مجلة الرسالة/العدد 533/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 533/الحديث ذو شجون

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 09 - 1943


للدكتور زكي مبارك

إلى عمداء الكليات - عتاب لبناني - ترفق بنفسك يا صديقي

- للتاريخ الأدبي

إلى عمداء الكليات

هذه كلمة أسوقها برفق إلى عمداء الكليات بجامعة القاهرة وجامعة الإسكندرية، وأنا واثق بأن ما يرد فيها من المعاني قد دار بخواطر أولئك العمداء

سمعنا وقرأنا أن رجال الجامعة هنا وهناك يرون قبول الطلبة العرب بدون نظر إلى تفاوت الدرجات في شهادة الدراسة الثانوية، وهذا واقع بالفعل، وفيه دلالة صريحة على تشجيع التعليم العالي، وتقوية الروابط بين مصر وشقيقاتها في الشرق

فما الذي يمنع من أن ينتفع الشبان المصريون بذلك الامتياز اللطيف؟

أليس من العجيب أن تكون الجنسية المصرية عائقاً يمنع بعض الشبان من الانتفاع بما يتمتع به سائر زملائهم من الطلبة العرب؟

هل يجب على الشاب المصري أن يسارع فيتجنس بالجنسية العراقية أو السورية لينجو من تلك القيود؟

الشبان في مصر وفي سائر الأقطار العربية إخوة، فما الموجب لتمييز فريق على فريق؟

وكيف يجوز أن يكون من حق الشاب المصري أن يلتحق بأي جامعة أجنبية ولو كان آخر الناجحين في امتحان البكالوريا ولا يكون من حقه أن يلتحق بجامعة مصرية إلا إن كان في الرعيل الأول من الناجحين؟

وبأي حق يكون ترتيب النجاح في امتحان البكالوريا هو الفيصل في تقدير المواهب؟

يجب أن نعرف أن الشاب الذي يجوز امتحان البكالوريا بأي صورة معرض لتطورات كثيرة جداً، لأنه لا يزال في طور التكوين، فقد يتحول إلى جذوة من النشاط لم تمر به في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي. ويجب أن نعرف أن تمكين الشاب من التعليم العالي قد يضع أمام عقله مسئوليات تنقله من حال إلى أحوال. ويجب ثم يجب أن يتذكر ر الجامعة أن في التعليم العالي فرصاً كثيرة لإذكاء العقول، وهي فرص لا يجوز تضييعها على أي شاب، ولو شهدت درجاته بأنه كان في التعليم الثانوي من المتخلفين

لا يجوز أن ننسى أن البكالوريا المصرية أصعب من مثيلاتها في جميع البلاد، وفوز الشاب في هذه البكالوريا بأي صورة دليل على أن فيه خصائص عقلية تؤهله لاجتياز الصعب من باقي مراحل التثقيف

لم يبق إلا أن نتقي الله في أبنائنا فلا نؤاخذهم بتقصير لا ذنب لهم فيه، ويكفيهم فوزاً أنهم زحزحوا عن نار الرسوب

قلت مرات إنه يجب حتماً أن تكون مرحلة التعليم الثانوي هي المرحلة النهائية في إعداد الشاب للحياة، وهي لم تصر كذلك إلى اليوم، فلنساعد أبناءنا على ما يطمحون إليه في التعليم العالي، ولنجد عليهم بما نجود به على إخوتهم الوافدين من أقطار الشرق

هل تصل هذه الكلمة إلى قلوب عمداء الكليات؟

عتاب لبناني

كان الأستاذ محمد عبد الغني حسن نشر في (الرسالة) كلمة دعا بها الأستاذ إلياس أبو شبكة إلى كتابة كلمة في التعريف بالشاعر نجيب إليان، فرد الأستاذ أبو شبكة في (الجمهور) رداً يتلخص في أنه مع إجلاله واحترامه للأستاذ الزيات لن يكتب كلمته للرسالة، لأنها كسائر المجلات المصرية لا تلتفت إلى الحركة الأدبية القائمة في لبنان

وأقول إن هذه النغمة - كما يسميها الكاتب نفسه - نغمة جديرة بالسماع، وهي تتيح فرصة جديدة لتبديد شبهة قديمة تعبت أقلامنا في تبديدها عدداً من السنين، ثم ظلت حية لا يعتريها الموت، كأنها أفعى بسبعة رؤوس!

