مجلة الرسالة/العدد 53/دق على الخشب

مجلة الرسالة/العدد 53/دق على الخشب

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1934



أو (بص وراك)

من عبارات الدعاء والتشميت لجلب الخير وطرد الشر عند الإنجليز قول الواحد منهم (مس الخشب) أو (دق على الخشب) كما نقول نحن (بص وراك) كأن هذا المس أو هذا الدق يطرد الشيطان أو العفريت الذي يتحفز غير منظور وغير مشعور به لقطع الخير عن أهله. يراد به أن يكون كالبسملة عند المسلمين أو كذكر الصليب عند المسيحيين ضماناً لحسن البدء وحسن الختام.

وقد رأينا مقالاً لعالم إنجليزي بهذا العنوان حاول فيه تعليل هذا المس وتسلط الخرافات على الناس قال:

(كلما مر يوم رأى العالم وقد عراه الدهش انه لا يزال في القرن العشرين أناس يؤمنون بالسحر. أما أنا فلا أفهم قدرة الناس على أن تدهشهم هذه الحوادث التي تتكرر في مدة قصيرة).

ففي سنة1921 كان حديث القوم عندنا ذلك المنزل المسحور الذي كانت فيه قوى غير منظورة تبعثر الأثاث والرياش في جميع جوانبه، وفي سنة1926 اتهم بعضهم بالسحر في محاكمة ملون، وفى سنة1928 روع الناس بوقائع سحرية في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.

هذا بعض من كل، وهم كلما سمعوا بحادثة من هذا النوع دهشوا لها أيما دهش وقالوا إنها مستحيلة، ومن التخرص والأحاديث الملفقة. ثم تراهم يدقون على الخشب ويحاذرون المرور تحت السلالم الخشبية ويلقون الملح من فوق أكتافهم إلى غير ذلك، هذا كله مع علمنا بان السحر خارج عن دائرة العقل والحقائق العلمية.

فان كان ذلك كله مستحيلاً وخارجاً عن دائرة العقل فكيف قوى على البقاء آلافاً من السنين، على حين أن خصوم السحر والسحرة جعلوا ديدنهم في كل زمان ومكان القبض على السحرة وحرقهم أينما وجدوهم. فهل هذا كله مناقض للعقل؟

كنا منذ مئة وخمسين سنة نقول إن طيران الإنسان مناقض للعقل، وكنا منذ عشرين سنة نقول أن من مناقضات العقل جلوس امرئ في منزله بلندن ينصت إلى عزف الموسيقى في برلين.

وقد علل بعضهم هذه الغرائب بقوله إنها من فئة الحقائق التي تخضع لناموس طبيعي مجهول، ومتى يعرف هذا الناموس تصبح الغرائب حقائق لا علاقة لها بالسحر، لأن السر لا يخضع لنواميس الطبيعية.

وقد تكون هنالك نواميس نجهلها، ومع ذلك فهي تعمل عملها كل يوم أمام عيوننا.

وفى سنة1770 كان الناس يسمون التنويم المغناطيس سحراً أي ضبط إنسان لحركات إنسان آخر وأعماله وهو يجهله تمام الجهلفلا يمكن أن يقال أن بينهما تواطؤاً وتدبيراً سابقاً.

ثم جاءت سنة1778 فسموه بالمسمرزم وسلموا به جدلا وعلى كره منهم كما نسلم نحن الآن بالتليباتي أي انتقال الأفكاروننتظر ناموساً طبيعياً لتعليله، ولكن هذا الناموس لم يكشف بعد ونحن نسميه في هذه السنة، سنة1934 بالهبنوتزم. فهل نستطيع أن نعلل بناموس طبيعي كيف يتمكن بعض الناس وفى أيديهم غصن من شجر البندق من أن يدلونا على ينابيع ماء تحت الأرض التي يقفون عليها وذلك بانحراف الغصن فجأة في أيديهم؟

وهل نستطيع كذلك أن نعلل تعليلاً طبيعياً حوادث شفاء المرضى والمفلوجين والمقعدين والمبتلين بسائر العلل في كهف لورد وتريبيه (في فر نسا) فان كنا لا نستطيع ذلك؟ وجب علينا الأيمان بالسحر ونبذ القول إننا نرفضه لأنه لا يعلل بناموس طبيعي نعرفه.

ثم ما هي هذه التي يسمونها حقائق علمية. أنا لا أعرف كثيراً منها، وإنما أعرف كثيرا من المذاهب والآراء العلمية. ففي أيام تلمذتنا كان من الأوليات أو البديهيات قولهم (إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين). ولكننا بعد مذهب آينشتين نعلم علمًا ليس بالظن أن ذلك ليس صحيحاً.

