مجلة الرسالة/العدد 53/قصة في رسائل

مجلة الرسالة/العدد 53/قصة في رسائل

مجلة الرسالة - العدد 53
قصة في رسائل
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1934



سعادة لم تتم

بقلم عبد الوهاب الخطيب

صديقي:

تسألني ما بالك كثير الإطراق، دائم التفكير، حائر البصر، مشرد اللب، بادية عليك علائم السقم؛ كأنك تعالج كتمان أمر في نفسك شديد على لسانك إعلانه. أو تشكو داء لا قبل لمثلك باحتماله. وتعلم يا صديق أنني كنت قبل ذلك كنت مرحاً غاية المرح، طروباً نهاية الطرب؛ وأنني كنت في مرحي وطربي لا أخرج عن كوني شاباً سعد حقبة من الزمان بالأمل الباسم وعين الزمان نائمة - والأمل جذوة الشباب وشعلته، وروحه وقوته، ومرحه وطربه، ولهوه ولعبه - فكنت بما بين ضلوعي من أمل أجري مع الشباب إلى تلك الغاية التي رسمتها لنفسي، مستسهلاً في سبيلها وراء الأمل كل صعوبة أمام الشباب، حتى إذا كنت من آخر المضمار قاب قوسين أو أدنى، فتح الدهر عينيه، ثم تثاءب وتمطى، ثم التفت إلي ونظر نظرة أنت تعلم ماذا كان وراءها!

يا ويحي!! لقد تأنق في مكروهي القدر، أخ في الورد من أيامه بالورد عثر، وعم ظلله المشيب ففر منه ونفر، وأمل علىآثارهما تحطم واندثر. ثلاثة أشباح كانت صروح سعادة ومنتديات أحلام، لم يفارق العين خيالها، ولم يهدأ القلب من طعناتها، ولم أفتأ اذكرها من حين إلى حين.

قلت قضاء حُمَّ، وأمر من الله نفذ، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، واستعنت الله على هذه النوازل فأعانني، واستهديته فهداني. وإن كانت في القلب جمرات من الأسى، مغطاة برماد من الصبر خفيف ضئيل. ولبثت على ذلك برهة كانت أقصر من عمر آمالي وسنات أحلامي، لم أشعر فيها بشيء من معاني الحياة، الهم إلا بذكرى في قلبي تتمثل، وخيال أمام عيني يتنقل. وكنت مع ذلك أرى كما يرى الناس، وأسمع كما يسمعون، أسير كما يسيرون. غير أني كنت انظر بعينين فيهما انكسار من بقايا آثار المدامع، وأسمم بأذنين فيهما رنين من صدى تلك الفجائع، وأمشي على قدمين يؤودهما حمل هذا الهيكل السقيم الناحل المتهدم، مشى من حنت ظهره السنون، وأثقلت كواهله الليالي والأيام!! ثم رأيتها لأول مرة، وقد ألقى عليها بارىء النسم ثوبين ضافيين من جمال وجلال، فأحسست نحوها بحنان كأنه رقة العشق، سرى في دمي سريان الكهرباء في أسلاكها، ومكثت طول يومي أفكر فيما سيصير إليه أمري بعد تلك النظرة التي كانت توفيق أقدار لأقدار.

يا لله يا صديقي! لشد ما ملكتإحساسي وشعوري في المرة الثانية، والقلب الهواء تجد فيه كل غيداء فراغاً لها. وكان قلبي لا يزال واقفاً على أطلال الأمل، يندب شجوه ويبث لوعته. فنظر إليها نظرة كنظرة إبراهيم في النجوم وقال إني سقيم. وكأنما، أرادت أن تداويه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر، فرنت إليه بنظرة جمعت شعبه ولمت شتاته، وأطفأت لهبه وأحيت مواته، فالتفت في مثل انكسار جفونها، ورفعالراية بالإذعان في شكر، والتسليم في طاعة. ثم كان بعد ذلك ما كان.

أخذ فكرى يسبح رويدا رويداً في ملكوت لا نهاية له من الخيال وراء هذه الظاهرة الغريبة التي ملكتني، وأصبحت أشعر بحياة جديدة فيها معنى حائر بين سعادة لا نهاية لها، ذلك أني احتويتها في جوانح القلب، واتخذت من عبقري جمالها ريشة لعبقري خيالي، فكان لا يرتسم في ذهني معنى إلا وفيه من حسنها مثال، ولا يقع نظري على شيءإلا وفيه منها رونق بهجة أو شعاع جمال، تلك سعادة علوية ساحرة قاهرة، تغطي على كل سعادة في الأرض لتظهر هي في صورتها البديعة اللطيفة فتنة لمن يراها أو يحس بها من الناس أجمعين.

