مجلة الرسالة/العدد 545/جامع أحمد ابن طولون

مجلة الرسالة/العدد 545/جامع أحمد ابن طولون

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1943


4 - جامع أحمد ابن طولون

للأستاذ أحمد رمزي بك

قنصل مصر في سوريا ولبنان

ولا أجد حرجاً من إيراد نص اللوحة التذكارية التي كتبت بالخط الكوفي المزهر لذلك العهد وفيها:

(نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه معد أبي تميم الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الأكرمين، أمر بتجديد هذا الباب، وما يليه عند عدوان النار على أيدي المارقين، السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الأنام أبو النجم بدر المستنصري، أدام الله قدرته، وأعلى كلمته، ابتغاء ثواب الله، وصلب مرضاته وذلك في صفر سنة سبعين وأربعمائة)

وتدل تلك الكتابة على حوادث الثورة، التي جرت في عهد المستنصر حينما اعتصم بعض الثوار بالجامع وتحصنوا فيه، فحوصروا وأحرق بسبب ذلك جزء منه جدده الأمير بدر الجمالي وزير الدولة الفاطمية

في تاريخ مصر العربية، وقفات حزن وأسى ولوعة، اضطرب فيها قلب مصر كما قال أحد كتابنا في دفن الزعيم مصطفى كامل، ولقد قال شوقي يومئذ:

شقت لمنظرك الجيوب عقائل ... وبكتك بالدمع الهتون غواني

ولقد وقفت القاهرة صفاً صفاً، تودع الزعيم الشاب إلى مرقده الأخير، وأثر في هذا المنظر، أنا القاهري الناشئ، فصرت وطنياً وأنا في السابعة إلى نهاية ما يكون الوطني عليه في الحماس

وأثر في كرجل يميل إلى التاريخ والأدب، فصرت أتتبع أيام مصر التي اضطرب فيه قلبها، اضطراب يوم مصطفى كامل

وإني لأذكر بعد البحث، أن صفحات تاريخنا مملوءة، بمثل هذا اليوم، ولكني لا أجد حزناً ولوعة بنسبة حزن مصر وأهلها على زوال ملك الفاطميين

أن ما وصل إلينا من ذلك قليل من كثير، ولكنه يفيض حناناً. والحقيقة أن العصر الفاطمي قد ترك فينا معاشر المصريين أكبر الأثر، وصبغ حياتنا صبغة خاصة، فإذا أردت تدرس مصر العربية، لا تنسى أن تدرس الدولة الفاطمية بالتفصيل، فنحن لا نزال نسير على سنتهم ومراسمهم؛ فزيارة آل البيت فرض على كل من يؤم القاهرة من أهل الريف، والاحتفال بصلاة الجمعة اليتيمة والعيدين، والاهتمام بالقراء والتلاوة والتلقين كلها من آثار ذلك العهد

ومنذ أيام كنت أقلب كتاب الروضتين فجاء ذكر الشاعر عمارة اليمني بأنه من أتباع الدولة المصرية وأورد له شعراً رقيقاً يفيض حنواً على الإمام العاضد آخر خلفائهم إذ يقول:

أسفي على زمن الإمام العاضد ... أسف العقيم على فراق الواحد

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت ... يا بن النبي من ازدحام الوافد

ولقد دفع عمارة الشاعر الثمن بحياته جزاء إخلاصه، وبشعره تطوى صفحة من تاريخ مصر، تصحبها نغمة من نغمات الحزن العميق والتقدير، لندخل طوراً من أطوار المجد والبطولة تغمره الحوادث والمعارك والنصر والغلبة

أنتقل إلى القسم الأخير من هذه الكلمة، فأعرض لوصف المسجد وصفاً مختصراً:

الجامع الطولوني هو الثالث في ترتيب المساجد الجامعة التي أقيمت فيها صلاة الجمعة في مصر، بعد الفتح التحريري العربي، بناه الأمير أحمد بن طولون على جبل يشكر في الجهة الجنوبية من القاهرة، بينها وبين الفسطاط، في حي السيدة زينب الآن، وهو أقدم مساجد مصر بلا نزاع، بل أقدم آثارها العربية، بعد مقياس النيل بجزيرة الروضة، وأول جوامع مصر هو الذي بناه عمرو بن العاص، ثم جامع العسكر. فلما قدم ابن طولون صار يصلي فيه الجمعة بجنده وسودانه، فشكا أهل مصر إليه، فعزم على بناء جامع، فأشار عليه جماعة من الصالحين أن يبنيه على جبل يشكر، وذكروا له فضائله فأخذ برأيهم.

