مجلة الرسالة/العدد 534/حكاية الوفد الكسروي

مجلة الرسالة/العدد 534/حكاية الوفد الكسروي

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1943


3 - حكاية الوفد الكسروي

لأستاذ جليل

1 - قول منشئ الخبر حاجب بن زرارة التميمي هذا القول: (. . . إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك. . .)

وقد عني الصباغ بالأمة مصطلح وقته، وما نذهنه نحن في هذا العصر، ولم يقل عربي جاهلي في زمن: نحن أمة. وإنما يعرف العربي عشيرته أو قبيلته أو ربعه أو حيه أو مدينته أو يمنيته أو تهاميته أو ما ضارع ذلك. وإن كان في لغته من معاني الأمة (الجماعة)، فلم يقلها كما لم يقل نحن جماعة العرب قاصداً جميع العرب وأحياءهم وقبائلهم كافة. وما جاءت العرب أمة إلا من بعد أن ألفها (مؤلفها) وقرأت (سفر التكوين. . .)

ويعز على العربي الصحيح أن يرى العرب قد ناكروا التأليف الدهر الأطول، وقرءوا (الكتاب) ولم يعقلوه، ولو عقلوا لكانوا أمة أي أمة، ولعربت الدنيا وأحال أهلها

يا هؤلاء، سيروا في قومكم سيرة عمرية، وخلصوهم من البؤس والجهل والأمية، وعلموا العربية، وعلموا القرآن، علموا القرآن تقبل إليكم وحدة عجيبة عربية

ابن على الصخر (لا كالبناء على الآجر والطين)

وللأمة في (كتاب) معان جمة، أكثرها الجماعة والدين أو الملة. قال تعالى (والأمة هنا هي الجماعة):

(كنتم خير أُمة أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون، وأكثرهم الفاسقون)

فالأمة في الآية الكريمة (هم الذين هاجروا مع رسول الله () من مكة إلى المدينة، وخاصة من أصحاب رسول الله ) كما جاء في (جامع البيان) للطبري

والمهاجرون عرب وغير عرب كما هو معلوم، وقد كان فيهم سالم بن معقل الأصطخري ولو لم يستشهد في قتال عرب مرتدين لكان الخليفة الثالث. وسالم هذا مهاجر، وبدري، وأنصاري بالولاء، وشهيد (الله أكبر، الله أكبر!)، وكان يؤم في الطريق من هاجر معه من مكة، وفيهم عمر بن الخطاب (رضوان الله عليه) فالآية لا تعني العرب إذ لم يكونوا عند نزولها قد أسلموا فضلاً عن أن يأمروا بمعروف وينهوا عن منكر، وقد ارتد جلهم حين أظلمت الدنيا بفقد رسول الله، وكادت مكة ترتد مع المرتدين؛ لكن أين المفر من الهدى والخير، وهناك (خير أمة أخرجت للناس) وفيها أبو بكر، فيها أبو بكر. وكان معد يكرب أحد رجال الوفد. . . ممن ارتد

ومن معاني الأمة (القرن) قال تعالى:

(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً)

ومن معانيها الدين في قول النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

ومثل ذلك قول غيره:

وهل يستوي ذو أمة وكفور

والأمة هي النعمة في قول الأعشى ميمون بن قيس:

وللموت خير لمن ناله ... إذا المرء أمته لم تدم

2 - يقول النعمان لكسرى:

(إن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس)

ذكر وزن الشعر ولم يبق إلا أن يذكر بحوره

الوزن لفظة محدثة وضعها الخليل فيما وضع لفن العروض، ولو سمع جاهلي: وزن الشعر لدهش وبهت. وقد جال الجوهري في أحياء العرب فلم يسمع هذا المصطلح. ولا يفهم العربي في الجاهلية من الوزن إلا الثقل والخفة في حقيقة أو مجاز، كقولهم: كلام موزون، وهو وزين الرأي أي رزينه كما في الأساس. وفي اللسان: هذا القول أوزن من هذا أي أقوى وأمكن. وفي جمهرة اللغة لابن دريد: الوزن أصله مثقال كل شيء وزنه، ثم كثر في كلامهم حتى قالوا فلان راجح الوزن إذا نسبوه إلى رجاحة الرأي وشدة العقل

وأما قول اللسان: وأوزان العرب ما بنت عليه أشعارها واحدها وزن ومثله قول التاج، وزاد هذا (وهو مجاز). فالكلام في المعجمين تفسير لما اصطلح عليه الخليل لا شرح لفظ ورد عن العرب في جاهليتها. ولا ريب في أن نابغة العرب لم يستعمل (الوزن) إلا مجازاً والقافية من مصطلحات الخليل وإن وردت من قبل، ومعناها في أقوالهم هو غير ما أراده الصائغ وقوله النعمان. وقد اختلفوا في حدها (أعني القافية) على اثني عشر قولا. . .

