مجلة الرسالة/العدد 545/من حضارة الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 545/من حضارة الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 12 - 1943



دور التحف العربية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

المتاحف أمكنة لحفظ التحف والألطاف والآثار. وهي الآن سبيل من سبل المعرفة. وقل أن تجد عاصمة غربية من غير دار للتحف تضم أشتاتاً من الآثار. فالمتحف البريطاني بلندن معروف مشهور. وهو مؤسسة قومية تضم كثيراً من الكتب والمخطوطات والمطبوعات والرسوم والآثار القديمة وقطع النقود. وقد أسس سنة 1700، ولم تفتح أبوابه للزائرين إلا سنة 1759

وفي باريس مجموعة من المتاحف أشهرها متحف اللوفر الذي يضم مجموعة ثمينة من الآثار المصرية القديمة والآشورية واليونانية والرومانية، وطائفة كبيرة من آثار العصور الوسطى والعصر الحديث.

وفكرة إنشاء المتاحف وفتح أبوابها لإفادة الجمهور فكرة أوجدتها النهضة الأوربية الحديثة المعروفة بالرينسنس. وكانت إيطاليا أسبق الأمم إلى العمل بها. ومنها تسربت إلى بقية الدول. وقد بدأ الإيطاليون بها في القرن الخامس عشر، وهو ذلك القرن الذي شهد مصرع الإسلام في الأندلس وسقوط دولة بني الأحمر

ويظهر أن الإيطاليين أخذوا فكرة المتاحف عن العرب الذين نقلت معارفهم وعلومهم وألوان ثقافتهم إلى أوربا عن طريق الإيطاليين. ولقد مهد لذلك وجود طائفة كبيرة من الآثار والتحف والألطاف التي أخذها الأسبانيون من خزائن ملوك غرناطة المسلمين. فكانت تلك الأسلاب والنهائب النواة لإنشاء المتاحف العامة التي تزدحم الآن بكثير من الآثار العربية وغير العربية.

ولم يكن عند العرب نظام المتاحف العامة حتى يقال إن الغربيين أخذوه عنهم. ولكن الحق أن العرب كان عندهم نظام المتاحف الخاصة والخزانات العامرة في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء التي تحوي كل نفيس. وتضم كل ثمين. فرأى الغربيون أن يجعلوا ميدان الانتفاع بهذه الفكرة أوسع، ومجال الاستفادة منها أعظم؛ فنقلوها إلى بلادهم، وأخرجوها من ملكية الأفراد إلى ملك الأمة وتراث الوطن حتى يضمن لها البقاء، وت من الضياع والتعرض للنهب والحريق وغيره.

وكان الخاصة يجمعون التحف على سبيل المباهاة والافتخار، لأنهم أقدر الناس على جمعها. فقد حكموا أن أحشوبرش الآشوري كان عنده خزانة خاصة افتن في جمع آثارها، كما افتن البطالسة في مصر في جمع التحف وأقاموا لها المتاحف في مدينة الإسكندرية التي كانت زاهرة في عهدهم.

ولم يعن النبي عليه السلام وخلفاؤه الراشدون بجمع التحف لأنهم لم يكونوا أهل مادة ودنيا، ولكن أهل تقية وعفاف وتحرج. وقد كان عمر بن الخطاب يتحرج من مزاولة التجارة.

ولم يهتم خلفاء بني أمية بجمع التحف حتى على تشبههم بالأعاجم في اتخاذ التيجان على رؤوسهم. وهذا عمر بن عبد العزيز كان قبل الخلافة مفرطاً في النعيم، حتى لم يجد فيه حساده عيباً إلا هذا. فلما ولى الخلافة تزهد.

فلما جاء العباسيون مالوا إلى الاهتمام بجمع التحف والآثار، وكان لكل خليفة من جامعي آثارهم هوى خاص. فهذا الخليفة الراضي ابن أخي الخليفة القاهر اتخذ في داره خزانة خاصة لجمع البللور حتى قال فيه الصولي: (ما رأيت البللور عند ملك أكثر منه عند الراضي، لا عمل ملك منه مثل ما عمل، ولا بذل في أثمانه ما بذل حتى اجتمع له من آلته ما لم يجتمع لملك قط)

وكان في ملوك بني بويه شغف بجمع التحف، وخاصة عضد الدولة بن بويه؛ فقد ذكر ابن الصابي ونقل عنه المستشرق السويسري آدم متز أنه خلف من الجواهر واليواقيت واللؤلؤ والماس والبللور والسلاح وضروب المتاع شيئاً كثيراً. ويقول ابن الجوزي في كتابه المنتظم أن بهاء الدولة بن بويه جمع من المال والتحف والألطاف ما لم يجمعه أحد من بني بويه.