لا أستطيع يا صديقي أن أصفها لك، فهي روح، والروح لا توصف، وهي حياة، والحياة لا يمكن إنسانا في الوجود تكييفها، وهي مع هذا وذاك سر لا يدركه غيري، ولا يحسه أحد سواي، وكل ما أستطيع أن أقوله لك إنها مشرقة الطلعة، معتدلة القامة. مطمئنة السير، فيها لمحات محدودة من الإنسانية العالية السامية. هبطت بها إلى هذا الملأ الذي نعيش فيه كدليل حسي على أسمى مراتب الجمال وأتم مظاهر الجلال.

لقد مضت علي يا صديقي مدة تزيد على ثمانية عشر شهراً،

لم أحاول فيها أن أطرق سمعها - على قربها مني - بكلمة واحدة تفهم منها ما يكنه قلبي من الحب لها والوجد بها، وكم تمنيت أن أسمع من فمها الرقيق الساهم الحالم كلمة واحدة، فلم أجد إليها من سبيل، كما أني لم أملأ منها عيني حياء وخجلا، واكتفاء بصورتها المرسومة في حبة القلب وفوق صفحات الخيال، على أن طريقي كانت تتحول تبعاً لها على غير قصد مني، حتى إذا لم يكن من توديعها بالنظرة بد، وضعت يدي على صدري كمن يتلمس شيئا فقده، وما فقدت إلا قلباً تقطر كالدمعة الحمراء من بين أهداب الجفون.

لا يزال صولجان المقادير يقذف بقلبي في واد من الذكريات القديمة ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، كلما طال علي الأمد في لقائها، والآن يا صديقي وقد مضت علي مدة تزيد على شهرين لم المحها فيها لمحة واحدة، أقول لك إن هذا هو سر إطراقي وتفكيري، فلا تسألن عن شيء بعدها حتى أحدث لك منه ذكرا.

21 - 7 - 1932 صديقكجمال

صديقي:

أوقد فعلتها؟ يا قلبي!! ما كان أحرصني على الاحتفاظ بالسر وكتمانه، لولا أنني أعتقد أن لي من قلبك وإخلاصك ووفائك ما يجعلني أستريح إلى أن أبوح لك (في شيء من التحفظ كثير وبعد مضي زمن على كتمان هذا السر طويل) بما كنت أقاسيه أناء الليل وأطراف النهار من لواعج قلبي، وزفرات أنفاسي ودموع عيوني، ولكن غفر الله لي ولك يا صديقي ما تقدم من ذنبنك وما تأخر، فان هذه القلوب الطاهرة البريئة، المكتهله في شبابها، الرزينة في حبها، لا يمكن أن تتصل في يوم من الأيام بغير ما يماثلها شرفا وطهرا، ورزانة ونبلا.

ولئن وقع خطابي في يد غير يدها، ورأته عين غير عينها، وطرقت نبراته الحزينة سمعاً غير سمعها لخطأ في الاسم كما يقال، فانني لسعيد مغتبط، هنئ ملئ قرارة نفسي وطوايا فؤادي، ذلك أن خطابي وقع في يد شريفة وعند قلب ذي إحساس سام، يعرف المعنى المرتسم فيه كما أريد، وأغلب الظن أن الله قد يهئ لي من أمري هذا رشداً. ولعله يكون قريباً والسلام.

14 - 9 - 1932صديقك جمال

عزيزتي:

عبثا كنت أخادع قلبي بالسلو عنها أو الإفلات من براثن حبها بعد أن جاءني خطابك الأخير، فإنها لم تدخل قلبي إلا بعد أن صهرته آلام الحياة وأحزانها، وأصبح نقيا شديد الإيمان بقضاء الله وقدره، صادق الإحساس بما يجري حوله في الحياة من مظاهر خادعة وأخرى مخدوعة، مطمئنا إلى الحياة من حيث هي وجود ناقص أحياناً وتام أحيانا، عالماً أن لكل شيء نهاية لابد وأن ينتهي إليها

ولقد أيقنت من يوم أن أحسستها تجري في دمي أن الله قدر لي أن أحبها، فأحببتها لنفسي، وأحببتها لأن الله أراد ذلك، وكان قلبي صادق الحس بها، فلم تكن خادعة ولم يكن مخدوعاً، وكان وقوراً حكيما فاكتفى بأن يحبها هو من غير أن يتساءل ما هي ميولها نحوه؟ وهل تعلم أن في العالم المحيط بها قلبا يرفرف عليها في غدوها ورواحها، في مسائها وصباحها، في يقظتها ومنامها، في دمعتها وابتسامتها؟ ومن هو صاحب هذا القلب؟ وبعد ذلك اطمأننت إلى أن الحياة من حيث هي وجود ناقص، هي تلك الساعات التي لا تجرى فيها المدامع من شوق، ولا تسيل فيها النفوس من ذكريات وحنين، وأيقنت بعد هذا وذاك أن الحب كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، ولا يقال في نقطة منها إنها نهاية إلا قيل في نفس الوقت إنها بداية