ومن بديع ما يروى أن علم القافية (واضعه امرؤ القيس ابن ربيعة المعروف بالمهلهل خال امرئ القيس بن حجر الكندي) واللاغي بهذا القول قد سلب الخليل بن أحمد الفراهيدي حقه سلباً عجبا، وظلم عبقريته ظلما عبقرياً

واضع علم العروض والقوافي في العربية هو الخليل، ولن يضع من قدره شيئاً أنه علم أن عند الإغريق عروضاً، أو حدثه بذلك عالم باليونانية، أو أطلعه على باب من هذا الفن عند القوم. ففي (الغيث المسجم في شرح لامية العجم) للعلامة صلاح الدين الصفدي:

(وذكر لي العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري أن الشعر اليوناني له وزن مخصوص، ولليونان عروض لبحور الشعر. والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل. قال: ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخليل بن أحمد شيء من ذلك، فأعانه على إبراز العروض)

إن فضل الخليل في إبداعه عظيم - وإن صح ما ذكر ابن ساعد - ولن يصغره أقل تصغير منبه حقير نبهه فتفطن لما تفطن له، وأغرب ذلك الأغراب، وخاض في تلك البحور. . .

وقل في (علم العربية) ما قيل في غيره، فلن يضع من قدر الناحين الأولين أنهم علموا أن عند السريان واليونان قواعد للغاتهم، فنحوا في ترتيب قواعدنا نحوهم

وإذا عرفنا واضع علم فن العروض، فإنا من واضعي النحو في لبس كبير. وأما قول ابن أبي الحديد في شرح النهج أن أحد كبار الصحابة (رضى الله عنهم أجمعين): (هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها: الكلام ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف، ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم. وهذا يلحق بالمعجزات؛ لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ولا تنهض بهذا الاستنباط)

قول ابن أبي الحديد هذا هو أملوحة من الأماليح، وأبو الحسنين (رضوان الله عليه وعلى ابنيه) كان معلم بطولة وأخلاق، وكان بانياً من بناة هذه الأمة، ولم يكن أستاذاً من أساتذة النحو. . .

أورد ابن النديم في (الفهرست) هذا الخبر بعد أن روى تلك الأسطورة المشهورة، وقد يكشف شيئاً من اللبس بعض الكشف:

(وقال آخرون: رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي. ويقال: الليثي، قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب أنه قال: روى ابن لهيعة عن أبي النضر قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء)

نروي هذا الخبر إلى أن يتبين للباحثين الحق

ذكرني هذا البحث في العروض والنحو بمناظرة كانت بين العلامة الأستاذ الدكتور (بديع الزمان) وبين الأستاذ (أزهري المنصورة) في ذينك الفنين ووقت كونهما حيث تجادل بالأمس صاحب العزة العلامة الأستاذ الدكتور طه حسين بك وسيادة العلامة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (أعز الله دولة الأدب العربي بطول بقائهما) وقد أحببت أن أروي هنا آخر مقالة في تلك المناظرة، ولكن (الرسالة) تأبى إلا الغض الجديد، فأكتفي برواية المقدمة نموذجاً من العبارات الشديدات في المناظرات، وهي أقسى ما واجه به الأستاذ (أزهري المنصورة) خصمه العلامة الأستاذ الدكتور بديع الزمان

قال ذلك (الأزهري):

جاء في تاريخ ابن الوردي

(عزم قاضي الموصل أن يقول للسلطان في إخراج (قضيب البان) الوالي المشهور من الموصل في سره، قال القاضي: فرأيت قضيب البان مقبلا على هيئته المعروفة، فمشى خطوة فإذا هو على هيئة (كردي)، ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة (بدوي)، ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة (فقيه) بصورة غير الصورة المتقدمة، وقال لي: يا قاضي، هذه أربع صور رأيتهن، فمن هو قضيب البان منهن حتى تقول للسلطان في إخراجه؟ فلم أتمالك أن أكببت على يديه أقبلهما وأستغفر الله. . .)

الشاهد في هذه الحكاية أن الأستاذ (بديع الزمان) قد شاكل ولي الله (قضيب البان) فهو يبدو لنا مرة باريسياً، ويتجلى حيناً أزهرياً، وتراه في وقت عربياً، وتلقاه تارة باحثاً غربياً، وكأنه ما تسمى (بديع الزمان) إلا لكي يأتينا من بدائعه - ليبهرنا - بأشكال وألوان وقلما أبصرت عيناك من رجل ... إلا ومعناه إن فتشت في لقبه

فهو في الإعراب مع المعربين، وهو في اللحن مع اللاحنات، وهو في مبحث عند العربيات، وهو في حديث حدث غربيات - فقلبه وثاب. . . - وهيهات أن تخلص منه، لا علينا ولا لنا، هيهات

إن في (المنصورة) اليوم (لكريماً)، وإن في (المنصورة) اليوم (لكرماً)

(ن)