مجلة الرسالة/العدد 53/من الأدب الهندي

مجلة الرسالة/العدد 53/من الأدب الهندي

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1934



عود إلى محمد إقبال

للدكتور عبد الوهاب عزام

كتبت في الرسالة عام أول طرفاً من أخبار شاعر الهند العظيم، وفيلسوف الإسلام النابغة الدكتور محمد إقبال، وترجمت نبذاً من ديوانه (بيام مشرق). ولإقبال كتاب اسمه (أسرار خودي)، وهو كتاب منظوم شرح فيه (أسرار خودي) أي أسرار الذاتية، فبين بأسلوب شعري رائق أن حياة الإنسان والأمة في تقوية النفس، واستخراج كل ما فيها من قوى ومواهب، وأن الهلاك أن يغفل الإنسان عن فطرته، ويردّ د آراء الناس، ويحاكي أعمالهم. الخ

ولإقبال كتاب آخر اسمه (رموز بيخودي) أي رموز اللاذاتية، يبين فيه كيف يؤلف الإنسان نفسه القوية في الجماعة ساعياً إلى المقاصد العامة. والكتابان منظومان في بحر الرمل على القافية المزدوجة.

وسيرى القارئ في هذا المقال وما يليه نبذاً من الكتابين، على ان قارئ هذه الترجمة العربية المنثورة يفوته كثير مما يحس به قارئ شعر إقبال في لغته.

وفما لي قطعة من أسرار خودي:

(قصة شاب من مرو ذهب إلى السيد المعظم علي

الهجويريفشكا إليه حيف أعدائه عليه):

سيد هجويري قبلة الأمم الذي صار مرقده حرماً في بيرسنجر، جاب الأقطار، وقطع سلاسل الجبال، وبذر في أرض الهنود بذور السجود؛ فجدد عهد الفاروق بجماله، ورفع صوت الحق بجداله؛ عزت (أم الكتاب) بحماسته، وخربت دار الباطل بنظرته، وحيت أرض البنجاب بأنفاسه، وتلألأ صبحنا بشمسه، عاشق وهو رسول للعشق سيار، تتجلى، من جبينه للعشق أسرار.

أقص عليك من أنبائه عبرة، فأطوي بستانا في زهرة:

ورد لاهور شاب من أهلمرو مرير القوى، فأمّ حضرة السيد الرفيع ليقشع بشمسه ظلمات نفسه.

قال: يا سيدي أحاطبي الأعداء الفجار، فأنا منهم كزجاجة بين أحجار، فعلمني يا ذا السنا والسناء، كيف العيش بين هؤلاء الأعداء.

قال المرشد العليم الذي ائتلف في نفسه الجمال والجلال:

يا جاهلاً بأسرار الحياة، وغافلاً عن مبدئها ومنتهاها؛ افرغ من هم غيرك، وأيقظ القوة النائمة في نفسك. إن الحجر الذي يتوهم نفسه زجاجة بين الأحجار، ينقلب زجاجة غايتها الانكسار. ومتى ظن المسافر الضعف بنفسه، فقد أسلم لقاطع الطريق روحه. حتَّامَ تعدّ نفسك طيناً وماء؟ أخرج من طينتك شعلة الطور ناراً وضياء. ماذا التكبر على الأصدقاء، وما هذه الشكاة من الأعداء؟ لا ريب أن عدوك صد يقك، وأن وجوده رونق حياتك. كل من وعى مقامات الذاتية يحمد الله كلما ألفى عدوه في قوة.

العدو من الإنسان كالسحاب من الأرض، يغشاها، فيوقظ من سباتها قواها. وإن حجر الطريق ليسيل كالماء، أمام الهمة القعساء. وما السهل والحزن أمام السيل المنهمر، عقبة الطريق مسن لسيف العزم، وقطع المراحل اختبار لهذا السيف، ما العيش في أكل ودعة كالحيوان الأعجم؟ وما غناء الحياة وأنت في نفسك غير محكم؟ حصن نفسك بالذاتية يسخر لك العالم كله. تجرد من نفسك إن ترد الفناء، واعتصم بنفسك إن تبغ البقاء. هل الموت إلا غفلة عن الذاتية؟ وهل افتراق الروح والجسم إلا هذه المنية؟ اتخذ من نفسك مستقرأ لتنجو من الهلك؛ ثم امض قدما - كيوسف - من الإسار إلى الملك. تفكر في الذاتية وكن رجل الجلاد السباق إلى الغايات، كن رجل الحق المليء بالآيات. هأنذا أشرح بالقصص الأسرار، وأفتح بالنفحات أكمام الأزهار. (خير أن يأتي سر الأحباب حديثاً في قصص الآخرين)

