مجلة الرسالة/العدد 548/كتب وشخصيات
مجلة الرسالة/العدد 548/كتب وشخصيات
2 - إبرهيم الثاني. . . للمازني
للأستاذ سيد قطب
خصائص المازني وفنه
أخيراً يهتدي المازني إلى نفسه ويمضي على نهجه، ويستغل أفضل مزاياه.
و (أخيراً) هذه تعني سنة 1929 يوم أخرج المازني كتابه (صندوق الدنيا)، وإن كان قد نشره متفرقاً من قبل في صورة مقالات.
وإذا علمنا أن المازني بدأ ينشر سنة 1910 أو حواليها، فإننا نسأل: وفيم إذن أنفق أكثر من خمسة عشر عاماً قبل أن يتجه اتجاهه الأصيل؟
والجواب أنه أنفقها أولاً قي التمهيد والتحضير لدوره الأخير، وأنفقها ثانياً في التهيئة العامة للأذهان والأذواق، متابعاً في هذا وذلك زميله العقاد، مع بعد ما بين الرجلين في الطبيعة والاتجاه.
والواقع أنني لم أعجب لشيء عجبي لاقتران هذين الاسمين في الأذهان فترة طويلة من الزمان، وهما يكادان يتقابلان تمام التقابل في الطبيعة الفنية والإحساس بالحياة
فالعقاد موكل بالفكرة العامة والقاعدة الشاملة، والمازني موكل بالمثال المفرد والحادثة الخاصة؛ وبينما يضع العقاد يده مباشرة على مفتاح القضية أو الفكرة يمضي المازني في استعراض أجزائها ودقائقها مستلذاً هذا الاستعراض مشغولاً به عن كل ما عداه. وفي العقاد ثورة وزارية وسخط على النقائص والعيوب الكونية والاجتماعية والنفسية (وإن أدركه العطف على الضعف البشري)، ومع ثقته وتفاؤله بالحياة، وفي المازني قلة مبالاة وسخرية واستخفاف، وشيء من التشاؤم يبطنه بالفكاهة والشيطنة.
ومن هنا احتفال العقاد واهتمامه وجده فيما يأخذ وما يدع من الأمور حتى في فكاهته وسخريته؛ واستخفاف المازني وسهولة أخذه للمسائل والأشياء، وإن لم تنقصه الفطنة لما فيها من متناقضات
ومن الأمثلة الحاسمة التي يهيئها الاتفاق فتصور الفارق الأصيل بين اتجاهي التفكير وطريقتي النظر والتعبير، إجابتا المازني والعقاد على سؤال في مجلة، كان عنوانه: (هل أخلاقنا في تقدم)؟
فأما العقاد فقد سارع بوضع القاعدة ونصب الميزان، وهو يقول:
(نعم الأخلاق المصرية في تقدم، أو أن الرجاء في تقدمها أقرب من اليأس، وربما منعنا أن نرى دلائل التقدم أن الرجة عنيفة، وأن الغبار كثير حول الأقدام وفوق الرءوس. فإذا انجلى غداً عرفنا ما خطوناه، وما لا يزال أمامنا أن نخطوه
(ومن الواجب أن نعرف مقياس التقدم قبل أن نقيس ونضبط القياس فمقياس التقدم عندي هو احتمال المسئولية لأنه الفارق بين كل متقدم وكل متأخر بلا استثناء
(. . . وإذا كانت المسئولية مقياس التقدم الأوحد، فالحرية إذن هي شرط التقدم الذي لا غنى عنه بحال من الأحوال، لأنك لا تفرض المسئولية على إنسان مكتوف اليدين، ولا بد من حرية حتى تكون مسئولية، ولا بد من مسئولية حتى يكون تقدم في الحاضر أو المستقبل
(هذه الفوضى التي نراها في أخلاقنا هي مظاهر الحرية الأولى، أو هي أول مفاجأة من مفاجأتها. . . الخ
وقد تخالف العقاد أو توافقه، ولكنك مضطر أن تنظر أولاً في (مقياس التقدم) أو في (مفتاح الفكرة) الذي يلخص الرأي ويبلور التفصيلات
وأما المازني فراح يستعرض المظاهر الخلقية ويحكم عليها واحداً بعد الآخر حسبما رآه. فقال:
