مجلة الرسالة/العدد 531/المشكلات
مجلة الرسالة/العدد 531/المشكلات
4 - اللغة العربية
للأستاذ محمد عرفة
لماذا أخفقنا في تعليمها؟ - كيف نعلمها؟
في الأمثال العربية - قتلت أرض جاهلها، وقتلت أرضا عالمها - ومعنى ذلك أن من سلك أرضا وكان جاهلاً بطرقها ضل وهلك، ومن سلك أرضا وكان عالماً بمسالكها قطعها ونجا منها. وهذا لا يختص بالأرض والمسافر، بل يعم كل من يزاول أمراً من الأمور، فإن زاوله عالماً به تغلب عليه، وإن زاوله عن جهل خاب فيه
للعلم سلطانه القاهر، والتسلح به متسلح بسلاح الظفر، وللجهل عثراته الموبقة، والمتسلح به متسلح بسلاح مفلول. إن الأمم التي تحل مشاكلها مستضيئة بنور العلم تنجح فيما تحاول، وتتغلب على الصعاب التي تعترضها، والأمم التي لا تستهدي العلم ولا تستشيره في مشكلاتها، لا تكاد تحل لها مشكلة
وما الفرق بين الأمم المتحضرة والأقوام الهمج، إلا أن الأولى آمنت بالعلم وبسيطرته على الوجود، فسعت للكشف والمعرفة، وكلما علمت شيئاً استفادت منه في حياتها، وأن الثانية لا تؤمن هذا الإيمان بالعلم، ولا تعترف له بهذه القدرة، فهي تحل مشاكلها بما يأتيها به عفو الخاطر، فتعثر دائماً ويلج بها العثار
وخير علاج ما يكون مبنياً على طبائع الأشياء، فأول ما يبدأ به معرفة طبيعة الشيء، ثم يعالج على حسب هذه الطبيعة وبنور هذه المعرفة
وعلى هذا فخير ما يعمل لحل مشكلة اللغة العربية أن تعرف طبيعتها ومن أي جنس هي! وما خصائص هذا الجنس! وقد أدركت ذلك واقتنعت به، ونريد أن نقنع به القراء
قضيتان إن آمنتم بهما سلمتم معنا بما نريد: إحداهما أن اللغة في المتكلمين بها ملكة. ثانيتهما أن الملكة لا تكتسب إلا بالتكرار لا بالقواعد فحسب
إذا استطعت أن أقيم الدليل على هاتين القضيتين وصدقتم بهما وجب أن تصدقوا أن اللغة لا تكتسب بالقواعد فحسب، بل بالتكرار والحفظ والمحادثة، وسأحاول ذلك فيما يأتي: اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. والتعبير باللغة والفهم عنها يقتضي أمرين:
1 - السرعة؛ فكلما خطر بباله معنى خطر اللفظ الدال على مفرداته، وخطر التركيب الدال عليه في وحاء، وكلما سمع جمله فهم معاني ألفاظها وما يدل عليه التركيب
2 - الإجادة؛ وذلك بأن يكون جارياً على قوانين هذه اللغة لا يخطئ فيها، وذلك لا يكفي في أن تكون اللغة معلومة فحسب، بل لا بد أن تكون ملكة، أي حالة راسخة في النفس، لأنها إذا كانت معلومة علماً ساذجا ولم تصر ملكة، وأراد المتكلم التعبير عن معنى، فكر وروى في اللفظ الذي يدل على ذلك المعنى، واستعرض الألفاظ المخزونة في حافظته حتى يعثر به، ثم فكر فيما يعلمه من تراكيب هذه اللغة ليختار التركيب الذي يفيد ذلك المعنى، ووضع اللفظ في هذا التركيب، وأعطاه الأحوال المناسبة، وذلك يقتضي جهداً وزمناً، وربما ينقضي بياض النهار وسواد الليل في تعبيرين أو ثلاثة، ما دامت اللغة علماً ساذجا. أما إذا عمقت إلى أن صارت ملكة، فإنه إذا أراد التعبير عن معنى انثالت عليه الألفاظ، وانثالت عليه التراكيب دون جهد ومشقة، سريعاً لا يبطئ، مصيباً لا يخطئ