وكان من الحقائق العلمية في حداثتي أن أهل الكيمياء القديمة كانوا جهلاء وحمقى لأن القاعدة التي كانوا يبنون عليها تجاربهم وامتحاناتهم كانت فاسدة. فقد كانوا يقولون إن عناصر معدن من المعادن يمكن تحويلها إلى عناصر أخرى يركب منها معدن آخر. وعليه استدلوا أنه يمكن تحويل معدن ما ذهباً أو فضة باستعمال الوصفة الصحيحة لذلك. وبالفعل استحدثوا الذهب من النحاس، ولكن نفقات التجربة كانت اعظم من الانتفاع بها عمليا كما أن استقطار الزيت من الفحم كان إلى عهد قريب عظيم النفقة بحيث لا يمكن استخدامه تجارياً.

وبعد ما تقدمت في السن وجد العلماء أن تحويل المعادن بعضها إلى بعض حقيقة علمية كما ظن أهل القرن الثامن عشر لا خداعا كما ظن أهل القرن التاسع عشر بعده. فصار العالم بعد ذلك أكثر إجلالا لأهل الكيمياء القدماء وصرت أنا أكثر شكاً في الحقائق العلمية.

أما المذهب السحري فخلاصته هي أنه كما أنه حولنا قوى عظيمة الفعل كالكهربائية، وهذه القوى تنتج أشياء لا نزال نجهلها إلى الآن كذلك في داخلنا قوى عظيمة الفعل كالهبنوتزم و (التبصير) نستطيع بها بعد تربيتها وإتقانها أن نأتي أفعالا لا تخطر لنا الآن على بال.

ويقول الخبيرون بالسحر إننا نستطيع بهذه القوى أن نخضع جميع الأشياء المادية التي نراها حولنا من شفاء الأمراض والتكهن بالمستقبل. والمعيشة بلا طعام. والعوم في الهواء كما صنع الوسيط دوجلاس هوم في القرن الماضي بشهادة الشهود العدول. ونحكم الإنسان في مصيره.

وقد قسم المعاصرون الأعمال السحرية قسمين: سموا ما يراد به الخير والرشد السحر الأبيض، وما يراد به الشر والنكد السحر الأسود. فمن قبيل الأول الشفاء بالإيمان وهو الشفاء الذي يجرى على أيدي أئمة التبت. ومن قبيل الثاني سحر سحرة أفريقية بين قومهم السود. ومن غريب ما يذكر في هذا الصدد أن الموظفين الإنجليز والمبشرين في أواسط أفريقية يعودون منها وهم يعتقدون أن لأولئك السحرة قوة خارقة وإن لم يدركوها ويعرفوا لها تعليلاً.

وغاية (علم) السحر إن صحت تسميته علماً هي إضعاف شهوة الجسم بسلسلة من أعمال التمرين والرياضة والتقشف اعتقاداً أن (إماتة ما هو مادي إنما هي إحياء ما هو روحاني وما وراء الطبيعة فينا. وهكذا نتمكن بالأشياء غير المنظورة من إخضاع الأشياء المنظورة والتحكم فيها).

ولا نستغرب أن يصدق أهل أواسط أفريقية سحر سحرتهم وكهانة عرافيهم وكهنتهم ونحن نرى الأوربيين الذين يعيشون بينهم مبشرين وتجاراً ومستعمرين يحارون في تعليل بعض الحوادث التي يخبرونها بأنفسهم ويرونها بعيونهم، فما كدنا ننتهي من نقل مقالة العالم المتقدمة حتى قرانا حكاية لضابط إنجليزي فحواها أن بعض الأقوام الذين يعيشون حول بحيرة البرت نيانزا في أعالي النيل يقدسون التمساح ويقدم كاهنهم قرباناً له من آن إلى آن - فتاة صغيرة من فتياتهم لرد غضب الآلهة إذا أنسوا غضبها.

وقد روى هذا الضابط انه أنقذ فتاة أعدت طعاما للتمساح المقدس بترويع التمساح من غير أن يلحق به أذى. وأرسلها الضابط إلى مكان بعيد تشفى فيه من الروع الذي أصابها.

وفي اليوم التالي علم الكاهن بما صنع الضابط فجاءه معاتباً وقال له في جملة ما قال:

(أتظن الفتاة تنال الشفاء. لن يمضي عليها شهر من هذا التاريخ حتى تموت). وكان ما قال الكاهن

وقد روى الضابط ما حدث وعلق عليه بقوله: (ومما كان سببا في أسفي أنه مع كل ما بذل من الجهد لشفاء الفتاة ماتت في خلال شهر كما أنبأ الكاهن. أفكان موتها من لعنة الآلهة أم من تأثير الروع؟ ذلك ما لا يستطيع أحد معرفته)!

ق. س