مجلة الرسالة/العدد 539/جامع أحمد ابن طولون
مجلة الرسالة/العدد 539/جامع أحمد ابن طولون
(حديث ألقي في نادي النجادة في ليلة القدر)
للأستاذ أحمد رمزي بك
قنصل مصر في سورية ولبنان
أيها الحفل الكريم
أشكر لكم دعوتكم إياي، وأقدر عواطفكم نحوي. لقد اعتاد الناس والقراء أن يقدموا لأنفسهم بكلمة أولية يجعلونها كمدخل إلى الموضوع الذي سيكون محل حديثهم وسمرهم، وإني لا أملك نفسي دفع هذه العادة الطيبة المستملحة بل سأخضع لها فأقول، بأنني لم أستطع أن أختار موضوع حديث الليلة حتى أول أمس. فقد كنت مأخوذاً بين عدة واجبات وأمور لم يكن لي بد من أن تأخذ وقتي وتفكيري
والآن وقد خلوت لنفسي أعود إليكم، وقلبي مطمئن من ناحيتكم لأني واثق من أنكم ستولونني الكثير من التسامح فما أنا إلا فرد منكم وأنتم أيها السادة إخوان بل رفقاء لي، فلا تنتظروا المعجز من الكلام، ولا تطلبوا مني ما هو فوق المتناول
فما أنا إلا واحد من هذه الجماعة يريد أن يتحدث حديثاً يفيدني هذه الليلة المباركة الميمونة أعادها الله عليكم، وقد تحققت الآمال التي نصبو إليها جميعاً وأشرقت على العالم بأكمله شمس يوم الحرية والعدالة والديمقراطية الصحيحة
إنني مؤمن واثق بأن الأيام التي وعدنا بها وخطتها يد العناية في سجل القدر قد أصبحت حقيقة آتية لا ريب فيها، وحينما يأتي يوم النصر وتتحقق آمال الشعوب الحرة سنهتف جميعاً: الحمد لله الذي صدق وعده. . .
موضوع حديث الليلة قد نأخذه كموضوع واحد مكون من ثلاثة أشياء أو ثلاثة مواضيع تجمع بينها صلة الصلات. أما الفكرة الأولى التي تسيطر على فهمي تأريخ مسجد من مساجد الله هو مسجد أحمد بن طولون. فنحن في مصر قد أولع تاريخنا بإنشاء المساجد حتى أصبحت في عاصمتنا تعد بالمئات وهي لنا تراث للفن العربي في مختلف أدواره. ولقد اتجهت منذ حللت بهذه الديار إلى هذا النوع من الأبحاث فقلت لنفسي يوماً: لماذ يتجه الأدب لتمجيد هذه الآثار وجعل الأحجار تنطق فتعيد إلينا ذكريات الماضي
وأمامنا كتاب الفرنجة وقد عالجوا مثل هذه الأمور فمن في عشاق الأدب الإنكليزي من لم يقرأ ما كتبه (راسكين) عن آثار البندقية؟ إن منادمة الآثار قد حببت الآثار إلى العالم الغربي وحببت الشرق أيضاً لأهل الغرب
وما نحن إذا بقينا كما كنا ولم نعبأ بشيء من الماضي؟
ولماذا لا أكتب شيئاً يحبب إلى هذا الحفل الكريم زيارة القاهرة والتعرف إلى شيء من مساجدها وآثارها؟ وهل هي ملك لمصر وحدها؟ لا، لقد اشتركنا جميعاً في إنشائها فهي لنا ولكم. وهي عنوان التراث العربي والتفوق العربي أمام العالم بأجمعه. ولهذا كله قد فكرت أن أجعل حديث الليلة عن جامع ابن طولون؛ وليس من السهل أن نكتب عن جامع ابن طولون بغير أن نذكر كلمة عن صاحبه. وهذه هي الوصلة الأولى والشق الأول من هذا الحديث