(كيف تصلح أخلاق أمة والبيت فاسد والتفاوت بين الرجل والمرأة شديد، والتربية سيئة، والمدرسة عقيمة النهج، والقدوة العامة على أسوأ ما يمكن أن تكون، ولا تقدير للتبعات والمسئوليات، ولا احترام للحقوق، ولا اعتراف بوجود حدود، ولا ثقة بإنصاف. . .) الخ
ويلاحظ أن المازني ذكر (تقدير التبعات والمسئوليات) التي ذكرها العقاد ولكن هذا جاء هنا عرضاً ومظهراً، بينما جاء هناك قاعدة وأصلاً
وعلى هذه الوتيرة تسير طبيعة العقاد وطبيعة المازني في عملهما الفني بل في حياتهما كذلك. والفرق كما ترى بين الطبيعتين بعيد وبينما كان العقاد يسير على نهجه الأصيل منذ نشأته في النقد الأدبي والدراسات الفلسفية والعلمية، وفي دراسة الشخصيات والسير؛ ويتهيأ للمكانة الملحوظة التي بلغها فيما بعد في دراسة التراجم والمذاهب الفنية، ويقطع مراحل التحضير إلى مرحلة النضوج الأخيرة على بصيرة واستواء. كان المازني يتنكب عن نهجه ويسير في غير طريقه وهو يتناول هذه الموضوعات التي يتناولها العقاد يومذاك، إلى أن اهتدى إلى أفضل مزاياه في عام 1929 وقبله بقليل. وكان ذلك لخير الأدب بلا جدال
وقد أخرج المازني - وهو في التيه - كتاب حصاد الهشيم وكتاب قبض الريح، والقارئ يعجب لتشابه الموضوعات في هذين الكتابين مع موضوعات كتابي الفصول والمطالعات للعقاد ولتشابه الاتجاه في الرأي كذلك، وإن بقى الفارق الكبير بين الطبيعتين والطاقتين حتى في هذا الطور المختلط، الذي لم يكن المازني فيه يفطن إلى حقيقة مزاياه؟
ولا نحب أن نظلم المازني فنغفل عن عوامل الزمن والبيئة التي كانت تحتم عليه هذا الاتجاه في ذلك الزمان. فأغلب الظن أن الحالة الفكرية وفهم الأدب وتقدير الفنون في هذا الوقت لم تكن تسمح بظهور أديب يكتب على نهج المازني الأخير الذي بدأه بصندوق الدنيا سنة 1929 أو قبلها بقليل
وحسبنا لمعرفة هذه الحالة ولتقدير الجهد الذي بذله المازني بجوار العقاد في تصحيح مقاييس الأدب والفنون عامة، أن نعلم شيئاً عن المشكلات التي كانا يعانيان شرحها وهي اليوم في حياتنا الأدبية من البديهيات. فمسائل مثل: وحدة الشعر هي القصيدة لا البيت؛ اللغة وأساليبها تتطور بتطور الزمان؛ التصوير (الفتوغرافي) في الفنون لا يعد عملاً فنياً. . . إلى آخر هذه البديهيات، كانت في ذلك الحين من أعوص المشكلات!
ولقد قرأت بعطف كبير قول المازني في (الحصاد الهشيم)
(ما مصير كل هذا الذي سودت به الورق وشغلت به المطابع وصدعت به القراء؛ إنه كله سيفنى ويطوى بلا مراء. فقد قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم. ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض ومهدوها ورصفوها؟ من الذي يعنى بالبحث عن أسماء هؤلاء المجاهيد الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد؟ (وبعد أن تمهد الأرض وينتظم الطريق، يأتي نفر من بعدنا ويسيرون إلى آخره، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة، ويذكرون بقصورهم، وننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها سامقة رائعة، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد!