ثم أقول إن إغفال المجلات المصرية للحركة الأدبية في لبنان أو غير لبنان من أقطار اللغة العربية لا يرجع إلى نية صحيحة أو عليلة، وإنما هو فرع من الإغفال العام للحركة الأدبية في الديار المصرية. فجرائد مصر ومجلاتها تسكت عما يصدر في مصر نفسها من الآثار الأدبية والعلمية، بحيث يمكن القول بأن الحديث عن المؤلفات الجديدة لم يعد له في جرائدنا ومجلاتنا مكان

وقد صار هذا الإغفال في حكم القواعد المرعية، مع الأسف. ولم نجد من ينبه إلى أن له عواقب في إخماد النشاط الأدبي في مصر، ولم نجد من يثور على هذا الشح في تشجيع من يبذلون قواهم في التأليف، مع أن الكلام عن المؤلفات الجديدة يعد باباً من توجيه الجيل الجديد إلى ما يجب أن يقرأ أو يتجنب من جديد المطبوعات

وأنا نفسي راعيت هذا الإغفال، فقررت أن أغفل إهداء مؤلفاتي إلى الجرائد والمجلات، لأني أكره إحراج زملاء ليس في نيتهم أن يلتفتوا إلى التأليف والمؤلفين، واكتفيت بالإعلان عن مؤلفاتي بالفلوس، إن احتاجت إلى إعلان

نقد الكتب قد انقرض في مصر. النقد الذي يبرز محاسنها قبل أن يبرز مساويها، النقد الذي يراعي فيه خلق صديق للمؤلف، أما النقد الأثيم فهو بحمد الله موجود!

وكان من عادتي فيما سلف أن ألتفت إلى المؤلفات الجديدة، فكنت أخصها بصفحات في جريدة البلاغ، ولكني لم أجز على تلك الجهود بغير الجحود، فإن أثنيت على المؤلف قيل تقريظ، وإن حاسبته قيل عدوان، وكانت النتيجة أن أعفي نفسي من عناء ليس له في مصر جزاء

وما جرى لي جرى مثله لكثير من النقاد، فانصرفوا عن نقد الكتب إلى غير معاد. وستظل الحال كذلك إلى أن نجد من الشجاعة ما ندوس به جميع الأهواء فنقول كلمة الحق في المؤلفات الجديرة بأن توضع في الميزان، غير مبالين بالقراء والمؤلفين

في هذه اللحظة تذكرت أني لا أقول كلاماً جديداً، فقد نشرت لي مجلة المكشوف في العدد الخاص بمصر مقالاً عما صار إليه النقد الأدبي في بلادنا، فاعذرونا إذا فرطنا في حقوقكم الأدبية، فقد فرطنا في حقوقنا الأدبية، وما ظلمك من ساواك بنفسه في الإجحاف!

وأنا بعد هذا أرجو أن يكون في هذه الكلمة مقنع لمن يتهمنا ظلماً بالتغاضي عن الحركات الأدبية في سائر البلاد العربية

ترفق بنفسك يا صديقي

رأى قراء الرسالة أن السيد حسن القاياتي عاداني من غير موجب للعداء، وساق إلي ألفاظاً لا تصدر عن صديق، مع أني لم أسئ إليه في سر ولا علانية. وكانت حجته أن ناساً حدثوه أني قلت فيه كيت وكيت، وهو يعرف أني أبالغ في إكرام أصدقائي، وأني لا أتعرض لأعدائي بكلمة مؤذية، إلا إن حاربتهم في الجهر لا في الخفاء والآن، ماذا يريد السيد حسن القاياتي؟

أيريد أن أجزيه إثماً بإثم، وعدوانا بعدوان؟

أنا حاضر وفي يدي قلمي، ولكني لا أشترك في حرب يكون فيها الغالب أسوأ حالاً من المغلوب، فترفق بنفسك يا صديقي، واذكر عهوداً يذكرها كرام الرجال

