مجلة الرسالة/العدد 540/الشعر المرسل وشعراؤنا الذين حاولوه

مجلة الرسالة/العدد 540/الشعر المرسل وشعراؤنا الذين حاولوه

مجلة الرسالة - العدد 540
الشعر المرسل وشعراؤنا الذين حاولوه
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 11 - 1943


3 - الشعر المرسل وشعراؤنا الذين حاولوه

للأستاذ دريني خشبة

بين يدي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة بواكير من الشعر المرسل لا بأس بها للشعراء الأساتذة: محمد فريد أبى حديد علي أحمد باكثير وأحمد زكي أبي شادي وعبد الرحمن شكري وخليل شيبوب والمرحوم جميل صدقي الزهاوي، ثم قطعة للآنسة سهير القلماوي (السيدة الدكتورة الآن)

ولما كانت القطع التي نظمها الأستاذ عبد الرحمن شكري والمرحوم جميل صدقي الزهاوي، ثم القطعة التي نظمتها الآنسة سهير متشابه من حيث القصر، ومن حيث كونها أقرب إلى القصائد منها إلى ما وضع الشعر المرسل من أجل (النظم المسرحي ونظم الملاحم والقصص الكبيرة) فنحن مضطرون إلى صرف النظر عنها الآن، على أن نعود إليها في فرصة أخرى، ونرجو أن نوفق إلى ذلك بعد الفراغ من استعراض آثار الشعراء الأفاضل الباقين، لأنها أهم ما في الأدب العربي الحديث من الشعر المرسل. أما قطعة الأستاذ شيبوب فقد جمع فيها بين ستة أبحر وربما تناولناها في حينها

فللأستاذ أبي حديد:

1 - مقتل سيدنا عثمان (درامة كاملة)

2 - خسرو وشيرين

3 - ميسون الغجرية (أوبريت كاملة)

4 - زهراب ورستم (ملحمة نقلها بهذا الشعر عن الشاعر الإنجليزي ماثيو أرلوند)

5 - بعض المشاهد عن درامات مختلفة لشكسبير

وللأستاذ باكثير

1 - السماء أو إخناتون ونفرتيتي (درامة كاملة)

2 - إبراهيم باشا

3 - روميو وجولييت (ترجمة عن شكسبير)

وللأستاذ الدكتور أبي شادي:

1 - ممنون (اقصوصة منقولة عن فولتير) 2 - ترنيمة أتون (منقولة بالشعر الحر عن العلامة برستد الذي ترجمها عن الهيروغليفية إلى الإنجليزية)

3 - مملكتي إبليس (شبه ملحمة للدكتور الفاضل)

4 - كثير من القطع القصيرة الأخرى

الرائد الأول:

لست أدري أي الرائدين فكر لأول مرة في موضوع الشعر المرسل في مصر خاصة وفي العلم العربي عامة، أهو الأستاذ الشاعر عبد الرحمن شكري، أم هو الأستاذ الشاعر محمد فريد أبو حديد؟ ليكن أيهما شئت، فالذي يهمني وأفرح به وأتعصب له هو أنهم أحرزا لمصر قصب السبق في هذا الميدان الجديد من ميادين النظم؛ ولن يمنعني تعصبي للشعراء المصريين من أن أكون أول المصفقين لشعراء الشعوب العربية العزيزة حينما يظهر من بينهم هذا الشاعر الأصيل المجلي الذي يبرز في الميدان ويأتي في موضوع الشعر المرسل بطرائف وغرر تبذ طرائف وغرر شعرائنا، ما دام هدفنا هو تجديد الأدب العرب، وتجديد الشعر العربي بوصف كونه فرعاً من فروع هذا الأدب، وإخراجه من حدوده الشكلية والموضوعية الضيقة التي وقفت عند النهضة الأندلسية الكبرى

على أنني لا أشك مطلقاً في أن الأستاذ أبا حديد هو الشاعر الثائر الأول الذي فكر في نظم درامة كاملة بالشعر المرسل الذي لا يخضع لسلطان القافية، فقد نظم درامة (مقتل سيدنا عثمان) سنة 1918 أي منذ خمس وعشرون سنة، عندما تخرج من مدرسة المعلمين العليا، وعندما وضعت الحرب الكبرى الأولى أوزارها

وقد نظمها الأستاذ أبو الحديد لنفسه كما يقول في المقدمة. . . أو على حد تعبيره هو: (. . . لقد كان أبعد شيء من تصوري أن تتلك الرواية سوف تقع عليها عين سواي، فإني ما كتبتها إلا لكي ألهو بكتابتها، أو إن شئت قلت أني لم أكتبها إلا للذة النفسية التي كنت أجدها في تأليفها، فلما أن أتممتها كما رسمت وضعتها في درج مكتبي، وكنت لا أعيرها بعد ذلك ألتفاتاً. . .)

