مجلة الرسالة/العدد 54/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 54/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 07 - 1934



مدام كوري وقصة الراديوم 1867 - 1934

للأستاذ مصطفى محمود حافظ

مسيو ومدام كوري:

توفيت مدام كوري في صباح الرابع من شهر يوليو الحالي بعد أن نالت من النجاح في حياتها العلمية والعملية ما لم تنله أخرى من قبل، فانطفأ ذلك السراج المنير الذي أضاء سبيل بعض علماء العصر الحديث في الوصول إلى أخطر انقلاب علمي حديث، وهو النظرية الحديثة في تركيب المادة

ولدت ماري سكلود وفسكا في فارسوفيا عاصمة بولونيا في 7 نوفمبر سنة 1867، ولكنها نزحت عن وطنها الأول إلى وطنها الثاني فرنسا لأسباب سياسية. فذهبت تطلب العلم في السوربون، وقد اضطرها الفقر إلى الخدمة في معامل المعهد، فكانت تغسل الزجاجات وأنابيب الاختبار لتنال من ذلك ما يساعدها على تسديد نفقات التعليم

تعرفت بالمسيو (بير كوري) الذي كان يعمل في السوربون هو الآخر، وقامت تساعده في أبحاثه التي كان يقوم بها في ذلك الوقت في الكهربائية وخواص الأجسام المغناطيسية في درجات الحرارة المختلفة. وقد انتهى بها هذا الارتباط الذي ابتدأ في المعمل إلى الزواج به سنة 1895. وقد ظلا يعملان معاً أحد عشرا عاماً توصلا فيها إلى الكشف عن عدة عناصر أهمها (البولونيوم) و (الراديوم). وقد كشف الأستاذ الفرنسي (بيمون) عن وجود عنصر الراديوم مستقلاً عنهما، ولكن اسمه لا يكاد يقرن باسميهما عند الكلام عن الراديوم إلا في القليل النادر

قصة الراديوم:

لم يكن الكشف عن الراديوم من هذه الاكتشافات التي أتت عفواً وكاد مكتشفها يتعثر فيها أثناء سيره في عمله، كما حدث للأستاذ الألماني (رُنْتجن) عند كشفه عن الأشعة التي تعرف باسمه؛ ولا من تلك الاكتشافات والاختراعات التي كأنه قد أوحي بها إلى أصحابها، كما حدث للأستاذ (ويلسون) عند تفكيره في صنع (الغرفة القائمة)، وهي الجهاز الذي يمكننا من رؤية مسار الدقائق المتحركة التي لا يمكن رؤيتها بالعين ولا بأقوى ميكروسكوب. بل كان من هذه الاكتشافات التي عمل لها أصحابها وكانوا يتوقعونها نتيجة لأبحاثهم الرياضية أو الطبيعية، كما حدث عند البحث عن السيار (نبتون) فقد رآه (لفرييه) بالرياضة قبل أن يراه (جال) بتلسكوبه

إذن لابد أن يكون قد سبق الكشف عن الراديوم دراسة بعض الظواهر التي مهدت السبيل لظهور هذا العنصر، وهذا ما أود أن أسرده الآن مرتباً ترتيباً تاريخياً

