مجلة الرسالة/العدد 534/مكتبات عربية

مجلة الرسالة/العدد 534/مكتبات عربية

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1943



في الشرق والغرب

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

المكتبة العربية قديمة في تاريخ الأمة العربية، ومتى وجد الكتاب وجدت المكتبة. فالمكتبة مجموعة من الكتب يضم بعضها إلى بعض، ويتكون من مجموعها ما يسمى (بيت الحكمة) في العصر العباسي، و (خزانة الكتب) في العصر الفاطمي، و (دار الكتب) أو (المكتبة) في العصر الحديث.

وفي العصر الأموي نجد ذكراً لخزائن الكتب التي أخرج منها الخليفة عمر بن عبد العزيز كناش هرون. ولعل تلك الخزائن هي النواة الأولى للمكتبة العربية الإسلامية

اشتهرت بغداد في عصر نهضتها العلمية بدار كتب عظيمة يعرفها المؤرخون باسم (بيت الحكمة) ويسميها وزير المعارف علي باشا مبارك في كتابه (علم الدين) (دار الحكمة)، ويروي في هذا الكتاب الشائق كيفية استجلاب الكتب من خزائن الروم بعد امتناع ملك من إنفاذ ما اختاره المأمون من نفائسها. فأنفذ المأمون جماعة منهم: الحجاج بن مطر، والبطريق، ويوحنا بن ماسويه

وكانت تلك الدار أشبه بمباءة للعلم يجلس فيها المؤلفون والمترجمون والنساخون والمطالعون. وكان للفرس مشاركة طيبة في نهضة دار الحكمة المأمونية، كما كان خدمتها والمترددون عليها من الفرس وأكثرهم من الشعوبية الذين يكرهون العرب، مثل علان الشعوبي النسابة الذي ألف كتاباً في مثالب العرب وعسى أستاذنا الجليل إسعاف النشاشيبي يدلنا على نسخة من هذا الكتاب يغنينا عن مثالبه هو للعرب في مقالاته عن حكاية الوفود الكسروية التي يستكثرها على آبائه الأكرمين. . .!

ومن دور الكتب الشهيرة في الشرق مكتبة الأمير نوح ابن منصور الساماني صاحب خراسان وأمير بخارى. وكان الوزير أبو علي الشهير بابن سينا قد برع في علم الطب، فذكر عند الأمير نوح، وكان قد مرض فأحضره وعالجه حتى برئ واتصل به ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها ما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه. فظل ابن سينا فيها يكتب من علم الأوائل اقتدى أهل الأندلس بالمشارقة في إنشاء دور الكتب. فأنشأ الحكم بن الناصر مكتبة حافلة جمع لها الكتب من نواحي العالم، وبذل في سبيل شرائها مالاً كثيراً. وكان يغري المؤلفين بالذهب ليشتري منهم مؤلفاتهم ويضمها إلى خزانته، فقد ذكروا أنه بذل لصاحب الأغاني ألف دينار من الذهب ليرسل إليه كتابه قبل أن يبعثه إلى الخليفة العباسي بالمشرق، كما ذكر المقري صاحب نفح الطيب كثيراً من أخبار الحكم في هذا السبيل، وفعل ابن خلدون مثله في الجزء الرابع من تاريخه

ولم تقل مصر والشام عن بقية بلاد المشرق وسائر بلاد المغرب في جمع الكتب وتنظيم المكتبات. فالعزيز الفاطمي ينشئ (خزانة الكتب)، ويجمع لها الكتب بمعونة وزيره يعقوب ابن كلس، ويجمع من الكتاب الواحد نسخاً عدة قد تبلغ المائة. وللمقريزي في الجزء الأول من خططه كلام كثير في هذه الخزانة

ولقد نكبت المكتبات العربية بالتتار والصليبيين في الشرق وبالفرنجة في المغرب. ويروي ابن الفوطي المؤرخ المعاصر لغارة التتار على بغداد كيف أحرقت الكتب وأغرقت وبيعت بأوهى قيمة

ويروي ابن الأثير كيف أحرقت المكتبة التي أنشأها سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة عندما دخل السلجوقيون بغداد سنة 447هـ

كما يذكر جيبون المؤرخ كيف أحرق الفرنجة مكتبة طرابلس الشام عندما فتحوها سنة 502 هـ. ويذكر مؤرخو المسلمين أن البطريق إيكزامينيس أمر بإلقاء الكتب العربية في النار عندما دخل الفرنج غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي. . .