وقياس ذلك قياس العامل الذي يصف الحروف للطبع، فإنه إذا كان مبتدئا واقتصر على العلم بأمكنة الحروف، وأراد بعد هذا العلم الساذج أن يصف حروف كلمة اقتضاه ذلك من التفكير والجهد والزمن ما ليس بالقليل، وربما انقضى اليوم ولم يصف إلا بضع كلمات
أما إذا تجاوز ذلك إلى أن صار ملكة، فإنك ترى يده تلقط الحروف من هنا ومن هنا، وفكره يسبق يده، ويده تسبق فكره، حتى يصف في الدقيقة عدة كلمات
وهذا شأن الملكات كلها تأتي بالشيء بعجلة وإتقانٍ، وتريك العجب العجاب، ترى الأمر الذي له أجزاء كثيرة ويحتاج إلى فكر في هذه الأجزاء يأتي به صاحب الملكة دون فكر كأنما هو ساحر يأتي بالخوارق
رآني صديق أمي، كان قد بدأ في تعلم القراءة والكتابة أقرأ فهالته السرعة والإصابة، فقال أتظنني أصدقك في أنك تقرأ من هذا الكتاب؟ لا، إنك تقرأ من حفظك. أمجنون أنا حتى أصدق أنك تقرأ ما لا تحفظ؟ أفي هذه السرعة تعلم ما هذا الحرف وما الذي يليه وهكذا وتعلم حالاته أمفتوح أم مضموم أم مكسور أم ساكن، وإن تركيب ذلك يكون كذا؟ وهبك عرفت هذه الكلمة فكيف تعرف صاحبتها بهذه السرعة، وكيف تجمع من الحروف كلمات ومن الكلمات جملاً، منطلقاً كالسهم، مصيباً كالقضاء؟
وهذا تفكير سليم لو أغفلنا من حسابنا أمر الملكات، ولكن الملكات كائنات من كائنات هذا الوجود، ولها هذا الفعل الغريب، والسحر العجيب. إن النجار الذي اكتسب ملكة النجارة يأتي بأعمال أشد إتقاناً وأسرع ممن لم يكتسب ملكة النجارة. إنه يدق المسمار بالقدوم مائة مرة، فلا تخيب منها مرة، حتى أن صاحبه ليمسك له المسمار وهو يدق آمناً أن تفلت منه ضربة فتصيب يده، ومن لم تكن عنده ملكة النجارة يدق مائة مرة فلا تصيب رأس المسمار منها واحدة
وإن المرء ليعجب للحائك كيف يسلك الخيوط في الخيوط المشدودة بحركة سريعة وإتقان عجيب لا يدخل الخيط في غير موضعه المراد له، ولا يعقد ولا يقطع. وإن الملكة لتدخل في أغلب أعمالنا فتجعلها أعظم إتقاناً وأسرع، وتجعلنا نأتي من الأعمال ما نحتاج إلى آلاف السنين لنعمله لو لم تكن عندنا هذه الملكات. فبالملكات نكتب ونقرأ ونتكلم ونحسب ونعمل في الصناعات المختلفة من حياكة وخياطة ونجارة وحدادة وطباعة مع الإسراع والإجادة والإحسان
ولولا الملكات لما قمنا بهذه الأعمال وسواها إلا مع الخرق والإبطاء كما أريناك في صفاف الحروف الذي لم يكتسب ملكة في صنعته. وإن الزمان لأسرع من أن ينتظرنا، وحاج الحياة شديدة الإلحاح تتطلب السرعة والإجادة، وإن قوة المرء محدودة لا تفي للعمل بدون ملكة لأن ما كان من الأعمال كذلك يقتضي من المرء جهداً ومشقة وتفكيراً تستنفد من قوته ومن دمه وأعصابه ما هو بحاجة إليه
وإنها لحكمة من الله عظيمة أن يخلق فينا الملكات فتجعلنا نجيب مطالب الحياة المتعددة بأقل ما يكون من الزمن، وأيسر ما يكون من الجهد، وأسرع ما يكون من العمل، لاسيما حاجة التخاطب. فالله أرحم بعباده من أن يقف التخاطب على هذه الجهود المضنية، والمتاعب الشاقة، والتخاطب عمل دائم، لا تنقضي منه حاجة حتى تتجدد حاج، ولا يفرغ المرء من خطاب حتى يستأنف خطاباً آخر، ولا يفرغ من فهم خطاب إلا إلى فهم مخاطبات أخرى وهلم جرا. . .