في سنة 1895، وهي السنة التي ارتبط فيها (الكوريان) بالزواج، كان الأستاذ (رنتجن) يمرر التيار الكهربائي في الأنابيب المفرغة تقريباً من الهواء، وهي المعروفة بأنابيب (كروكس)، وذلك للكشف عن أشعة غير مرئية للعين. فلاحظ أن لوحاً مغطى بطبقة مومضة - وقد وضع عفواً بجوار الأنبوبة - قد تألق وأومض وهو في الظلام. فإذاانقطع التيار انقطع الوميض. هذا الوميض يحدث لمواد معينة إذا سقطت عليها أشعة الشمس، وبالأخص ما كان منها بعد البنفسجي، وامتصت جزءاً من الطاقة الضوئية، ثم آخذت إلى الظلام. فالطاقة الممتصة تنطلق ببطء، وتومض المادة حتى تزول الطاقة المخزونة. يحدث هذا إذا عرضت هذه الأجسام إلى أشعة الشمس، ولكن لوح (رنتجن) لم يتعرض تعرضاً مباشراً لأشعة الشمس ولا للأشعة الخارجة من أنبوبة (كروكس) لأنها كانت مغطاة بورق أسود يمنع نفاذ كل الأشعة التي كانت معروفة في ذلك الوقت، ولكن ما دام اللوح قد أومض فيجب أن يكون (رنتجن) قد توصل إلى أشعة غير معروفة من قبل ويمكنها النفاذ من الأجسام المعتمة، وقد سماها رنتجن (أشعة اكس) أو (الأشعة السينية) أو (الأشعة المجهولة). ولكن عدم معرفته لكُنه هذه الأشعة لم يمنعه وغيره من دراسة خواصها، فعرف أنها تخترق الصفائح الرقيقة المعدنية، وأن مقدار نفاذها من هذه الصفائح يختلف باختلاف المعادن نفسها، وأنها تؤثر على الألواح الفوتوغرافية وتلقي عليها ظلالا للأجسام المعتمة التي توضع بين مصدر الأشعة واللوح الفوتوغرافي، وأنها تجعل الغازات موصلة للكهرباء، وأنها تضيع شحنة الأجسام المكهربة

هذه هي نتائج التجارب الأولى التي أجريت على (أشعة رنتجن) في أواخر سنة 1895، وفي السنة التالية فكر أحد علماء فرنسا وهو الأستاذ (هنري بيكرل) في شيء آخر وهو: إذا سقطت (أشعة رنتجن) على جسم مومض فانه يومض ويتألق، فهل العكس صحيح؟ هل المادة بعد تعرضها لأشعة الشمس ثم تركها تومض في الظلام، تخرج (أشعة اكس) أو أشعة نفاذة مثلها؟ للاجابة على ذلكالسؤال اشتغل (بيكرل) بأملاح الأورانيوم المومضة، فتركها في الشمس مدة ثم لفها في ورق أسود ووضعها في الظلام بجوار لوح فوتوغرافي، فوجد بعد مدة أن اللوح قد تأثر. إذن هناك أشعة خرجت من ملح الأورانيوم المومض ونفذت من الورق الأسود، فهي كأشعة رنتجن في ذلك، وقد وجد لها أيضاً بقية الخواص المعروفة لهذه الأشعة. ولكن استمرار البحث بّين له أن هذه الأشعة الخارجة ليس لها علاقة البتة بالوميض كما كان يعتقد. فالوميض يضعف عادة مع الوقت، ولكن هذه الأشعة النفاذة لم يكن ليعتريها الضعف بمقدار محسوس. أذاب الأملاح المومضة وبلْوَرها في الظلام دون تعريضها لأشعة الشمس فوجدها تخرج نفس الأشعة. أخذ أملاح الأورانيوم غير المومضة فوجدها تخرج نفس الإشعاع النفاذ.

جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة التي كان من نتيجتها الكشف عن (المواد المشِعّة) أو المواد الراديومية

انقسم العلماء بعد تجارب (بيكرل) إلى فريقين: الأول ذهب يبحث عن ماهية الأشعة التي تصدر من أملاح الأورانيوم، والثاني يبحث عن مواد أخرى لها نفس خواص أملاح الأورانيوم، وقد تزعم هذا الفريق (مدام كوري) وزوجها، بعد أن أبدت رأيها في مبحث الفريق الأول من العلماء بأن قالت: إن (الفعل الإشعاعي) لأملاح الأورانيوم راجع إلى خاصية في المادة لم تعرف بعد ولا تشبه في ذلك أشعة رنتجن.