وقد بقيت الرواية في هذا الدرج المظلم المكدس بالمسودات عشر سنوات تباعاً. . . ولم ترى الضوء إلا سنة 1927 حينما كان الأستاذ مدرساً بمدرسة الأمير فاروق الثانوية، فطبعتها المدرسة لحسابها الخاص ومثلتها فرقة التمثيل بها

ونحن يسرنا أن نسجل هذا كله لفائدة تاريخ الأدب العربي الحديث، وتاريخ الأدب المصري بنوع خاص

وقبل أن نتناول الدرامة بشيء من التلخيص أو التحليل أو النقد نثبت النادرة، أو الفكاهة الأدبية التاريخية التالية:

عندما فرغ الأستاذ أبو حديد من نظم روايته، أو كتابتها كما يقول هو، حملها معه، وانطلق بها كأنه وقع على لقية، أو اهتدى إلى الأكسير الذي أضنى كيمائيي العرب، حتى إذا بلغ جريدة الأهرام، دخل على الأستاذ الأديب المغفور له صادق عنبر فحدثه حديثها، الذي هو حديث الشعر المرسل، ثم استأذن الأستاذ في أن يتلو عليه بعض مناظرها. . . ثم انطلق في هذه التلاوة، وعنبر عليه رحمة الله مصغ له. منصت إليه. . . وقد خيل إلى الأستاذ أبي حديد أن الأديب الكبير غفر الله له ما تقدم من ذنبه - وما تأخر أيضاً - قد أخذ فعلاً بجمال هذا اللون الغريب من ألوان الشعر، واستولى على نفسه سحره؛ فلما فرغ الشاعر الشاب من تلاوته، التفت إليه الأديب العتيد وتبسم قائلاً أتدري يا أبا حديد؟ إن مصر لم تكسب من هذه الحرب الكبرى غير شيئين. . . الشعر المرسل. . . والحمى الإسبانيولية! وكانت الحمى الإسبانية قد تفشت عقب تلك الحرب في مصر حتى أذاقت أهلها الأمرين!

ولست أدري لماذا نجوت أنا من براثن تلك الحمى التي أشفيت بسببها على الهلاك إذ ذاك، ولماذا عشت إلى سنة 1943، لأدعو من جديد إلى الشعر المرسل، توأم الحمى الإسبانيولية وصونها في نظر المغفور له الأستاذ صادق عنبر؟!

ترى. . . ماذا كان وقع هذا اللقاء في نفس الأستاذ أبي حديد؟ ولكن لماذا نسأل؟. . . لقد مضى ينظم من الشعر المرسل الذي يتخلله بعض الشعر المقفى تلك الأوبريت الجميلة الرائعة (ميسون الغجرية) والتي طبعها على حسابه هو، لا على حساب مدرسة كذا أو معهد كذا أو لجنة كذا من لجان التأليف. . . ثم مضى يترجم ثم ينظم ملحمة زهراب ورستم التي استأذن القراء فأقول إني أكاد أحفظ أصلها الإنجليزي عن ظهر قلب لروعة أسلوبها وجمال تسلسلها وبهاء شعرها المرسل المنظوم بقلم ماثيو أرنولد الشاعر الناقد العظيم! وقد فرغ أبو حديد من نظمها شعراً مرسلاً سوف أعرض نماذج منه في حينه ونقف بعد ذلك لحظة. . . لقد ذكرت في الثبت الذي وضعته بين أيدي القراء في صدر هذا المقال للأستاذ أبي حديد، درامة خسرو وشيرين، ولست أدي لماذا صنعت هذا دون أستأذن الأستاذ في ذلك، إذ أنه نظم الدرامة وأعدها للطبع. . . ثم طبعها بالفعل. . . وأصدرها دون أن تحمل اسم مؤلفها!. . . إذن لماذا أذيع أنا هذا الاسم دون استئذان؟ هل صنعت ذلك دون وعي، أو أنا إنما صنعته خدمة لتاريخ الأدب المصري الحديث؟