لقد قلنا الآن ما يمكن قوله في أن اللغات في الناس ملكات يقتدرون بها على الإفهام والفهم، وأظن أن القراء آمنوا بذلك لما أوردته من الأدلة
وقد بقى أن أقول في القضية الأخرى وهي أن الملكة لا تكتسب بقواعد وإنما تكتسب بالمزاولة والتكرار
إذا استقريت الملكات ولاحظت كيف تتكون علمت أن الملكات لا تكتسب إلا بالدأب والمرونة وتكرار العمل لا بالقوانين والعلم المجرد. لاحظ صناعة صف حروف الطباعة تجد أن العامل إنما يكتسبها بمزاولة صف الحروف والتقاط الحرف من مكانه المخصص له وتكرار ذلك حتى تكتسب الملكة، وليس يكسبها بالعلم المجرد بأن من أراد صف كلمة فليأخذ حروفها المتعددة من أماكنها المخصصة لها وهكذا فإذا أتم صفحة وضعها بين ضاغطتين لمنعها من الشتات والانفراط
لاحظ صناعة الموسيقى تجدها لا تكتسب بقوانينها الفنية فحسب، فلا تكتسب بقول الأستاذ اضرب بالخنصر والبنصر والسبابة وشد الأوتار؛ إنه بذلك لا يكون عازفاً ولا موسيقياً إنما يكون موسيقياً إذا زاول هذا الضرب مراراً وتكراراً، فأكسب أصابعه المرونة والسرعة والاستجابة لما رسمه في وحاء، ثم أكسب نفسه وذوقه بذلك الملكة في الموسيقى وفنها الجميل
ولو مكثت طول عمرك تقول لمتعلم الحياكة شد الخيط طولاً وأدخل فيها الخيوط عرضاً ذاهباً يمنة وذاهباً يسرة لما تعلم بذلك شيئاً من الحياكة؛ إنما يتعلمها بمزاولة هذه الأعمال حتى تكتسب يده الخفة والمرونة
ولو رددت على متعلم السباحة قولك اركض برجلك اليمنى في الماء، واضرب بذراعيك، لما تعلم بذلك السباحة، ولو سبح متعمداً على هذه القواعد لأدركه الغرق ولذهب ضحية القواعد والقوانين
الآن علمنا أن اللغة في المتكلمين ملكة، وعلمنا أن الملكة لا تكتسب بالقواعد، إنما تكتسب بالمرانة والتكرار، فليلزمنا شئنا أو أبينا الإقرار بأن اللغة لا تكتسب بالقواعد، إنما تكتسب بالحفظ والتكرار وهو المطلوب الذي حاولنا إثباته
أرأيتم أنني كنت مصيباً حين قلت يجب أن نحل مشاكلنا بالعلم، ويجب أن نعرف طبيعة الشيء وخصائصه لنبني الحل على هذه الطبيعة؟ أرأيتم كيف كنا نعلم اللغة على غير طبيعتها، أرأيتم كيف كنا نمثل دوراً مخجلاً، فكنا كمن يطرق الحديد وهو بارد فيشقى ثم يشقى والحديد لا ينطرق معه ولا يلين، فيهزأ منه من يراه، ويضحك ملأ شدقيه، ويرى كيف يشقى الجهل بطبائع الأشياء صاحبه، ثم لا يحظى بطائل ولا كبير فائدة
اكثروا من المطالعة في كتب الأدب. احفظوا الكثير من أشعار العرب. احفظوا ما تقدرون عليه من الخطب. ارووا الأمثال السائرة، والنوادر البارعة، والرسائل البليغة، والمحاورات العذبة. اخلقوا في بيئتكم المدرسية جواً عربياً لا تتحاورون فيه إلا بالعربية، فإن لم يكن ذلك في جميع الدروس ففي دروس اللغة العربية
لتقوموا بروايات تمثيلية تحفظون أدوارها، وتستظهرون محاوراتها؟ وليمثل كل منكم دوره باللهجة العربية والتوقيع الخطابي
لا تكتفوا بالعام الدراسي بحفظ مقطوعات مقطوعة أو مقطوعتين، ولا برسالة أو برسالتين، بل فلوا دواوين الأدب واختاروا واحفظوا وأسرفوا في الحفظ، وطالعوا وأسرفوا في المطالعة، واكتبوا الرسائل، وحبروا المقالات على نمط ما تحفظون وغرار ما تألفون
بذلك وبذلك وحده تحوزون ملكة اللغة، وتملكون زمام البيان.
محمد عرفة