وفي العصور المتأخرة نرى الأمم الغربية تتنافس في جمع الكتب العربية وترتيبها بحسب موضوعاتها، وتعين لتنظيمها المختصين من المستشرقين الذي درسوا فن تنظيم المكتبات على قواعد صحيحة. ومن الإنصاف للتاريخ والحق أن نقول إن فكرة العناية بإنشاء المكتبات العربية على وجه الخصوص والشرقية على وجه العموم ترجع إلى مدينة (روما)، فقد انتشرت بين أغنياء تلك المدينة التاريخية بدعة جمع الكتب الشرقية في العصور الوسطى. فصبح أثرياء الإيطاليين ينافس بعضهم بعضاً في الجمع، ويكاثر بعضهم بعضاً في الاقتناء لا رغبة منهم في العلم ولا حباً في المطالعة، ولكن ميلاً إلى التكاثر والمباهاة كما يصنع المترفون من عشاق التحف وجامعي الألطاف ولو لم يعرفوا قيمتها أو يدركوا حقيقتها

أخذت فكرة جمع الكتب العربية تنمو في بلاد أوربا المختلفة، ومع مرور الزمن واتصال الشرق بالغرب، وحب الفريقين في الوقوف على تاريخ الشرق القديم وتتبع تطوره، وشغف هؤلاء بارتياد المجاهل الشرقية لأغراض سياسية أو لمآرب دينية - مع ذلك وغيره من العوامل تغيرت فكرة جمع الكتب الشرقية من مجرد المباهاة والتكاثر والتفاخر وتزيين القصور إلى فكرة الاطلاع والدرس والبحث والتنقيب والتنقير بما يتفق مع مصلحة الغربيين لا الشرقيين

فأنشئت دور كتب عربية عامة وألحقت بالمكاتب الأهلية العامة في العواصم الأوربية الكبرى كلندن وباريس وبرلين وفينا وروما ومدريد. وأخذت الولايات المتحدة في أمريكا - في مطلع هذا القرن - تهتم بالدراسات الشرقية وتنشئ بجانبها أقساماً للغات الشرقية في جامعاتها الكبرى. مثل جامعة شيكاغو التي تصدر مجلة:

ومثل جامعة كولومبيا التي تعنى بالدراسات العربية وتترجم أمهات التاريخ الإسلامي إلى الإنجليزية كما فعلت في كتاب فتوح البلدان للبلاذري الذي ترجمه الدكتور فيليب حتى السوري الأصل، والأستاذ الآن بجامعات الولايات المتحدة

ولقد زار بعض النابهين من أبناء البلاد العربية هذه المكتبات العربية في أوربا وتحدثوا عنها في كتبهم؛ كما فعل الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه (تخليص الأبريز إلى تلخيص باريز) وكما فعل أحمد فارس الشدياق في كتابيه (الواسطة في أحوال مالطة) و (كشف المخبا عن فتون أوربا)، وهما من مطبوعات الجوائب بالآستانة، وكما فعل أمين فكري بك في كتابه الممتع المفيد (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا) المطبوع بالمقتطف سنة 1892

ولقد حدث الشيخ محمد محمود الشنقيطي: أنه لما أرسل من الآستانة إلى أوربا لمشاهدة دور الكتب (وجد فيها كثيراً من الكتب العربية القديمة العهد العظيمة النفع المعدومة الوجود في بلاد الشرق على العموم)

ولعلي باشا مبارك في كتابه علم الدين وصف شامل لمكتبة عربية خاصة في باريس ذكر أسماء بعض ما فيها من نوادر الكتب في التفسير والحديث والتوحيد والفتاوي واللغة ووصف عناية صاحبها بترتيبها وتنسيقها وحسن استعماله لما فيها. إلا أن أمين فكري بك كان في كتابه السابق الذكر أكثر الرحالين من العرب عناية بالمكتبات العربية العامة في أوربا فهو يصف كل واحدة منها وصفاً دقيقاً، فيصف مداخلها ومخارجها ورفوفها وأنضادها، وعمالها والقائمين عليها، ونظام الاطلاع فيها، وينقد ما يراه موضوعاً للنقد كما يذكر مواضع الإحسان فيثني. ومن عجب أن المكتبة الأهلية في باريس على عهده - 1891م - لم تكن على الحال التي عليها اليوم. فهو يقول عن قسمها الشرقي (توجهنا إلى مأمور القسم وطلبنا منه فهرست الكتب العربية فلم نجد لها من سوء الحظ فهرستاً؛ بل أحضر لنا دفاتر متعددة كل واحد منها يحتوي قسم منه على شيء من الكتب العربية غير مرتبة ولا مبوبة فلم يتيسر وجود ما أردناه وحملنا ذلك على قلة طلب الكتب العربية فيها أو على أن طالبيها غيرنا أعرف منا بمظناتها)

ويصف المكتبة العربية بالمتحف البريطاني بلندن فينتقد فهارسها غير المنظمة؛ كما يصف مكتبة ليدن بهولاندة ويذكر في كل واحدة من هذه المكتبات بعض ما فيها من نفائس الكتب والمخطوطات.

محمد عبد الغني حسن