وإني لا أعرف تاريخاً قد ظلمته الأيام وغيرته النزعات وأهمله أهله مثل تاريخ مصر العربية؛ ولا أعرف تاريخاً قديماً غنياً بمصادره ومؤلفاته كتاريخ مصر في طورها العربي الخالد. فإن ظلمت الأيام هذا التاريخ فقد ترك لنا أهله المطول من المراجع والكتب المطبوع منها والمخطوط
فما على أبناء هذا الجيل الواثب المتطلع نحو العلا والمجد إلا أن يقلب صفحاته ليتعرف إلى نفسه وليكشف عن قوته وهي قوة لو تعلمون عظيمة
إن تعهد الوعي القومي يستدعي الاعتزاز والتمسك بالشخصية؛ وإن الأمم التي تعرف شخصيتها وتتمسك بها وتعتز، هي التي تجعل العالم المتمدن يقر لها بالاحترام والبقاء
نظرة في تعريف أحمد ابن طولون
في القرن الثالث الهجري، كانت الدولة العباسية تسيطر على جزء من أقطار المعمورة. وكان عهد الخلفاء المجاهدين الذين يباشرون القتال بأنفسهم قد انتهى بوفاة المعتصم، وكان النزاع بين حزبي العرب والفرس قد أضعف الفريقين، وكان أن ظهر عليها عنصر إسلامي جديد هو العنصر التركي، وكان نفوذ العاصمة مضعضعاً لترامي الأطراف واتساع الملك. ولذلك أدخل نظام الأقطاع وتقاسم القواد والأمراء الولايات وكان عهداً تسوده المكائد والدسائس. وقد هبط المستوى الخلقي وماتت روح الكفاح والمقاومة أو انتقلت من المدن حيث بدأت تظهر عوامل الفوضى والفناء وانحلال إلى الثغور والحدود، حيث الجهاد الدائم يدعو إلى التضحية والمقاومة وجمع الشمل والكلمة
في هذا العصر نبغ أبو العباس أحمد بن طولون وظهرت شخصيته الجبارة تدعمها قوة من مكارم الأخلاق وشيم الرجولة، وشدة ذكاء وفراسة، أنف من حياة المدن حيث السفاسف والدسائس والحيل والخداع؛ حيث توضع الولايات والأمصار لتباع وتوزع على المحاسيب والأنصار، واتجه إلى الثغور حيث الرباط والعدة والدعوة لله وحده. حفظ القرآن وسمع الحديث، وفصح بالعربية فملك ناصيتها، كتابة وخطابة، فكان تركياً مستعرباً يجمع أحسن ما في العروبة من مزايا على أحسن ما لدى الترك من أخلاق. وإذا قدر للناس كشف دخائل التاريخ في القرن الثالث الهجري دراسة وتحليلاً، أمكن الحكم أنه بعد وفاة المعتصم لم يعرف التاريخ العربي رجلاً فذاً يداني ابن طولون في قوة شكيمته وسداد رأيه، ومضاء عزيمته ونفاذ بصيرته
ولقد بقيت شخصيته مجهولة، حتى قيض الله الظرف فنشرت سيرة أحمد بن طولون لمؤرخ عاش في عصره هو أبو محمد عبد الله بن محمد البلدي، وكشفت نواحي مجهولة عن حياته الحافلة بالجليل من الأعمال وعن صفاته ومزاياه وتفوقه. وستبعث هذه الحياة العظيمة الكثير من التنقيب في تاريخ مصر العربية، وتخرج ألواناً من الكتابة في المباحث والتراجم، لأنها حياة حافلة لرجل عبقري منتج رج ملك الدولة العباسية رجاً، وهز العالم العربي وأنشأ بذكائه ومقدرته على قيادة الرجال وقوة سيفه دولة وأسرة لها مكانتها ومنزلتها.
(للحديث صلة)
أحمد رمزي