مجلة الرسالة/العدد 538/وحي القرآن
مجلة الرسالة/العدد 538/وحي القرآن
للأستاذ محمود أبو رية
كتب الأستاذ محمود البشبيشي كلمة في العدد (534) من الرسالة جعلها رداً على سؤالنا الذي وجهناه من قبل إلى أئمة الدين والعلماء المحققين لكي يبلغوا لنا رأيهم في أمر وحي القرآن باللفظ، وكأنه حسب أن هذا الرد فيه بلاغ للناس وجواب عما سألنا
يقول الأستاذ (إن موضوع الوحي من القضايا التي فصلت فيها الأيام منذ عهد الرسالة، وموضوع خلق القرآن أو قدمه من المباحث التي توفر عليها علماء المسلمين في عهد المأمون والواثق (كذا) والمعتصم وما تركوا منها ناحية تحتاج إلى توضيح أو استيفاء)
ونحن إذا كنا لم نعرض بشيء لأمر خلق القرآن فإنا نجيب عن ذلك، أنه لم يكن لوحي القرآن قضية في عهد الرسول وصحابته ومن تبعهم حتى يبحثوا عنها أو يفصلوا فيها، وإنما كانوا يعلمون أن القرآن كتاب منزل يفهمونه ويعملون بما فيه. ولقد كان للسلف مذهب في فهم صفات الله التي وردت في القرآن ولم يكن منها صفة (المتكلم)؛ ذلك أنهم يرونها كما وردت بغير تمثل ولا تعطيل ولا تأويل. وظل الأمر على ذلك إلى أواخر الدولة الأموية حين ظهرت مسألة خلق القرآن، فكان العلماء يتولونها بالجدل والبحث حتى دخلت السياسة فيها زمن المأمون إذ حمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الأمر على ذلك أيام المعتصم والواثق إلى أن تولى المتوكل فنهى الناس عن الخوض في هذا الأمر. ولما كفت السياسة عن تدخلها عاد البحث إلى العلماء يتناولونه فيما بينهم
وبهذا الذي بيناه ينتفي ما قاله الأستاذ البشبيشي من أن علماء المسلمين في عهد المأمون وما بعده لم يتركوا منه ناحية إلى توضيح أو استيفاء
وقال الأستاذ: (إن سلف العلماء وأئمة الفرق الإسلامية لم يختلفوا - أي كما قلنا نحن - على أن القرآن لفظاً ومعنى كلام الله) وهذا عجب منه لأني لم أقل ذلك ولم أعرض بشيء (لمعنى القرآن) وهذا نص كلامي (ووحي القرآن باللفظ أمر اختلفت فيه الفرق الإسلامية)
وقال (إنما الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة على قدم اللفظ وحدوثه) ونحن نذكر للأستاذ أنه لم يكن ثم خلاف بين هاتين الطائفتين على حدوث الكلام اللفظي وإنما كان خلافهم على (المعنى النفسي)، وأن فرقاً كثيرة قد شجر بينها الخلاف في كلام الله حتى قال ابن تيمية (والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً والطوائف (الكبار) نحو ست فرق - وأن الناس في كلام الله مضطربون وقد بلغوا فيه إلى سبعة أقوال)
ولقد كان مثار خلاف العلماء في تحقيق كلام الله وحدوثه وقدمه، لأنهم رأوا قياسين متعارضين في النتيجة وهما:
1 - كلام الله صفة له وكل ما هو صفة فقديم، فكلام الله قديم