تقول إنك كنت شاعراً كبيراً يوم كنت أنا طفلاً يلعب، فما قيمة هذه الحجة يا عضو المجمع اللغوي، كما ذيلت اسمك؟

هل كان يجب أن أسبقك إلى الدنيا لأسبقك إلى الأدب؟

وماذا أفدت أنت من سبقك اللطيف بحكم شهادة الميلاد؟

وماذا أفادت جهودك الشعرية في نصف قرن، وأنت الذي صرحت بأن باكورتك ظهرت قبل نصف قرن، يا عجوزاً سبقني إلى الوجود؟

اترك هذه الحجة الواهية، إن كنت تريد الحجاج

ثم ماذا؟ ثم طاب لك أن تتحداني وتتحدى الأستاذ العقاد بكلمتين جارحتين، وهذا ظلم منك، فالعقاد يملك في محاسبتك ما لا أملك، لأنه ليس لك بصديق، فهو لا يبالي تجريحك، ولا يؤذيه أن تبيت معصوب الجبين

أما أنا فأتردد ألف مرة قبل أن أصوب رمحي إلى صدرك، وقد يرضيني أن أسكت عنك، لأنجو من محاسبة الضمير على إيذاء الصديق

أتقول إنك أعظم مني؟ هو ذلك يا أخي!

أيؤذيك أن أكون أشهر منك؟ إن كان ذلك فأنا أخلع الشهرة عليك! خذ هذه الشهرة، خذها، فقد آذتني أعنف الإيذاء.

وما رأيك في الصديق الذي يجازف بصداقة دامت عشرين سنة أو تزيد؟

ما رأيك فيمن يشتم أخاه في مجلة مثل الرسالة وهو يعلم قيمة صوتها في الشرق؟

لقد ظهر السر في إخفاقك، وهو أنك رجل بلا قلب

إن كان لك بعد اليوم حياة أدبية فهي من صنع يدي، فأنا الذي أغضبتك على كسلك، وأنا الذي رفعت النقاب عن قلبك العقوق، ولن أتركك أو تصير أديباً يعتز بحاضره لا بماضيه، فما يعتز بالماضي غير الفانين هل تذكر هذا الجميل؟ لقد سويت من قبلك ناساً فجحدوا جميلي وادعوا أنهم نظرائي، فكن أنت خاتم الأوفياء يا عقوق.

للتاريخ الأدبي

في سنة 1917 رفضت وزارة الحقانية أن يستمر الشيخ محمد الخضري بك والشيخ محمد المهدي بك في التدريس بالجامعة المصرية، وكانا أستاذين بمدرسة القضاء الشرعي، وهي يومئذ تحت إشراف وزارة الحقانية، فبحثت الجامعة عن أستاذ للتاريخ الإسلامي لا تسيطر عليه الحكومة، فظفرت بالأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، وكان قريعاً للشيخ الخضري، فقد كانا في الأدب والتاريخ فرسي رهان

ولكن أين من يخلف الشيخ المهدي؟

ذلك سؤال وجهه الأستاذ محمد بك وجيه سكرتير الجامعة في ذلك العهد إلى الشيخ عبد الرحمن المحلاوي أستاذ الشريعة الإسلامية بقسم الحقوق، فدله على الشيخ مصطفى القاياتي، أحد أساتذة الأدب بالأزهر الشريف

وفي عصر يوم سمعت صوتاً يناديني وأنا في طريقي إلى الجامعة فالتفت فرأيت الشيخ مصطفى القاياتي، وانتحينا ناحية في قهوة بميدان الأزهار ليدور هذا الحديث:

- هل تهمك سمعة الأزهر؟

- تهمني جداً

- وتهمك سمعة الجامعة؟

- بلا ريب

- إذن يمكن أن أعتمد عليك إذا قبلت اقتراح الجامعة؟

تقترح أن أكون خلفاً للشيخ المهدي في تدريس الأدب العربي، وقد فكرت كثيراً فيمن أعتمد عليه في معاونتي فلم أجد غيرك

- هل أعطاك سكرتير الجامعة منهاج المحاضرات لهذه السنة الدراسية؟

- هذا هو

نظرت في المنهاج - وكان من وضع الشيخ المهدي - فوجدتني أقدر على إنجازه بلا عناء، فأشرت على الشيخ مصطفى بالقبول، فمضى وأمضى العقد في الحال شذوذ غريب!

