مجلة الرسالة/العدد 529/حكاية الوفد الكسروي

مجلة الرسالة/العدد 529/حكاية الوفد الكسروي

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1943


1 - حكاية الوفد الكسروي

لأستاذ جليل

أنا ما جزمت في عزو (الخبر) إلى ابن بكار بل سألت وفرضت: جئت ب (هل) الاستفهامية، و (إذا) الظرفية الشرطية فقلت: (هل صاحب ذلك الكتاب هو الصائغ المحسن) وقلت: (وإذا ثبت قول (السليماني) في ابن بكار فمن يضع الحديث النبوي يضع الحديث الأدبي) وأوردت حديث (العلانية) وتركت القضاء للوقت حتى يثبت أو ينفي. وفي هذا الأسلوب في النقد الإنصاف كله. وبنيت على الشك والفرض لأني لم أقف على (كتاب وفود النعمان على كسرى)، ولم أجد رواية صحيحة تهديني إلى الحق في أمر النسبة. وإذا عز اليقين ظننا. وليس ظن الناقدين والباحثين في العلم من الظنون التي ذمها (الكتاب)، ولم أقصد زراية على القاضي في كل ما خططت وليست صفاته الطيبة بمانعته أن يضع، فقد كان الوضع في الحديث والأخبار والأشعار شرعة القوم. وهنالك كثيرون من الواضعين هم أقضى من الزبير بن بكار وأتقى وأكبر وأشهر. وهذا بحث طويل أدعه اليوم فله زمان سيظهر فيه إن شاء الله

وقلت: هل ابن بكار صاحب كتاب وفود العرب على كسرى هو الصائغ. ولم أقل هل ابن الكلبي صاحب (كتاب الوفود) هو الواضع لأسباب:

1 - عبارة الخبر أقرب إلى زمان ابن بكار، وأسهل من عبارة ابن الكلبي

2 - وضوح التسمية

3 - تنسيق في الخبر جلبه الوقت وارتقاء التأليف فقد كاد يكون رواية تمثيلية، وقد أنشأ أديب عصري منه رواية

4 - لم أجد الخبر في كتاب (الأغاني) ولم يرو أبو الفرج منه شيئاً، ولم يشر إليه في مكان، والظن أن لو رآه في (كتاب الوفود) وكان فاته. وقد روى من دواهي ابن الكلبي ما روى

وأما عزو الخبر إلى ابن الكلبي أو أمثال ابن الكلبي فهذا من براعة كل واضع بعده فقد اشتهر الرجل في الأخبار والأسمار والأنساب، والعنعنة أول شرط لمن يضع. والرواة المتقدمون كثيرون فلكل صائغ أن يربط خبره بمن أحب. فأبو حيان التوحيدي حين ات على الله وزخرف رسالة أبي بكر إلى علي (رضوان الله عليهما) أسندها إلى القاضي أبي حامد المروروزي يرويها عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أبي عبيدة بن الجراح

وهذا الإمام أبو بكر بن دريد ربط كثيراً من أساطيره المبثوثة في كتاب (الأمالي) لأبي علي القالي بابن الكلبي وربط طائفة منها بغيره. فمما عزاه إلى هشام هذا أسطورة ما وقع من المفاخر بين طريف بن العاصي الدوسي والحارث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير، وأسطورة ما وقع بين سبيع بن الحارث وميثم بن مثوب من المخاصمة بمجلس مرثد الخبر وأسطورة حديث خنافر الحميري مع رئية شصار. وعزا أبو بكر غير ذلك من الأخبار إلى ابن الكلبي. ومما رواه عن العتبي عن أبيه (خبر غسان بن جهضم مع ابنة عمه أم عقبة) وهو رواية ختمت حوادثها بالانتحار كما نشاهد في روايات غريبة تمثيلية

وأساطير ابن دريد في الأمالي كلها هو أبوها وأمها. وقد قلت ذات مرة للعلامة الأستاذ الكبير أحمد أمين بك: هذه الأخبار التي أنشأها ابن دريد ورواها أبو علي في أماليه مصنوعة

