مجلة الرسالة/العدد 544/تقرير معالي وزير المعارف

مجلة الرسالة/العدد 544/تقرير معالي وزير المعارف

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1943


عن إصلاح التعليم في مصر

لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يصدر عن وزيرها تقرير كهذا

التقرير يجمع بين الرأي والعزيمة في تنفيذ خطة مرسومة لغاية

معلومة. ومن قبل كانت سياسة التعليم في مصر نمطاً من سياستها

العامة: سيراً على غير خطة، أو خطة إلى غير غاية. وكانت وزارة

المعارف على الأخص قد عاهت بالاستعمار فظل نباتها نكداً لا يغل

ولا يظل. وكان البانون على أثر دنلوب يحاولون أن يرفعوا البناء فلا

يرتفع، ويجهدون أن يدعموه بتقارير الخبراء ومباحث اللجان فلا

يندعم؛ ذلك لأنهم كانوا يبنون على أسس دنلوب وقواعده؛ وأسس

دنلوب وقواعده هي أولئك الموظفون المخضرمون الذين نشأهم

المستشار على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم بروتين

النظام حتى أصبح لهم فطرة. فإذا كان القائم على أمور الوزارة قوياً

انطوت هذه الفئة انطواء القنافذ وتركوا النشاط للشباب ذوي العلم

والخبرة، فغيروا المناهج وقوموا الخطط ورسموا الغاية وبدلوا الكتب

وبدءوا التجربة. وإذا كان ضعيفاً بسطت سلطانها على كل إرادة،

ورجعيتها على كل تجديد، فاحتسبت الإرادات في الرءوس، واستقرت

الأنظمة في المكاتب، وعاد الدولاب القديم يدور دورانه البطيء

بالتأليف المريب لجواز الامتحان، والتعليم الفج لبلوغ الوظيفة. لذلك لم

يكن بد من قصور البنيان بين البناء والهدم، وتذبذب الإصلاح بين

الرأي والعزم، وعجز المدرسة المصرية عن تنشئة جيل يكون له العلم خلق، ومع العمل ضمير، ومع الشهادة إرادة. . .

ذلك إلى أن القائمين على ثقافة هذا البلد قد اتسموا بميسم السياسة العامة، فحصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، ولم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له ليضعوا سياستهم على مقتضيات حاله، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته

نعم، لأول مرة في تاريخ المعارف المصرية يتولاها وزير يريد أن يعمل ويدري كيف يعمل. وهذا التقرير الذي نشره نجيب الهلالي باشا هو المقدمة الممهدة للتاريخ الذي سيكتب بعد الحرب لمصر العالمة العاملة. وليست قيمة هذا التقرير الخطير فيما اشتمل عليه من خلاصة الآراء الفنية لأساطين التربية في إنجلترا وأمريكا؛ إنما قيمته العظمى في الروح الذي أوحاه، والغرض الذي توخاه، والعزم الذي انطوى عليه: وهل كانت تقارير الفنيين أمثال (مان) و (كلاباريد) تعوزنا حين كنا ندور على أنفسنا دوران أبي رياح لا نتجه ولا نسير، ولا نعرف قبيلاً من دبير؟

نهج معالي الوزير في تقريره الخطة المثلى لإصلاح التعليم وتجديده، ولم يعتمد في نهجه كما قال (على الخيال والأماني، وإنما اعتمد فيه على تجارب مصر في نهضتها الحديثة، وتجارب الأمم الراقية التي سبقتها إلى النهوض في أوربا وأمريكا)

وهذه الخطة تعتمد (على أسس بلغت من الوضوح حد البداهة، لا في مصر وحدها، بل في العالم المتحضر كله، وهي أن التعليم حق للناس جميعاً. . . وأن المساواة ما دامت أساس الحياة الديمقراطية يجب أن تشمل حقوق الناس وواجباتهم كلها، والتعليم من أول هذه الحقوق لأبناء الشعب، ومن أول هذه الواجبات على الدولة. . . و (أن هذه المساواة تستلزم إزالة الفروق بين القادر والعاجز؛ وسبيل ذلك تيسر التعليم للناس جميعاً بإلغاء مصروفاته شيئاً فشيئاً حتى يصبح هذا الإلغاء عاماً. وتستلزم هذه المساواة كذلك أن يلاحظ المشرفون على التعليم مواهب المتعلمين وكفاياتهم، وأن يوجهوا كلاً منهم إلى أن ينفع وينتفع ويكون مواطناً عاملاً كريماً في وطن راق كريم)

وعلى هذه الأسس الثابتة أقام الهلالي باشا دستور التعليم المقترح. وأقوى مبادئ هذا الدستور (أن الديمقراطية لا يتحقق معناها الرفيع إلا إذا اعتمدت على أساس راسخ من التعليم الصحيح)؛ و (أن التعليم ضرورة من ضرورات الحياة للأمة، وليس شأنه في سنوات الشدة بأقل من شأنه في سنوات الرخاء؛ فعليه يتوقف مصير كل أمة ويتضح سبيلها وتحدد غايتها)؛ و (أن الغرض من التعليم هو أن تيسر للأبناء طفولة سعيدة، ويهيأ لهم أن يبدءوا حياتهم بدءا حسنا، وأن يوفر للشعب كله أوفى قسط ممكن من الخير والنعيم، وأن تدبر جميع الوسائل لتنمية المواهب المختلفة وحسن توجيهها، وأن يتاح للشباب كل الفرص الممكنة ليتعلموا ويتقدموا، وأن تبذل الجهود التي تفتح لهم أبواب العمل تأميناً لمستقبل الفرد ورفاهية الجماعة)؛ و (أن كل فرد يجب أن يتعلم التعليم الذي يؤهله لمواجهة تجارب الحياة العاملة ومشكلاتها)؛ و (أن الدولة محتوم عليها أن تسوي بين جميع طبقات الأمة فيما تتيح لهم من فرص التعليم)؛ (فلا يجوز بحال ما أن يعوق الفقر طالب علم عن إتمام تعليمه، ولا أن يحول بينه وبين المدرسة التي يهيئه لها استعداده العقلي)؛ (وأن الأمة لا يمكنها أن تحتفظ بمجدها الصناعي والتجاري إلا بالتوسع في التعليم الفني)

هذه الأسس والقواعد وما بني عليها أو استند إليها معلومة في بدائه العقل فلا سبيل عليها لناقد؛ إنما سبيلنا وسبيل المخلصين أن ندعو لها الله أن يبقى الوزير في الوزارة، والمستشار في الاستشارة، حتى تخرج إلى النور، وتصبح في حمى الملك والدستور

احمد حسن الزيات