كان الشيخ مصطفى القاياتي من أخطب الخطباء في عصره، كان يخطب ساعة أو ساعتين بلا تلعثم ولا توقف ولا تحيس، وكان لا يلحن أبداً وهو يخطب، ومع هذا كانت الكتابة عسيرة عليه عسراً لا يطاق، فما كان يسهل عليه إنشاء مقال، ولا كان في مقدوره تحرير خطاب

والذي سمع الشيخ مصطفى خطيباً لا يصدق هذا القول، فقد كان خطيباً ثجاجاً، خطيباً عرفته منابر الحزب الوطني قبل أن تعرفه منابر الوفد المصري، فكيف يصعب عليه الإنشاء وكان في الأزهر معلم إنشاء؟

يرجع إلى أنه نشأ واعظاً وكان أهله من الواعظين، فقويت عنده ملكة الخطيب الفصيح، وضعفت عنده ملكة الكاتب البليغ

هل أنسى يوم أنابه الوفد المصري في تأبين الشهيد محمد فريد؟

لقد ألقى خطبة جميلة جداً، ألقاها مرتجلاً وهو يجهل أن جريدة اللواء المصري ستطالبه بالنص، لأن خطبته هي كلمة مندوب الوفد المصري في تأبين الرئيس الثاني للحزب الوطني

عند ذلك دعاني لقضاء لحظة في تحرير الخطبة، فأنشأتها في حدود ما قال، إلا عبارات تأباها السياسة الحزبية، ولكن مكر جريدة اللواء كان أعظم فأضافت إلى الخطبة كلمات قالها الخطيب ولم يسجلها نائب الخطيب!

وتمثل هذا الشذوذ في معرفة الشيخ القاياتي بتاريخ الأدب العربي، فقد كان برغم فصاحته الخطابية لا يفرق بين عصر وعصر، ولا يعرف الحدود بين مراحل التاريخ

كان الشيخ مصطفى ذكياً جداً، ولكنه كان قليل الاطلاع، فكان من الصعب أو من المستحيل أن يخلف الشيخ المهدي في تدريس الأدب العربي

أستاذ بالروح

لم يكد الشيخ مصطفى يطمئن إلى معاونتي حتى شعرت بأن واجبي أن أحفظ سمعة الأزهر والجامعة المصرية، فشرقت في تاريخ الأدب وغربت، وأعددت أربعين محاضرة لو نشرت اليوم لكانت غاية في دقة البحث ونضارة البيان، وهي لا تزال في حيازة الأستاذ يوسف القاياتي، فمتى ينفض عنها غبار النسيان؟

والمهم أن أسجل أن حرصي على الصدق في أن تصان سمعة الشيخ مصطفى من لغو اللاغين فرضت علي أن أجعل محاضراته في قوة محاضرات الشيخ المهدي

وقد نجحت ونجحت، وكانت جهودي في تلك السنة ذخيرة باقية لحياتي الأدبية، فقد استقصيت فيها مراحل الأدب في القديم والحديث

وبفضل الشيخ مصطفى القاياتي كان لي تلاميذ بالجامعة المصرية سنة 1918 منهم الأستاذ حسن إبراهيم وأحمد البيلي وعبد الحميد العبادي وإبراهيم الجزيري

ثم ماذا؟ ثم كان زكي مبارك من تلاميذي، لأنه أدى امتحاناً أمام الشيخ مصطفى القاياتي في الدروس التي أعددتها بنفسي، فإن أنكر زكي مبارك انه تلميذي فسأفحمه بشهادة السيد حسن القاياتي، وهو رجل شهد ذلك التاريخ المجيد.

زكي مبارك