذلك ويبتسم، فلا يضيق بالنقد، ولا ينقم على النقاد، بل يبطل حجتهم بإخراج القطعة بعد القطعة، ونظم الغرة تلو الغرة، والنقاد الظالمون، لا غفر الله لهم ولا سامحهم، وإن كنت منهم، يلجون في غيهم، ولا يعجبهم من شوقي العظيم العجب، حتى أراحهم الله من شوقي، فنظروا حولهم، فإذا هم لم يستريحوا، وإذا هم يشعرون بفدح الخسارة التي منى الأدب العربي بها، والتي لم يستطيع أن يعوضها هذا الجيش العرمرم من الشعراء والشويعرين والمتشاعرين بمن فيهم من زيد ومن عمرو، ومن فيهم من هذا الذي كنا، في نوبة من الحماسة، نفضله على شوقي، ونزيف له أكاليل الغار، فلما مات شوقي، إذا إكليل الغار تمسخه الأقدار فيكون حزمة من القش. . . وإذا نحن نعترف في ذهول وحزن بأن الشعر العربي - أو الأدب العربي - قد أصيب بنكسة شديدة وارتكاس مؤلم، لأن النهضة التي بدأها شوقي وتركها وهي في المهد، لم يهيأ لها الشاعر الذي يرعاها ويبلغ بها شأو الطفولة. . . ولا نقول الصبا ولا نقول الشباب. . . تلفتنا حولنا فرأينا الشعر العربي يعود إلى حدوده الضيقة التقليدية، ورأيناه لا يعدو القصائد والمقطوعات والموشحات، ورأينا تلك البداية المباركة التي بدأها شوقي تنطوي على نفسها فتصبح من المخلفات الأثرية في المسرح المصري، حتى أوشك الممثلون الأفذاذ الذين أدوا الشوقيات الرائعة ينسون أدوارهم، وحتى أوشك الناس ينسون تلك الشوقيات ومع هذا فما زلنا نسمع من يجرؤ على التشدق بأنه أشعر الشعراء وسيد الأدباء، لا لشيء إلا لأن شعره يعجبه هو وإن لم يرق أحداً من الناس، فان سألته وهل حاولت ما حاول شوقي؟ سألك وماذا حاول شوقي؟ شوقي المقلد. . . شوقي الرجعي. . . شوقي الصدى. . . شوقي الذي لم تكن فيه روح الشعر وإن جاء بهرج النظم. إلى آخر تلك المهاترات الأدبية التي لم نتورع من إهدائها إلى شاعرنا العظيم حتى بعد أن ترك لنا الدنيا لنملأها نحن بالكمال الذي طالبناه به. . . ولست أدري ماذا يصرف شعراؤنا - أصلح الله بالهم - عن النظم للمسرح، ومنهم طائفة مثقفة واسعة الاطلاع عظيمة الدراية بالأدب الأوربي، اطلعت من غير شك على درامات شكسبير وبن جونسون ومارلو وغيرهم من الشعراء المسرحيين، وعرفت ما أفادته اللغة الإنجليزية من الدرامات المنظومة، وما فتح الله على أيديهم للشعر الإنجليزي وغير الشعر الإنجليزي من هذا الفتح العظيم الذي كانت آيته ذلك الشعر الحر الذي لا يعرف القافية ولا يتقيد بها، بل ينطلق من الروح أنغاماً سحرية مشرقة ذات بهاء وذات لآلاء، دون أن تذهب بهجتها في هذا الاطراد الطويل الممل الذي تجلبه القافية العربية وقد يعترض معترض بأننا ندعو إلى شيء فرغ غيرنا منه، حينما ندعو شعراءنا إلى نظم الدرامات للمسرح المصري. . . إذ ما حاجة هذا المسرح إلى الدرامات المنظومة في عصر سار فيه الأدب الواقعي، وتحرر فيه التأليف المسرحي من القيود المادية التي كانت تجعل أداءه بطيئاً وحواره مملولاً فيه كلفة وفيه تصنع. وهو اعتراض مردود. . . ويرده