(قصة الطائر الذي أنهكه العطشى)

بلغ العطش من طائر جهده، فاضطرب نفسه موجة من الدخان في صدره، فأبصر في بستان شذرة من الماس الوضاء، فخيل إليه العطش أنها ماء. وخدعت الطائر المجهود هذه الشذرة المتلألئة كالشمس، فتوهم الحجر الصلب ماء سائلا، وغره من هذا الجوهر بريقه فضرب بمنقاره فلم تنقع غلته. قالت الماسة: أيها الطائر المسحور! لشد ما ضربت بمنقار الغرور؛ لست قطرة من الماء، ولا شربة للظماء، ليست حياتي من أجل غيري. إن محاولة التقاطي جنونوغرور، وغفلة عن الحياة الذاتية الطهور، إن مائي يكسر من الطير منقاره، ويصدع من الإنسان جوهر روحه.

خاب أمل الطائر فأعرض عن هذه الشذرة الوضاءة، وانقلب الأمل في صدره حسرات، واستحالت أنيناً هذه النغمات. ثم بصر بقطرة من الطل على فننٍ من الورد، تتلألأ كدمعة في عين البلبل، ضياؤها استغراق في حمو الشمس، وهي من جوف الشمس في رعدة. كوكب خفاق ولدته السماء، فلبث لمحة في نشوة الظهور والضياء؛ وخدعته ألوان الأكمام والأزهار، فلم يأخذ من الحياة نصيباً، كدمعة العاشق العليل، زانت الهدب لتسيل.

ويسرع الطائر إلى فنن الورد فيلتقط قطرة الندى.

أيها المبتغي نجاة من الأعداء! خبرني أجوهر أنت أم قطرة من ماء؟ ألم تر إلى الطائر حين أذاب العطش مهجته كيف وقى بحياة غيره حياته؟ لم تكن القطرة في صلابة الجوهر، ولكن كانت الماسة صلبة المكسر. فلا تغفل عن حفظ الذاتية لمحة، وكن قطعة ماس لا قطرة. كن ناضج الفطرة راسخاً كالجبال، وتحمل بحاراً من السحاب الهطال. وجد نفسك بقوى نفسك، واستحل فضته بجمود زئبقك. أظهر نغمه الذاتية من أوتارها، وتجل للناس بأسرارها.

(قصة الماس والفحم)

وهذا حديث آخر يفتح لك من الحقيقة بابا:

قال الفحم للماس وهما في المعدن: يا من أودعت هذا التجلي الأبدي! نحن رفيقان، وفى المنشأ صنوان، وهأنذا أموت في معدني ذلة، وأنت تعلو تيجان الملوك عزة، وقدري من سوء الجبلة دون الحصاة، وجمالك يصدع قلب المرآة. يضيء بظلمتي المجمر الوقاد، فإذا غاية جوهري هذا الرماد. منزلتي من الناس مواطئ الأقدام، وغايتي أن أكون طعام النيران. إنها لحياة جديرة بالبكاء، فما وجودي إلا هباء؛ موجة من الدخان مركومة، وأما أنت فكالنجم وجهك وسيمتك تفيض بالنور كل جوانبك. فأنت حيناً قرة عين قيصر، وأخرى حلية في مقبض الخنجر.

قال الماس: أيها الرفيق البصير إن التراب الأغبر إذا نضج فهو جوهر، وأنا ما زلت أجالد ما حولي حتى أنضج الجلاد نفسي، فانقلبت صلباً كالحجر، مضيئا كالنجم، وامتلأ صدري بهذه التجليات. وأنت من حياتك النيئة ذليل، محتقر من رخاوة بدنك العليل، فرغ من الخوف والغم فؤادك، وانضج كالصخر وكن ماساً بجهادك. فكل من جاهد في الحياة صبوراً، يملأ العالمين نوراً. إن الحجر الأسود كان تراباً بالتكريم غير خليق، فصار حلية في صدر البيت العتيق، فاق الطور رفعة وصعد، حتى صار مقبل الأحمر والأسود.

إن في الصلابة ماء الحياة وسر البقاء، وإن في النيوءة الهوان والضعف والفناء.

عبد الوهاب عزام