وأول ما وصلت إليه (مدام كوري) في بحثها أن إشعاع أملاح الأورانيوم (خاصية ذرية). أي أن مقدار الإشعاع يتوقف على مقدار الأورانيوم أو عدد ذرات العنصر الموجودة في المادة المختبرة، وليس له أية علاقة بالمواد الأخرى الداخلة في تركيب الملح. وإلى ذلك يعزى سر نجاحها في الكشف عن مادتين مشعتين أخريين

وجدت بقياس الفعل الإشعاعي لبعض المواد التي تحتوي الأورانيوم أن قوة إشعاعها تفوق ما ينتظر أن يكون، على حساب أن الموجود في المادة أورانيوم فقط. فلو كان الفعل الإشعاعي (خاصية ذرية) كما وجدت هي فلا بد أن توجد مادة أخرى أقوى في فعلها الإشعاعي من مادة الأورانيوم نفسها. وعلى هذا الأساس بدأت (مدام كوري) تعمل لكي تفصل هذه المادة الجديدة. وقد شجعتها حكومة النمسا على المضي في بحثها بأن أهدت إليها طناً من المعادن المحتوية على أملاح الأورانيوم المستخرجة من (بوهيميا) الموجود في الخامات، ولكنها وجدت أن الباقي كان أشد فعلاً وإشعاعاً من مقدار الأورانيوم المستخرج بأربع أو خمس مرات. فاستخرجت ملح البزموث الموجود في الخامات فوجدته متحداً مع مادة فعالة مشعة سمتها (بولونيوم) نسبة إلى وطنها الأصلي (بولونيا). ثم استخرجت ملح الباريوم الموجود فيما تبقى من الخامات فوجدته متحداً مع مادة مشعة أخرى سمتها (راديوم) أو (المشِع)، وهي تسمية موفقة، لأن هذه المادة الجديدة تفوق في إشعاعها (الأورانيوم) بمقدار مليوني مرة إذا قورنت به وزناً بوزن. وقد أعلنت (مدام كوري) عن هذا الاكتشاف العظيم في رسالة قرأتها أمام (أكاديمية العلوم) في باريس سنة 1898

وقد أثارت رسالتها الرغبة في نفوس كثير من العلماء للبحث عن ماهية الأشعة المنطلقة ذاتيا من المواد المشعة، وقد كان من قادة هذا البحث سير (جوزيف تومسون) وسير (إرنست رثر فورد) (وهو الآن لورد رثر فورد). فام تأت سنة 1900 حتى كان من المعروف أن هناك ثلاثة أنواع من الإشعاع تصدر عن المواد الراديومية.

الأول - أشعة لا تقدر على النفاذ من ورقة رقيقة، وقد سميت (الأشعة الألِفية). وقد درسها (رثر فورد) في المدة الواقعة بين سنة 1903، 1909 فعرف أنها ليست أشعة بل دقائق متحركة بسرعة كبيرة، وأنها مشحونة بشحنة كهربائية موجبة، وأنها عبارة عن ذرات غاز الهليوم الذي تملأ به المناطيد الحديثة. وقد استخدم (رثر فورد) هذه الدقائق كقذائف يرمي بها الذرات فيحطمها، وكان من نتيجة بحوثه في ذلك أن وضع النظرية الذرية الحديثة، القائلة بأن الذرة عبارة عن نواة متركزة في الوسط موجبة التكهرب، يدور حولها الكترونات سالبة.

الثاني - أشعة يمكنها النفاذ من ألواح من الألومنيوم سمكها بضعة مليمترات، فهي أكثر نفاذا من الأشعة الألفية وقد سميت (الأشعة البائية). وفي سنة 1899 تمكن (بيكرل) و (جيزل) و (كوري) من معرفة أن هذه الأشعة تنحرف بتأثير المجال المغناطيسي، فهي لبست أشعة بل دقائق كهربائية سالبة.

الثالث - أشعة أشد نفاذا من سابقتها كشفها (فيّار) في سنة 1900، وسميت (الأشعة الجيمية) ويمكنها النفاذ من 15 بوصة من الصلب أو 6 بوصات من الرصاص. وهي من نوع أشعة رنتجن.