فقال (حفظه الله): الذنب ذنب الناس هو قدمها أساطير وهم أخذوها حقائق أو كما قال

وأنا أسأل في هذا المقام: هل أملى ابن دريد في مجلسه هذه الأخبار على القالي وغيره من تلاميذه أساطير مصنوعة معلناً ذلك كما أملى البديع الهمداني وابن الحريري مقاماتها فلما رواها أبو علي في كتابه تلقفها الناس أحاديث صحيحة، والتبس الأمر؟

وأما الصواغ العظيم ابن الكلبي فهذا مما قيل فيه:

وهشام ابن محمد بن السائب الكلبي أبو المنذر الإخباري النسابة العلامة روى عن أبيه أبي النضر الكلبي المفسر وعن مجاهد. وحدث عنه جماعة. قال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب نسب وسمر ما ظننت أن أحداً يحدث عنه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة. ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً قال: أسر إلى حفصة أن أبا بكر ولي الأمر من بعده وأن عمر واليه من بعد أبي بكر، فأخبرت بذلك عائشة رواه البلاذري في تاريخه. وهشام لا يوثق به وقيل: إن تصانيفه أزيد من مائة وخمسين مصنفاً، مات سنة أربع ومائتين) وابن عبد ربه الذي نقل حكاية الوفد الكسروي مصدقها هو الذي روى خبري (وفود عبد المسيح على سطيح ووفود قريش على سيف بن ذي يزن) مؤمناً بهما، وهذان الخبران يوضحان حالهما، وينبئان بصدقهما. ويناديان أنهما قد سبقا في الصحة والتحقيق خبر وفود النعمان وإضامته (جماعته) التي أوفدها على شاهنشاه لتثرثر قدامه متنفحة. ومن روى غير هياب تينك الأسطورتين روى هادئ البال الأسطورة النعمانية الكسروية. وقد قلت من قبل في سطيح وصاحبه شق قولي، فليعاود من أراد تلاوته. وهذا مما جاء في قصة وفود قريش، وروايته محسبة كافية لا تسأل نقداً ولا تقييداً

(. . . ثم انتبه (سيف) إليهم انتباهة، فدعا بعبد المطلب من بينهم، فخلا به، وأدنى مجلسه، وقال. يا عبد المطلب، إني مفض إليك من سر علمي أمراً لو غيرك كان لم أبح به، ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه، فليكن مصوناً حتى يأذن الله فيه. . . إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا. . . خبراً عظيماً. . . فيه شرف الحياة. . . للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة. قال عبد المطلب: ما هو؟ فداك أهل الوبر قال ابن ذي يزن: إذا ولد مولود بتهامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة إلى يوم القيامة. قال: أبيت اللعن. لولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة. قال: هذا حينه الذي يولد فيه أوقد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه. . . والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً،. . . يفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض، يخمد الأديان. . . ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمان. قال فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح، قال: والبيت ذي الطنب والعلامات والنصب إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب قال عبد المطلب: أيها الملك، كان لي ابن كنت له محباً. . . فزوجته كريمة من كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب. . . فجاءت بغلام بين كتفيه شامة، فيه كل ما ذكرت من علامة، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك، وأحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا. . .)

وسيد هذا الوجود ومعناه مستغن بالله وبكتاب الله عن تكهن المتكهنين، وصوغ الصواغين، وزخرفة محدثين

وسند ابن عبد ربه في هذا الخبر: (نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري. قال: قال ابن عباس)

وقد روى هذه الأحدوثة أبو الفرج في أخبار أمية ابن أبي الصلت وسند (كتاب عبد الأعلى بن حسان قال حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس)، وحدث أبا الفرج به محمد ابن عمران بإسناد ليس يحفظ الاتصال بينه وبين الكلبي فيه كما قال

وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني هو الذي أفاد أدباء العرب وكتابهم وشعراءهم، وشهر أمتنا وخلفاءها ورجالها برواياته المزخرفة. (لا سامحه الله)

(ن)