ثم نتساءل بعد هذا لماذا لم يثبت الأستاذ أبو حديد اسمه على روايته؟ قد تجد من ذلك الذي نقتطفه من المقدمة جواب هذا السؤال: (. . . وأما إذا أنت صبرت أيها القارئ، فقرأت سطران أو سطرين أو ثلاثة من هذا المطبوع ثم قذفت به حيث أردت لم تكن في ذلك بالمعذور، بل كنت متفضلاً مضحياً من أجل مجاملتي، مع أنك لا تعرف من أنا، وفي هذا أدب عظيم وكرم مطبوع. وأما إذا كنت قد بلغت من قوة ضبط النفس ورياضتها على المكارة بحيث استطعت أن تثبت على القراءة حتى أتيت إلى آخر كلمة، ثم تركت لنفسك العنان بعد طول كبحها وحبسها فانطلقت تصخب وتشتم وتنادي بالويل والثبور - إذا فعلت ذلك كنت في نظري بطلاً من أبطال العزيمة وقوة الاحتمال. على أنك لو فعلت ذلك لم يمسسني منك أذى، وإن بلغت في ثورتك مبلغاً مخيفاً لأن قد توقعت مثل ذلك فأخفيت نفسي حتى لا تتحرج فيما تفعل. . . . . . فأفعل ما بدا لك أيها القارئ ولا تتورع فإن أحجارك أو سهامك لن تصل إلي!)

ولا بد لنا من أن نقتطف القطعة التالية أيضاً

(وأما إذا كنت يا أخي - ولا مؤاخذة - ممن في ذوقهم شذوذ عن المألوف مثلي فاستحليت من هذا القول ما يمر في الأذواق أو أعجبك منه ما يقبح في الأنظار فلك رثائي وعطفي، فالمريض يعطف على مثله! ومن آية رثائي لك وعطفي عليك أنني أنصحك نصيحة أرجو أن تقبلها. . . فقد تعرضت قبلك من جزاء شذوذي عما ألفه الناس لكثير من الألم والفشل؛ فأحذرك من إظهار رأيك - (أي في استحسان الشعر المرسل! - أمام أحد من الناس ولو كان من أعز أصدقائك، فالصداقة قد لا تقوى على الثبوت مع الشذوذ في الرأي والذوق. . .))