ذكر ابن دفملق والمقريزي عن هذا المسجد من أن بناءه أقيم على مثال جامع سامرا أو سر من رأى

ولقد ذكر الأستاذ كريزول ما يأتي:

إنه على عهد بني أمية كانت الدولة عربية خالصة، وكان يغلب على العمارة التأثير السوري واستعمال الفسيفساء

ثم انتقلت عاصمة الخلافة إلى بغداد في عهد بني العباس، وصارت مركز التطور الدولي، فغلبت على العمارة المؤثرات الفارسية وأساليب العمارة الساسانية والعراقية

وابن طولون من مواليد سامرا وقد جاء إلى مصر يحمل معه كل تقاليد البلاط، وما من شك في أنه يميل إلى تقليد مولاه

كتب الكثيرون في وصف المسجد، ولقد أخذنا ما تقدم نقلاً عن الأستاذ محمود عكوش في كتابه المطبوع 1927، ولكن ظهر بين يدينا اليوم كتاب الأستاذ كريزول العظيم؛ ويتضح من أبحاثه التي قام بها في العراق والصور التي أخذها لجامع سامرا من الجو، أن التماثل بين المسجدين عظيم، وأن مسجد ابن طولون ما هو إلا صورة مصغرة للمسجد الذي بناه المتوكل في عاصمة ملكه سامرا بالعراق

فإذا كانت البوانك على صفين من الجانبين في مسجد مصر، فهي أربعة في مسجد المتوكل، وقس على ذلك السعة والأروقة والارتفاع والضخامة، ولقد كشفت صور الجو أن تحت الثرى مدينة بأكملها قد غطتها الفيضانات العالية، بدجلة تنتظر الكشف لتخرج مدينة سامرا القديمة بشوارعها ومبانيها كما كانت في أيام العباسيين

ولا شك في أن مسجد ابن طولون سيكون انموذجاً، قد حفظته مصر للعراق، إذا فكرت الحكومة العراقية في إعادة بناء مسجد المتوكل، إنه سيكون تحفة من تحف الدنيا، ومظهراً من أضخم مظاهر مدنية العرب، وجبروتهم في العمارة والإنشاء

ونعرض هنا إلى موضوع المنارة، فهي من أغرب ما يستوقف الأبصار، وتعد من الألغاز لأنها مبنية على شكل لا نظير له في المنائر بجميع الأقطار العربية والإسلامية. ولقد انقسم العلماء واختلفوا كعادتهم هل هي لاحقة لبناء المسجد، أم بنيت معه وهل هي صورة من منارة سامرا الحلزونية؟ والعلماء وهم كعادتهم قد جزموا بأن الأثر البيزنطي ظاهر واضح في كل شيء، وأن العرب لم يأتوا بجديد، فكبر على نفوسهم أن تأتي الحفائر والاكتشافات فتظهر أن المسجد صورة من مسجد عربي، أكبر من هذا هو جامع سامرا، وأن الأسطورة البيزنطية لا شأن لها اليوم وقد وضعت العناية الحق على لسان الأستاذ كريسول فدعمه بعلم وتمحيص دقيق يعجز عنه المتصدرون لاستعمال العلم لغايات في أنفسهم هي الإقلال من شأن العرب والعروبة والمنارة حديث طويل، وفي أواخر القرن السابع الهجري لجأ إليها الأمير حسام الدين لاجين المنصوري، وكان المسجد مهجوراً، ويوقد به سراج واحد ويدخله خادم، وقد تعطلت الشعائر الدينية فيه

(البقية في العدد القادم)

أحمد رمزي