أن الأدب المسرحي الذي ندعو إلى إدخاله في الأدب العربي يجب أن يدخل إلى هذا الأدب بكل أنواعه التي عرفها الأدب الأوربي، ثم نحن ندعو إلى وجوب نهضة الشعر العربي وتوسيع آفاقه. . . ولن تتسع هذه الآفاق ما دام الشعر العربي بعيداً عن المسرح، إذ الدرامة المسرحية هي المجال الذي يتسع لأخيلة الفحول من الشعراء فيفيضون فيها من آرائهم في الحياة وآرائهم في الفن وآرائهم في الجمال وآرائهم في السلوك، ويبدعون ما شاءت لهم تلك الأخيلة من الصور التي يعالجون بها جراح الإنسانية ويهذبون بها انحرافاتها. . . كل ذلك في الدرامة. . . هذه القطعة الحية المتحركة فوق المسرح بأشخاصها الكثيرين، ذوي المشارب المختلفة والميول المتباينة، وبمناظرها الرائعة التي يكسبها الشعر جوها الساحر الجميل الخلاب. . . نريد إذن أن يجد شعراؤنا وأن يوسعوا آفاقهم، وأن يجعلوا للدرامة المنظومة شطراً من جهودهم التي ينفقونها كلها في الهنات الهينات من قصائدهم وموشحاتهم التي شبعنا منها إلى حد التخمة. . . ومعاذ الله أن يظن أحد أننا نعرض بأحد من شعرائنا أو من شعراء العالم العربي. . . فنحن إنما يتهم هؤلاء وهؤلاء بأنهم كسالى. . . وأننا حينما كنا ننقد شوقي ونهاجمه إنما كنا نتجنى على سيد شعرائنا غير مدافع، وكنا نغمط حقه ونظلمه. . . وإلا فأين من شعرائنا من استطاع أن يسمو إلى أفق شوقي أو أن يملأ هذا الفراغ الهائل الذي تركه وراءه؟ لابد إذن أن ينفض شعراؤنا غبار هذا الكسل، ولابد أن يحاولوا مثل الذي حاوله شوقي من قبل، والذي حاوله، ونرجو أن يستمر فيه، الشاعر الشاب الأستاذ محمود غنيم اليوم. فإن لم يفعلوا فلسوف يظل الشعر العربي جامداً في دائرته القديمة وهم بحمد الله لن يأتوا في حدود تلك الدائرة بعشر معشار ما أتاه الأولون من جاهليين ومخضرمين وإسلاميين وأمويين وعباسيين وأندلسيين. ونحن إن كان لنا أمل في أحد من شعرائنا المصريين أو الشعراء العرب عامة، فالشعراء الشباب هم مناط ذاك الأمل. وكم كنت أود أن أوثر الفريق الذي يجيد اللغات الأجنبية منهم على الفريق الآخر الذي لا يجيدها، لو لم يبرز الأستاذ غنيم في الفريق الثاني، فذهب بالفضل، واستحق الثناء، وجعلنا نتشوق إلى محاولاته التالية. . . أما شعراؤنا الذين يجيدون إحدى اللغات الأجنبية ويقعد بهم الكسل دون محاولة النظم المسرحي، ففي مقدمتهم الشاعر الرقيق النابغة الأستاذ علي محمود طه؛ ثم الأستاذ الشاعر المطبوع محمود الخفيف، ثم الأستاذان أحمد فتحي ومختار الوكيل. ثم الشعراء الجامعيون وشعراء المهاجر. . . إن هؤلاء هم المسئولون قبل غيرهم عن نهضة الشعر العربي وفتح الميدان المسرحي له على مصراعيه، لأنهم أعرف من غيرهم بماهية المسرح وما يستطيع أن يؤديه للغة والشعر من أمجاد، وذاك أنهم تأثروا بروح الغرب وأساليبه، تلك الروح العالية نلمسها في أشعارهم فنلمس فيها أثر بروننج وشلي وكيتس وبيرون ووردذورث ودي موسيه وليل وج. ب. روسو وليبران. . . فمتى يا ترى نلمس فيهم اثر بن جونسون وشكسبير وراسين وكورني؟ إنهم يعرفون من تاريخ الآداب الأوربية كيف ثار الشعراء الإنجليز على القوافي الشعرية وكيف أفاءت عليهم عرائس القرائح بنعمة الشعر الحر التي اهتدى إليها مارلو الإنجليزي، فأتى فيها بالأعاجيب، وفتح باب جنتها الفيحاء لشكسبير العظيم الذي ذلل قطوفها تذليلاً. . . فمتى يثورون في الشعر العربي مثل تلك الثورة التي لا يحسن أن يقوم بها غيرهم، لما تستلزمه من ذوق خاص أولاً، ووقوف على تاريخ الآداب الأوربية ثانياً، حتى يخطوا خطواتهم عن بصيرة وحسن دراية، مهتدين في ذلك بما تم من مثله في الآداب الأخرى التي يثقفونها أما شباب شعرائنا الذين لا يجيدون إحدى اللغات الأوربية بل لا يعرفونها، فقد جنوا على أنفسهم وعلى ثقافتهم بإهمالهم تعلو إحدى تلك اللغات مع ما كانت تبذله لهم دار العلوم من العون والتشجيع. ولعل دار العلوم هي التي جنت عليهم في ذلك، لأنها جعلت تعلم اللغة الأجنبية اختيارياً ولم تفرضه على أبنائها فرضاً، ولو أنها قسرتهم على تقلمها لحمل أبناؤها اليوم عبء الثورة على تقاليد الشعر العربي العتيق، ولأتوا في ميدان النظم المسرحي بالأعاجيب. على أنني لا أدري ماذا يمنع شعراء دار العلوم من الإكباب على لغة أجنبية يدرسونها ويتثقفون آدابها. ولست أدري أيضاً ماذا يمنع هؤلاء الشعراء، في مقدمتهم الأساتذة محمود حسن إسماعيل ومحمد عبد الغني حسن واحمد مخيمر ومن إليهم من أن يحتذوا حذو الأستاذ غنيم في النظم المسرحي؟ وللأستاذ محمد عبد الغني حسن إلمام لا بأس به بالإنجليزية، فما له لا يساهم في النظم الدرامي بنصيب؟ إننا حين نحاول سلك الأدب المسرحي في الأدب العربي، لا بد لنا ن خلق حركة أدبية إبداعية لا يحسن أن ينهض بها غير شعرائنا الشباب. والأدب الإبداعي (الرومانتيكي) هو أدب الخيال والجمال والسحر والشعر والخلق والابتكار. . . هو الأدب الذي يلون الحياة ويمد في طرفيها ويزيدها علواً وسفلاً، ويجعلها أعمق وأوسع آفاقاً. . . إنه الأدب تتضافر فيه جهود الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصورين ورسامين وصانعي ملابس. . . أنه أدب الألوان والعواطف والبرق والرعد والدموع والعواطف والأشجان. . . إنه الأدب الذي لا يجيده غير الشعراء الموهوبين الذين يستطيعون أن يخلقوا لنا دنيا أجمل من الدنيا التي نعيش فيها. . . دنيا ذات ألوان صارخة تتسع لأحلامنا التي نعجز عن تحقيقها في عالم الواقع. . . دنيا الشعر والموسيقا والغناء. . . دنيا نتفيأ فيها ظلال الرحمة والمحبة والحنان كلما بهظتنا دنيا الشقية بالآلام والنكبات. . . دنيا نتنفس فيها صعداءنا هانئين سعداء، لا نخاف رهقاً ولا نخشى عنتاً ولا نفزع من شجو ولا نضيق فيها بأنفسنا كما نضيق بها في دنيا الواقع إن القصائد والموشحات وحدها لا تستطيع أن تصنع لنا من ذلك كله إلا لحظة عابرة ثم نتردى من جديد في هوة آلامنا. . . أما الدراما المنظومة الإبداعية فكفيلة بأن تخملنا إلى السموات ساعات وساعات، وكفيلة بأن تخفف من أعباء قلوبنا، وما تنوء أرواحنا به من ضيق. . . ما هذا؟ أكلما أراد القارئ العربي المسكين أن يتسلى بشيء من الدرامة الإبداعية اضطر اضطراراً إلى اصطحاب شيكسبير ورهطه إن كان يحسن الإنجليزية، أو راسين وكورني إن كان يجيد الفرنسية، أو سرفنتس ولوب دي فيجا إن كان ملماً بالإسبانيه، أو شيلر ولسنج إن كان يعرف الألمانية، أو يقعد حزيناً محسوراً إن كان لا يعرف لغة أجنبية؟. . . ألا إن هذا لهو أشنع الخزي في أدبنا العربي، وفي شعرنا العربي بوجه خاص. . . إننا لن نغتفر مطلقاً لأدبائنا الكتاب تقصيرهم في إمداد المسرح المصري بدرامات مصرية، وأننا لن نغتفر مطلقاً لشعرائنا الكهول تقصيرهم في إمداد هذا المسرح بدرامات منظومة تغني الأدب المسرحي وتمد الأدب العربي بثروة طائلة لا تعد لها تلك الثروة التي تشبه الفقر من القصائد والمطوعات والموشحات. . . إننا نتساءل فيم أنفق شعراؤنا الكهول أعمارهم؟ لقد أنفقوها في نظم القصائد والمقطوعات، والقصائد والمقطوعات فحسب. . . فلن تجد في دواوينهم التي تعد بالعشرات ملحمة تشجيك ولا قصة تصيبك ولا درامة تسليك، ولا تمثيلية، ولو فصل واحد، يوسع بها أحد هؤلاء الشعراء حدود الشعر العربي في عصرنا الذي اتسعت فيه حدود كل شيء. . . الحق أن حالة دواوين الشعر العربي محزنة جداً، وهي محزنة بنوع خاص في دواوين شعرائنا المعاصرين الذين عرفوا أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية والأدب الأوربي. . . وإن مقارنة سريعة بين ديوان شاعر أوربي مثل بيرون أو روبرت بروننج وبين أي ديوان من دواوين شعرائنا، (فحلاً أو نصف فحل أو إمعة!) لتظهرك على هذا الفقر الشنيع في إنتاجنا الأدبي، وهو فقر يحسن الإنسان منه الخزي الشديد، فينصرف عن الشعر العربي والشعراء العرب وفي نفسه ما فيها من الحسرة والألم. . . فماذا في جميع دواويننا مما في ديوان بيرون مثلاً؟ إنك تقرأ في بيرون تلك الملاحم الطوال والمنظومات القصصية الرائعة، والتمثيليات الإبداعية الشائقة. . . إنك تقرأ دون جوان. . . تشيلد هارولد. . . بو. . . الجزيرة. . . الجياؤور. . . القرصان؛ ثم تمثيليات مارينو فالييرو، ورنر، قايين، مانفرد. . . إلى آخر تلك الروائع التي تكون ثروة بيرون الأدبية الهائلة، وإنتاجه الشعري العظيم. . . وكل من تلك الملاحم أو التمثيليات يصلح لأن يكون مجلداً ضخماً يزري وحده بأي ديوان من دواويننا. هذا عدا قصائده التي لا تعد. . . وبيرون مع ذاك مات شاباً كما مات شلي وكيتس، فلم تحل حياته القصيرة دون هذا الإنتاج البارع الغزير السامي. . . ومن الشعراء الإنجليز والفرنسيين والأسبان عشرات يفوقون بيرون غزارة إنتاج ويرتفعون إلى أفقه إن لم يفوقوه جودة. . . فمتى نفتح دواوين شعرائنا العرب فنباهي بها ولا يتولانا هذا الخزي؟ ومتى يتعاون شعراؤنا الكهول مع شعرائنا الشباب في رأب الصدع في شعرنا ولا يستعلون عليهم؟ دريني خشبة