على أن بعض خلفاء العباسيين قد غالوا في الجمع إلى حد الترف والبذخ مما يصح أن يكون موضع مؤاخذة لهم. فقد روى الثعالبي صاحب لطائف المعارف أن المكتفي - وهو قريب من عصر المأمون - ترك من الكراع والسلاح والأثاث والجوهر وعمائم مرو والحلل الموشاة اليمانية المنسوجة بالذهب وبطائن كرمان في أنابيب القصب والأبسطة الأرمنية - ترك من ذلك كله ما يعد بالآلاف.

وقد حاكى كثير من الأمراء الخلفاء في جمع التحف، فهؤلاء البرامكة روى عنهم سهل بن هارون، وكان خازن دار الحكمة في عصر المأمون، كثيراً من مغالاتهم في الجمع قائلاً: (فإنه لا يصف أقله، ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال، وعرف منتهى الآجال)

ولا شك أن كثيراً من متحف العباسيين قد ضاعت فيما ضاع بسبب غارة التتار عليهم. فقد حدث ابن الفوطي البغدادي - وكان معاصراً لسقوط بغداد سنة 656 - : (أن السلطان هولاكو وصل بغداد في جيش لا يحصى عدده ولا ينفد مدده. فخرج الخليفة المستعصم وزيره مؤيد الدين العلقمي ومعه جمع كثير إلى السلطان. ثم دخل الخليفة بغداد ومعه جماعة من أمراء المغول، وخوجه نصير الدين الطوسي. وأخرج إلى التتار من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والأعلاق النفيسة جملة عظيمة).

أما بلاد الأندلس فقد جمع كثير من ملوكها وأمرائها الأعلاق والنفائس في دورهم الخاصة. ولا شك أن الزهراء وهي المدينة التي بناها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر غربي قرطبة كانت تزخر بدور التحف الخاصة. فقد نقل صاحب نفح الطيب عن ابن الرقيق: أن الناس لما اقتحموا الزهراء أسقطوا هشاماً وأزالوا دولة بني عامر، ونهبوا قصور الخلافة فيها، حتى أن بعض ما نهب في هذه الثورة وصل إلى بغداد وسائر بلاد المشرق وبيع في أسواقها.

وكان لهذه التحف والألطاف - كما هو الشأن اليوم - أسواق تباع فيها وسماسرة يتجرون بها. وقد روى ابن الفقيه أن تجاراً من اليهود كانوا يأتون من مقاطعة بروفنس بفرنسا، ويحملون معهم الديباج والخز الفائق والفراء الثمينة، كما ذكر ابن خرداذبة أن تجار الروس كانوا يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود والسيوف. كما كانت تحف الصين وألطافها تأتي مع التجار الذين ذرعوا البحار في تلك الأزمان.

ولقد أسرف خلفاء الفاطميين في ذلك الباب إسرافاً عظيماً، ولم يكتفوا بوضع هذه الألطاف في قصورهم، بل أقاموا لها قصوراً خاصة، وكانوا يسمونها الخزائن جمع خزانة، ولم تكن تلك الخزائن - كما يفهم من اسمها - أمكنة للخزن، وإنما كانت معارض خاصة توضع فيها التحف على نظام خاص ونسق معين، فهي بعينها دور التحف التي نراها اليوم، وفرق ما بين الاثنين أن الأولى كان يملكها ملك أو أمير والثانية ملك عام للأمة، فهي من منافعها العامة التي تتولى الإشراف عليها وتقوم على توسيعها وتزويدها لتكون ميراثاً وطنياً خالصاً لا يختص به حاكم ولا سلطان.