لقد ذهبت بك الظنون كل مذهب في أمري، بل أيقنت أنك قد أصبت المرمى حين أرسلت إلى خطابك المفوق، وإني أقول لك بلغة يقطر منها الشكر إن خطابك كان فيه الشفاء لقلبي من الناحية التي تريدينها، وإني ما سكت هذه المدة إلا لأختبر قلبي واستشير عقلي، أما القلب فلم يجد عنها حولا، وأما العقل فأشار بأخذ رأيك فيها من جهة ميولها نحوي، فان كنت عندها شيئاً فابسمي يا دنيا، وأشرق يا أمل

كنت في بعض الأيام اراها، فيحترق قلبي من الشوق إليها وهي أمامي، ولا يكاد نظري يلتقي بنظرها حتى ينقلب إلى خاسئاً

وهو حسير، وكنت أستجمع قواي كلما رأيتها لألقى إليها بالتحية في فيحتبس لساني من العي - لا طبيعة فيه ولكن جلالا لا أدرى له مدى، وجمالاً لا أعلم له غاية، وسحراً بين هذا وذاك قوياً شديداً، كانت ثلاثتها تقيد لساني عن النطق تقييداً أعتبر نفسي منه في حد من السعادة محدود - ولقد كان الجو المحيط بنا يمرح في عبق من أنفاسها وتحايا قلبي، غير أنها كانت كالزهرة تفوح رائحتها عند الصباح، وكان قلبي كعود الصندل، كلما لا مستهالنار فاح.

مرت تلك الأيام كالأحلام الكبرى لذيذة مستعذبة، قصيرة كالنظرة، طويلة كالعبرة، وخلفتها أيام أعاني من مرها ما أعاني! فلقد سافرت إلى البلدة لقضاء بضعة أيام هناك، وكأنما كانت الأسقام مني على ميعاد:

يا ويح أهلي يروني بين أعينهم ... على الفراش ولا يدرون ما دائي

ومكثت هناك بدل سبعة الأيام التي صرح لي بها سبعة عشر يوماً. ثم عدت إلى القاهرة وفارقت الحي الذي ولد فيه هواي وترعرع، إلى حيث أنا الآن، وهأنذا ابعث إليكما منه وراء قلبي بتحيات كأضغاث الريحان لا تكاد تبلل بندى المدامع حتى تجفف، بزفرات الأنفاس، والسلام.

فبراير سنة 33 جمال

صديقي:

كتب أحد الحكماء إلى صديق له يقول (يا أخي إن أيام العمر أقل من أن تحتمل الهجر) وكنت قرأت فيما قرأت كلمة للامرتين يقول فيها (إن الحب القوي المطمئن صبور) فأنا بين هذين في حيرة، ترى متى أهتدي إلى سبيل؟.

مارس سنة34

جمال

أختي سعاد:

لماذا لا تكونين بجانبي في كل لحظة كما كنت من عهد قريب؟ أنا في شدة الشوق إليك وإلى سماع حديثك العذب الجميل، وكم أود أن أفضي إليك بسر يجيش به صدري ولا يمكن أن ينطلق به لساني لغيرك. كنت إلى الأسبوع الماضي فارغة الفؤاد، وكنت على أن أطلب إليك الحضور لأناقشك موضوعاً خطيراً قرأته ليلة أمس في رواية (مجنون ليلى) وهو لماذا حكم على ليلى بالموت قبل قيس؟ ألأنها كتمت حبها؟ إن كان الأمر كذلك فأني - خوفاً على حياتي الشابة - أقول لك يا عزيزتي - واثقة منك كل الوثوق - إنني بدأت أشعر بقلبي يميل رويداً رويداً إلى شاب كان يطالعني بعض الأحيان كئيباً حزيناً كأنه دفن قلبه بيده، رأيته على حالته تلك منذ ثلاثة أعوام، ويخيل لي أنه محب يكتم حبه أيضاً.

ألا ما أسعد تلك الفتاة التي تتيح لها المقادير مثقال حبة من احترام هذا الفتى النبيل!!

ضعي يا عزيزتي بجانب هذه الجملة سعادة من استولت، على قلبه كله.

أرجو أن أراك يوم الخميس المقبل وإلى اللقاء.

2 أبريل سنة 34 أختك فتحية

وفى عصر الخميس تلاقت الصديقتان في منزل فتحية هانم، وكان بيد الآنسة الزائرة إحدى جرائد المساء، فجذب نظر فتحية إليها صورة شاب غضير الشباب في صدرها فتناولت الجريدة من صديقتها ورأت الصورة ورأت تحتها ما يأتي:

(المرحوم جمال الدين أفندي الموظف بوزارة المالية، علقته المنون وهو في بريق شبابه)

فامتقع لونها وأدركتها حال شديدة من الذهول والحيرة، فأقبلت عليها صديقتها تسألها ما بها، فقالت لها وهي تشير إلى الصورة الضاحكة، والخبر المبكي:

أمل لم يزدهر، وناشئة حب لم تبق، وسعادة مرجوة لم تتم!

ثم ألقت في يدها مجموعه من الرسائل البالية، وقالت والدمع

يسيل على خديها، ومرارة الأسى تجري على شفتيها: إقرئيعبد

الوهاب الخطيب