مجلة الرسالة/العدد 548/قصر أنطونيادس

مجلة الرسالة/العدد 548/قصر أنطونيادس

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1944


للدكتور زكي مبارك

هو أنطونياذس، بالذال لا بالدال، في النطق اليوناني، ونحن ننطقه بالدال على أسلوبنا في المراوحة بين هذين الحرفين، كما نقول: دا، في مكان ذا، وكما نقول: دي، في مكان ذي، وكما نقول: خد، في مكان خذ. . . وكان ذلك لأن الدال أخف في النطق من الذال، لا تحوجنا إلى بروز اللسان بين الأسنان.

أترك هذه الفائدة اللغوية لأواجه الموضوع فأقول:

كانت أيام الصيف الماضي أيام أعياد لقصر أنطونياذس، فقد ورد اسمه مرات ومرات في الجرائد المصرية والسورية والحجازية والعراقية، إلى آخر ما هنالك من الجرائد التي تصدر باللسان العربي، ثم ورد اسمه أيضاً مرات ومرات قي الجرائد التي تصدر بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية واليابانية والصينية، إلى آخر ما هنالك من الألسنة التي يهتم أصحابها بالمشكلات الدولية

ونحن نعرف الأسباب التي جعلت لقصر أنطونياذس هذه المنزلة التاريخية، فقد كان المكان المختار لمشاورات الوحدة العربية، المشاورات التي اشترك فيها رجال يمثلون العراق والشام والحجاز. . . ولو تمهلت الحوادث لاشترك فيها رجال يمثلون لبنان قبل أن ينتهي ذلك الموسم الجميل

وأنتم رأيتم الصور التي سجلت بعض المناظر لأولئك المتشاورين، ففي الجانب المصري يجلس رفعة النحاس باشا ومعالي الهلالي باشا وسعادة الأستاذ محمد بك صلاح الدين، وفي الجانب العراقي أو السوري أو الحجازي يجلس من اختارتهم أمتهم لتلك المشاورات، ثم يكونون ضيوف الحكومة المصرية في قصر أنطونياذس، إلى أن تنتهي مهمتهم الرسمية

فما هو قصر أنطونياذس الذي شغل الجرائد والمجلات والإذاعات والبرقيات عدداً من الأسابيع في الصيف الذي سلف؟

أعترف بأني ما كنت رأيت ذلك القصر من قبل، فما كان يهمني من الإسكندرية غير الشواطئ، ولا كنت أتصور أن فيها مكاناً أبهج من محطة الرمل. عليها تحية الحب!

الصورة التاريخية هي التي دفعتني إلى رؤية قصر أنطونياذس لأكتب عنه كلمة توضح بعض ملامحه لمن يجهل من أحواله ما كنت أجهل، وما أكثر ما أجهل من أحوال بلادي!

منطقة شعرية

أخذت العربة طريقها بمحاذاة نادي سبورتنج، ثم اتجهت شرقاً إلى ناحية خفق لها قلبي، القلب الذي تذكر أنه زار تلك الناحية في الليالي البواسم قبل أن تولول أبواق الحرب!

نعم، هذا كازينو النزهة، وهذي موسيقا الرقص في ضحوات الآحاد، بعد أن امتنع فيه الرقص بالليل

وتلك طيوف الماضي تعاودني برفق أو بعنف، فقد كان لي في ذلك الكازينو ذكريات

متى تعود أيامي؟ متى تعود؟

من حق الأيام أن تنتقم مني، فقد أكرهتها على أن تكون في مذاقي رحيقاً في رحيق، وهي بلؤمها تريد أن تكون غسليناً في غسلين

وهل استطاعت الحياة أن تنتقم مني؟

وكيف وهي مثقلة بالديون لقلمي؟

نحن نبتدع الحياة بأفكارنا وأحلامنا، لنجد ما نصوره بأقلامنا، فإن فكرت الحياة في أن تمن علينا فلتنزجر ولترتدع فليس لها في أعناقنا جميل، وإنما نحن أصحاب الجميل

إن الإنسان خليفة الله في الأرض، ونحن لا نخترع هذا القول، فقد جهر به القرآن المجيد، فما مصير الحياة لو عاشت بلا أبناء، ونحن وحدنا الأبناء الأصلاء؟

إن خطيئة أبينا آدم كانت نعمة على هذه الأرض، فما كان للأرض تاريخ قبل أن يهبط إليها من الفردوس، وما صنع إلا لأنه مجموعة نفيسة من الآراء والأهواء، والحقائق والأباطيل

بإرادة إلهية خلقناك خلقاً يا هذه الأرض، وصيرناك مؤتمرات سلام وميادين حروب

حديقة الورد

هي حديقة نموذجية تذكرنا بالجوانب الوردية من حديقة لكسمبورج في باريس، وقد هجعت الورود بسبب قسوة الشتاء

الآن عرفت ما لم أكن أعرف

عرفت أن البرد يؤذي أهل الرقة واللطف، وينفع أهل القسوة والعنف الآن عرفت كيف كان العرب يصفون المرأة الرقيقة بأنها (تؤوم الضحى)، ومعنى ذلك أنها لا تستطيع الاستيقاظ في برد الصباح، لأنها في رقة الورد، والورد لا يستيقظ في ساعات البرد

هل تذكرون حياة النمل؟

إن النمال تكون من العمالقة في الصيف، ثم تأوي إلى مساكنها المطمورة في الشتاء

ولا كذلك بنو آدم، فقوتهم في الشتاء لا في الصيف، ومن هنا جاءت فكرة (عيد الميلاد)، وهي تعبير عن نزعة إنسانية قبل أن تكون تعبيراً عن نزعة مسيحية، فما يعرف أحد بالضبط في أي شهر ولد المسيح، لأنه ولد قبل أن يلتفت الناس إلى تقييد المواليد

البرد هو الذي نفع روسيا فنصرها على نابليون، وقد ينصرها على هتلر بعد حين.