كان عند الفاطميين خزانة للأسلحة تعادل الآن المتاحف الحربية العامة التي عنيت الأمم حديثاً بإنشائها. ونستطيع أن نقول إن فكرة التخصيص في المتاحف كانت عند الفاطميين. ولعلهم أول من استعملها فيما نعرف من التاريخ. فكان عندهم للجواهر دار، وللأسلحة دار، وللفرش دار، وللطرائف دار، وللسروج دار، وللخيم دار، وللشراب دار. وكان بعض هذه الخزائن أشبه بمصانع لإنتاج ما يحتاج إليه الأمراء والجند والحاشية، كما يفعل (سلاح الصيانة) الآن في الجيوش الحديثة، ويدل على ذلك ما رواه المقريزي في الجزء الثاني من خططه. فقد ذكر أن خزائن السلاح كان من محتوياتها ذو الفقار سيف علي وصمصامة عمرو بن معد يكرب، وسيف كافور الأخشيدي، وسيف المعز ودرعه، وسيف الحسين بن علي عليه السلام، ودرقة حمزة، وسيف جعفر الصادق.

أما دار الطرائف فقد جمعت النفيس الرائع في العصر الفاطمي من البسط والستور والتعاليق وآنية البللور. التي كانت تصنع باسم الخلفاء ورسمهم. فقد روى المقريزي عمن يثق بقوله أنه رأى بطرابلس قطعتين من البللور الساذج الغاية في النقاء وحسن الصنعة إحداهما خردادي، والأخرى باطية مكتوب على جانب كل واحدة منها اسم العزيز بالله (تسع الباطية سبعة أرطال مصرية) ويسع الخردادي تسعة)، وأنه عرضهما على جلالة الملك ابن عمار فدفع فيهما 800 دينار. فامتنع من بيعهما، وكان اشتراهما من مصر من جملة ما أخرج من الخزائن. ووجد أكثر من مائة كأس بادزهر ونصب وأشباهها على أكثرها اسم هارون الرشيد وغيره، كما وجد للسيدة رشيدة ابنة المعز لدين الله حين ماتت ما قيمته الآف الآلاف من الدنانير. ومن جملة ذلك بيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، كما وجد للسيدة عبدة بنت المعز الأخرى ما لا يحصى من النفائس، ومن ذلك حصير من الذهب وزنها 18 رطلاً ذكر أنها الحصير التي جليت عليها بوران بنت الحسن بن سهيل على المأمون - إلى غير ذلك مما أفاض المقريزي في وصفه وسرده.

وقد يكون في ذلك كثير من المبالغة، إلا أنها على كل حال لا تعدم من الحق سبيلاً.

وكان المماليك يهتمون بجمع التحف والألطاف وتزيين قصورهم بها. وقد روى المقريزي في الجزء الثالث أن الأمير تنكز الأشرفي عين من قبل قلاوون أميراً على الشام، وظل كذلك إلى أن تنكر له السلطان وجهز له من قبض عليه، وصادر أمواله وكان من جملتها الجوهر واللؤلؤ والزركش والنفائس. فإذا كانت هذه حال أمير من أمرائهم؛ فما بالك بالسلاطين أنفسهم، وقد كان المال في أيديهم كثيراً؟

ومن سوء الحظ أن كثيراً من هذه التحف قد ضاع، ولا يبلغ ما جمع منها في متاحف العالم إلا قدراً ضئيلاً. وقد تكون أيدي الجهال عبثت بها فأحالتها إلى غير حالتها، فأسالت ذهبها وفضتها وهشمت زجاجها وبلورها.

ومن عجائب الأقدار أن مصائر ما بقي من التحف أو سلم منها كمصائر بني البشر أنفسهم. قد فرقتها الأقدار وبعدتها الأدهار وأنزلتها في غير أوطانها، وأحلتها في غير بلدانها. ففي لندن منها قطع، وفي باريس أشتات. وفي مدريد وروما وبرلين والقسطنطينية وغيرها.

لقد نشطت الأمم العربية وانتبهت إلى الاحتفاظ بآثارها وجمعها في دور عامة. فأنشأت دار الآثار العربية في مصر سنة 1881، وإن كان أمر إنشائها صدر في عهد إسماعيل سنة 1869، وأنشئ المتحف الأهلي في الجزائر سنة 1897، وأنشئ المتحف العلوي في تونس، ودار الآثار العربية في العراق في تاريخين غير متحققين عندي.

ولعل البلاد العربية جميعاً تضاعف الهمة حتى تحتفظ بالكثير من تراثها المفقود.

محمد عبد الغني حسن