لماذا يا ترى يتحرج صاحب مذكرات جحا! - (وهذه غلطة عظيمة أخرى نغلطها من دون وعي) - كل هذا التحرج ويتأثم كل ذلك التأثم؟! هل يتحرج كل هذا التحرج، ويتأثم كل ذلك التأثم، لأنه كما يقول شذ عن مألوف الناس في نظم الشعر، وثار بقوافي العروض العربي، فتعرض لكثير من الألم والفشل؟. . . ولكنا نسائل أنفسنا عن هذا الألم وذاك الفشل أين هما؟ وإن كان أبو حديد قد تعرض للكثير منهما فما باله لم ينصرف عن هذا الشعر المرسل الثقيل الغث الذي يعرض ناظمه - أو كاتبه - لألوان مرة من الألم، وصنوف كثيرة من الفشل؟ ما باله لم ينصرف عن هذا البلاء الذي يؤمن بأن قراءة سطر أو سطرين منه كافية لأن تضع الحصى في يد القارئ فيحصب به الناظم أو الكاتب لو رآه؟ ما باله يطول جنينه إلى هذا النظم السمج النابي على الأذواق فيكتب به كل تلك الروايات وينظم منه هذه الملاحم التي يعترف بأن قراءة سطر أو سطرين منها تضحية من القارئ وأدب عظيم وكرم مطبوع السخاء نفس وتفضل. . . وإن القارئ إذا خرج بعد قراءة هذا وسطر أو هذين السطرين عن طوره فقذف بما نظم أبو حديد من حالق أو قذف به في نار جهنم أو نار المدفأة أو مزقه أو ألقى به من النافذة أو دفعه إلى الأطفال يعبثون به، فهو معذور لا تثريب عليه، لأن أبا حديد زعم له بأنه صاحب نظم جديد وصاحب رسالة جديدة - صاحب نظم جديد هو هذا النظم المرسل الذي لم يعرفه الذوق العربي فضلاً عن أن يألفه، وصاحب رسالة جديدة هي توسيع مودة الأغراض التي يجب أن يتسع لها أفق الشعر العربي والأدب العربي جميعاً فتكون لنا درامة عربية وتكون لنا درامة عربية منظومة، وتكون لنا درامة عربية منظومة كما ينظم الشعراء العباقرة في أوربا. . . إذا لم يكن من ذلك بد، فلا بد أن نقحم الشعر المرسل على الشعر العربي إقحام، ولا بد أن نصعر خدودنا للناس وأن نلح عليهم في قبول هذا الشعر المرسل حتى يعرفوه وحتى يألفوه وحتى يغرموا به كما عرفه الأوربيون وألفوه وأغرموا به من القرن السادس عشر إلى اليوم. . . لا بد أن نقحم الشعر المرسل على الشعر إقحاماً، ويجب أن نصعر خدودنا معشر الشعراء للناس، ويجب أن نتحمل أذاهم مهما يكن مبلغ هذا الأذى. فما حصوات نرجم بهن مرة أو مرتين، وما كلمات من سباب لن يمتلئ بهن الهواء قط توجه إلينا هنا أو هناك؟ سنلح عليهم كما ألح أبو حديد، فإذا بلغ سخطهم علينا حد القتل، لا قدر الله، فلنمكر بهم كما مكر، ولنمضي في سبيلنا من حيث كتابة الدرامات والملاحم المنظومة بالشعر المرسل ولنطبعها لهم ولنوزعها عليهم بالمجان. . . فلنحصيهم بها كما حصبونا بالحجارة ولا داعي مطلقاً لكتابة أسمائنا - نحن معشر الناظمين أو الكاتبين - عليها. ولتكن تضحيتنا في ذلك خالصة لوجه الوطن والأمم العربية ولوجه اللغة والأدب. الأدب العربي والأدب المصري على السواء. . . ولن نعدم كاتباً كصاحب هذا المقال يفاجئ الناس بالحق، ويذكر لهم أننا أصحاب هذه الدرامة والملاحم الضائعة. . . ومن يدري؟ فقد يأتي يوم يستسمح الناس فيه رجعتهم وتمسكهم بالقديم الرث. وقد يزيدون فينزعون عنهم ما نسج لهم المهلهل وذو الرمة وعلقمة النحل ليرتدوا أفوافاً من نسجنا نحن. . . وحينئذ لا نجد داعياً لهذا التخفي، بل ربما أصابنا طائف من الزهو والخيلاء فآثرنا ركوب الجمال ليرانا الناس جميعاً ويشار إلينا بكل بنان! وهل في ركوب الجمال شذوذ كشذوذ الشعر المرسل؟ وهل ركوبهن خروج على مألوف الناس كخروج الشعر المرسل على المألوف المعروف من قوافي الشعر العربي؟ ولماذا نعد ركوب الجمال شذوذاً وخروجاً على مألوف الناس مع أن المهلهل كان يركب الجمال، والمهلهل هو الذي هلهل الشعر فيما يهذمي مؤرخو الأدب العربي، وهو الذي جعل للشعر تلك القوافي المطردة إلى ما زال الناس في جميع العالم يستحلونها ولا يرون الفكاك من أغلالها، فلماذ لا نركب الجمال العالية كما كان يصنع المهلهل. . .

وندع المهلهل الذي لم يفرض على الناس شعره وقوافيه، ونعود إلى أبي حديد نسائله عن هذا الشعر المرسل، وعن طول حنينه إليه، وما باله يذكر النضال عن هذا الشعر عند ما تصدر مجلة الرسالة فينشر في سنتها الأولى استفتاء عاماً يجعل موضوعه ترجمة نثرية لخطبة أنطوني في درامة يوليوس قيصر لشكسبير - والترجمة بقلم الأستاذ الجليل محمد حمدي بك - ثم ترجمة للخطبة نفسها بالشعر المرسل بقلمه هو. . . فيما كان هذا الاستفتاء إذن؟ وفيم كانت محاولة إغراء الناس أو مغازلة أذواقهم بموضوع هذا الشعر؟ لقد كانت نتيجة الاستفتاء نصراً شبه كامل لشعر أبي حديد، فما الذي ثناه عنه يا ترى؟ وما الذي أقعده عن المضي فيه؟ ولماذا حرم أبو حديد أدبنا المصري الحديث من طرفه الرائعة، ومن روحه الدرامية الناضجة، ومن فكاهته العذبة السائغة، ومن فنه المسرحي المتفتح؟ لماذا تصدر درامته - (خسرو وشيرين) - دون أن تتشرف بحمل اسم صاحبها؟ صاحبها الثائر الأول الذي ينبغي أن يحفظ له تاريخ الأدب المصري هذا الجميل الخالد، وتلك اليد النقية المباركة،. . . والى متى تظل ملحمة (زهراب ورستم) حبراً على ورق؟ وكيف ينتصر ترسينو في إيطاليا سنة 1551 وينهزم أبو حديد وشعراء النظم المرسل في مصر في القرن العشرين؟

ولكن ما هو هذا الشعر العربي المرسل الذي من أجله عقد هذا الفصل؟

ذلك ما لا يتسع له مجال القول الآن.

دريني خشبة