وتأخر البرد في هذه السنة آذى المزارع المصرية بعض الإيذاء، لأن في الدفء حياة للديدان، وحياة للنمال، وحياة للذباب، وفي حياة هذه المخلوقات جور على أرزاق الناس

البرد هو الذي يعلمنا كيف نستعد لمقاومة التقلبات الجوية، وهي تقلبات لا ينتصر عليها غير من يتدثرون بالأثواب والقلوب

وآية (يا أيها المدثر) تدل على أن الرسول تفتح قلبه للوحي في ليلة شاتية، وسنجد دليلاً على صحة هذا الافتراض، إن كان يحتاج إلى دليل

وهل تهجع الأرض في الشتاء كما يتصور الناس؟

إن الحرارة تتحول إلى جوف الأرض فتعدها إعداداً صالحاً للإنبات والإيراق والإزهار والإثمار، وسبحان من لو شاء لكشف الحجاب عن حكمته العالية في مداولة الأيام بين الصيف والشتاء.

وهل تهجع شجيرات الورد كما تصورتها وأنا أجول في حديقة الورد؟

إنها تستجم، ولعلها تدير في نفسها الصور المنتظرة للربيع المقبل، كما يستجم الفنان ليدير في نفسه الصور المنتظرة لربيع الفكر والخيال

لا نوم ولا موت في هذا الوجود، لأن الله خلقه لليقظة والخلود.

لو زحزح الحجاب لحظة واحدة لرأينا جميع الموجودات في اقتتال أو اعتناق، وإن ظهر للعيون أنها غافيات لم يرحم الشتاء غير طائفة قليلة من الازاهير، فرأينا ما تصنع النحل، وتذكرنا أن النحل تمنح وهي تنهب، لأنها تشعر الزهر بمعاني الحنان، والحنان غذاء الجمال

تدخل النحلة إلى جوف الزهرة فتعتصر ما فيها من رحيق، ثم تنتقل بسرعة إلى زهرة ثانية وثالثة ورابعة، ولا تكف إلا حين تغلبها النشوة فتميل إلى القرار والاطمئنان

والنحل تترك الخلايا من وقت إلى وقت، وتسافر في طلب الرزق، ثم ترجع بدون أن تضل الطريق، فسبحان من أوحى إلى تلك الخلائق اللطيفة ما أوحى، سبحانه سبحانه، وإن كان غنياً عن الثناء

التمثال

دخلنا الروضة النائمة بسب البرد، فراعنا التمثال، وأي تمثال؟

ذلك وثن أقيم لفتاة عارية تتلقى شآبيب المطر، أو أكواب الشمس، في لحظة صفاء

تلك فتاة قتلت صباها وهي تخضع لصانعي التماثيل، وإلا فأين هي اليوم؟

بعشرين جنيهاً أو بثلاثين سمحت الفتاة المسكينة بالجلوس على تلك الصورة أسابيع وأسابيع، ليصاغ منها ذلك التمثال

قلت للجنان: افتح صنابير النوافير لأرى كيف تغتسل هذه الشقراء

لقد كادت الفتاة تستيقظ لتتعلق بعنقي، فما تحدث عنها شاعر قبل أن تراني كان الماء على شفتيها، وكأنها عروس في ليلة حمراء أين النموذج؟ أين؟ إنه فتاة ذهبت إلى غير معاد، فما يعمر مثل هذا الجمال، وهل تطول أعمار الورود؟

ركعت هنالك طفلة ظريفة، وهي تقول في بغام يشبه الحنين:

فما عرفت أي الروحين أرق وألطف، الروح الناطق، أم الروح الصامت!

النموذج مات، بدليل أنه سكت عن مطالبة البلدية بحقوقه في روضة الورد، ولأن زيارته ميسورة بنصف قرش، وما أهون الجمال الذي يزار بأنصاف القروش!

أين أنا مما أريد؟

كان الغرض أن أصف قصر أنطونيادس، فشرقت وغربت، واتهمت وأنجدت، ولم أقل شيئاً عن القصر ذي الشرفات والروضات، القصر الذي سمع نجوى القلوب الصوادق بأماني الأمم العربية، حقق الله تلك الأماني

وهل كان يجوز أن أتحدث عن ذلك القصر قبل أن أصف ما يحيط به من رياض هي ملاعب أهواء، ومراتع ظباء؟

كل شيء ينبض بالحياة في تلك المنطقة الشعرية، وإليها تهفو الأرواح في ضحويات الشتاء، وعصريات الربيع، ولا ينافسها، إلا رمال الشواطئ حين يقبل الصيف!

ما هو قصر أنطونيادس؟ إن له عندي شجوناً من الحديث، وموعدنا المقال المقبل، والله هو الموفق

زكي مبارك