وفاة بير كوري:

انهالت على (الكوريين) التهاني والأسئلة بعد كشفهما عن الراديوم. وفي سنة 1903 منحتهما الجمعية الملكية بلندن مدالية (دافي). وفي نفس السنة قسمت جائزة نويل للعلوم الطبيعية بينهما وبين (هنري بيكرل). وقد عين (كوري) أستاذاً للطبيعة في السوربون، واختير في سنة 1905 عضوا في (أكاديمية العلوم) بباريس. وبعد ذلك بعام واحد، بينما كان خارجا من الجامعة، صدمته عربة ومرت عليه فقتلته لساعته. وقد أثر ذلك في زوجته حتى خيف أن تترك الاشتغال بالعلوم بعد تلك الفاجعة، ولكنها تشجعت واستعانت بذلك الصبر الذي لازمها في أبحاثها العلمية الشاقة. وقد عينت أستاذة للطبيعة في السوربون مكان زوجها.

وقد تمكنت (مدام كوري) من فصل عنصر الراديوم من أملاحه، وهي عملية شاقة لأنه سريع التحول إلى الإيدروكسيد، وعينت وزنه الذري فوجدته 225، ولكنها تمكنت بعد ذلك من تصحيحه إلى 226 , 2، ثم وجده (ثورب) 227. وقد نالت من أجل ذلك جائزة نوبل في العلوم الكيماوية، وبذلك تكون قد نالت جائزة نوبل مرتين وهو ما لم يظفر به عالم من قبل.

تأثير الراديوم في خلايا الجسم:

استخدم الراديوم في بحوث نظرية وعملية. ومن النظرية الكشف عن كيفية تركيب المادة وتحطيم الذرة. كذلك تقدير عمر الكرة الأرضية بالاستعانة بما يوجد من الراديوم بين الصخور فانه يتحول ذاتيا إلى مواد أخرى تنتهي بالرصاص بنسب معينة في أزمنة معينة. ومن البحوث العملية التي يستخدم فيها الراديوم معالجة بعض الأورام الخبيثة مثل (السرطان). وأول من عرف تأثير الإشعاع الخارج من المواد المشعة على جلد الإنسان وخلاياه هو (بيكرل) في سنة 1901. ولكنه دفع ثمناً لذلك التهاب جلد صدره زمناً طويلا. فقد كان يحفظ أنبوبة صغيرة بها مواد مشعة في جيب صديريته، فأصيب في مدة أربعة عشر يوما بالتهاب جلدي حاد تحت موضع الانبوبة، سمي (حرق بيكرل) ومنذ ذلك الوقت بدأت البحوث تتري في تأثير الراديوم على الخلايا المريضة في الجسم، فافتتح في سنة 1906 في باريس (المعمل البيولوجي للراديوم). وفي سنة 1909 افتتح مركز يماثله في لندن ولكن لا يزال النجاح غير كامل في استخدامه للعلاج، وان كان موثوقا به في الأضرار بالخلايا السليمة إذا أسيء تعريضها إليه.

وفاة مدام كوري

ظلت (مدام كوري) تحاضر في السوربون، وتجري بحوثها العلمية حتى هذا العام. فأصيب بفقر في الدم وانتقلت إلى مصح حيث ماتت في الساعة الرابعة من صباح 4 يوليو سنة 1934 بعد أن خلدت اسمها في صحائف المجد.

وقد خلفت (مدام كوري) وراءها ابنتها مدام (جوليو) زوجة العالم الفرنسي الأستاذ (جوليو). وهي كوالدها شغوفة بالبحوث العلمية، وهي تسلك نفس الدرب الذي شقه والداها من قبل. فقد أجرت مع زوجها في سنة 1931 بعض تجارب في إطلاق (الدقائق الألفية) على عنصر (البريليوم) مما كان من نتيجته الوصول إلى معرفة أحد الأحجار البنائية في الكون وهو (النترون). فان لازمهما التوفيق فسيكون للعلم (مسيو ومدان كوري) آخران.

مصطفى محمود حافظ

مدرس بمدرسة المعلمين بامبابه