2 - كلام الله مركب من حروف وأصوات مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فكلام الله تعالى حادث. من أجل ذلك اضطروا إلى القدح في أحد القياسين ضرورة امتناع حقيقة النقيضين: فذهبت كل طائفة إلى صحة بعض المقدمات والقدح في الأخرى؛ فالأشاعرة والحنابلة ذهبوا إلى صحة القياس الأول، والمعتزلة قدحت في الصغرى منه، والكرامية قدحت في الكبرى. والمعتزلة والكرامية ذهبوا إلى صحة القياس الثاني، والأشاعرة قدحوا في الصغرى منه، والحنابلة قدحوا في الكبرى. وثم آراء متباينة لطوائف أخرى كالكلابية والسالمية وبعض الفلاسفة كابن سينا ومن على رأيهم من المتصوفة والشيعة، وهذا كله غير مذهب السلف الذي أشرنا إليه في أول كلمتنا. ومن يرجع إلى كتب الكلام الكبيرة وكتب الملل والنحل يجد تفصيل هذا الخلاف ومعترك هذا النضال
وقد كان من قول أبي الحسن الأشعري أن كلام الله يطلق إطلاقين، كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلما باعتبارين، أحدهما بالصوت، والأخرى (بكلام النفس) الذي ليس بصوت ولا حرف)
وقد قال شيخنا الأستاذ الإمام محمد عبده: (ليس النزاع في (الكلام اللفظي فإنه حادث باتفاق)، وإنما النزاع في إثبات (الكلام النفسي))، وأبان أن الأشعري لم يثبت الكلام النفسي إلا لترويح ظواهر النصوص الدالة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن قوله هذا ليس إلا زيادة قول في المسألة من غير فائدة. ثم ناقش ما استندوا إليه في إثبات الكلام النفسي واستشهادهم بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد الخ. فقال رضى الله عنه: (فليس الكلام لغة أو عرفا ما هو في الفؤاد كما زعموا في قول الشاعر أن الكلام لفي الفؤاد الخ. فالقرائن قائمة على أنه ليس المراد منه الإخبار بأن الكلام هو الصور الخيالية التي يعقبها النطق، بل الإفادة أن كل متكلم فإنما ينطق عن أخلاقه وأحواله الذاتية الكامنة، ولفظه إنما هو دليل على ما انطوى عليه كما يعطيه ذوق الكلام)
وجاء في المقاصد: (خالفنا جميع الفرق في إثبات الكلام النفسي وقالوا لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة، وإن (الكلام النفسي) غير معقول إذ يقيسون ما في نفس الله على ما في نفس الإنسان)
ومما أوضحناه يتبين أن موضوع خلق القرآن لم يكن - كما قال الأستاذ - من القضايا التي فصلت فيها الأيام، ومن أجل ذلك يكون سؤالنا لا يزال قائماً، والإجابة عنه ما برحت ديناً في عنق علمائنا
أما قول الأستاذ إن سؤالنا قد انطوى على شك واضح في (حقيقة وحي القرآن الكريم)، فهذا ما لا أناقشه فيه، لأن هذا السؤال كما يبدو لكل ذي فهم قد وقف عند حد (وحي القرآن باللفظ)، ولم ينفذ إلى ما وراء ذلك. . .
وما دام الأستاذ قد تقدم إلى ميدان هذا البحث وجال فيه بقلمه، فإنا نرجو منه أن يحقق للناس أمر لفظ القرآن، ويبين لهم كيف كان وحيه، وما معنى الكلام النفسي، وإنه لجد عليم؛ بأن البحث في (كلام الله) أمر مقرر في كتب تدرس بالمعاهد الدينية الإسلامية في جميع أقطار الأرض، وقد قالوا إنهم قد سموا علم العقائد (بعلم الكلام)، لأن أشهر مسألة وقع فيها الخلاف بين علماء القرون الأولى هي كلام الله المتلو، أهو حادث أم قديم؟
هذا ما نرجو منه، فإن لم يفعل فليقف في جانبنا وليستمع معنا ما يتفضل به أهل الذكر علينا
وما دام الأمر بعيداً عن عالم الغيب وعن أصل الوحي فإن البحث يقتضيه، وأنه لا ضرر من إثارته وتمحيصه ما دامت السياسة لا تعرض له ولا تتدخل فيه.
(المنصورة)
محمود أبو رية