(فلندع الخلود إذن، ولنسأل: كم شبراً مهدنا الطريق؟) أدركني عطف كبير وأنا أقرأ هذه السطور، وأراجع جهد المازني وجهد العقاد في التمهيد نحو ربع قرن من الزمان، ووددت لو كان المازني بجانبي حينئذ، لأقول له:
(لا يا مازني! إن نصيبك ونصيب زميلك الكبير أكبر جداً من مجرد التمهيد، فلقد بنيت بعد ذلك - على طريقتك - بنايات جميلة نابضة بالحياة في (إبراهيم الكاتب، وإبراهيم الثاني، وفي صندق الدنيا، وفي الطريق. كما أٌقام هو - على طريقته - بنايات سامقة معمورة الأركان. وفي التراجم الأخيرة على الخصوص)!
اهتدى المازني إذن إلى خصائصه وسار أخيراً على نهجه. فما هذا النهج وما تلك الخصائص بالتفصيل بعدما تقدم من الإجمال؟
والمازني فكاهة ودعابة وسخرية. وقد يفهم بعض الذين تصدوا للنقد بلا عدة وافية أنها غاية خصائصه ومزاياه. وهي منها ولها قيمتها في تلوين أدبه بلونه الخاص؛ ولكني لا أراها في مجموعها خير ما في المازني الفنان. فكثيراً ما تقوم دعابات المازني على نوع من سوء التفاهم المتعمد والمفارقات الكثيرة في الحركات الذهنية التي تقابل مفارقات الحركات الحسية في بعض أدوار (لوريل وهاردي) المشهورة، ولو عدل هذا (التوليف) الخاص لفقدت كل مزيتها، وليس هذا من الدعابة العميقة الأصيلة. ولا يمنع هذا أن يصل بعضها إلى القمة حين يلاحظ المفارقات الإنسانية والنفسية وينسي العبث بالحركات الذهنية والمغالطات اللفظية، وأبرز ما يكون ذلك حين يضبط نفسه أو نفس سواه؛ وهي تغالط نفسها لتهرب من مواجهة موقف أو تتوارى من الكشف في وضح النهار، أو تدعي فضلاً ليس لها وتنكر سيئة عملتها. وللمازني في هذا نماذج قليلة نسبياً، ولكنها من أمتع وأقوى ما تحويه الآداب.
أما مزية المازني الكبرى فهي طريقة إحساسه بالحياة.
إذا كان بعض العيون يأخذ الحياة جملة، فعين المازني تأخذ الحياة بالتفصيل، وهي عين مفتوحة واعية فاحصة، لا تفوتها حركة ولا يند عنها لون؛ وهي تستعرض الحياة والمناظر والنفوس والأشياء، ولا تشبع من النظر ومن التقاط هذه الدقائق في يقظة وانفعال.
وليس كل كائن في الحياة موجوداً بالقياس إلى النفس الإنسانية؛ إنما تملك النفس ما تفطن له وما تنفعل به. واللحظة القصيرة تطول وتضخم إذا هي امتلأت بالأحاسيس وأفعمت بالانفعالات، والتقطت العين والنفس كل أو معظم ما تنطوي عليه من الدقائق والتفصيلات.
وكذلك يصنع المازني باللحظات، وكذلك يملؤها حتى يكظها ويزحمها بالانفعالات. وقد لا يبلغ أغوار الحياة ولا قلالها؛ ولكنه يذرعها طولاً وعرضاً، ويلحظ كل دقيق لا تأخذه العيون، فإذا هو في حفل من الصور والحركات والتصورات، إذا هو يعيد إليك هذه الصور المتحركة في حرارة فائرة كأنها حية حاضرة.
تلك مزية المازني التي لا نظير له فيها في اللغة العربية كلها، إلا ما قد يقع لابن الرومي في بعض قصائده مع الفارق بين قيود النظم وضروراته، وانطلاق النثر وحريته.
وبعد فما قيمة (إبراهيم الثاني) التي كنا ننوي الحديث عنها، فأعدانا المازني في هذا الاستطراد!
هي قصة قلب إنساني يضطرب في عواطفه اضطراباً طبيعياً حياً صادقاً تجاه ثلاث من النساء، كل منهن نموذج من المرأة يلتقي مع الأخريات في الجنس ويفترق في الطراز. وكل منهن امرأة طبيعية في هذا الاتجاه
وهو قلب إنساني حافل بالتجارب مثقل بالقيود - وفي أولها قيد المعرفة الثقيل - ولكنه فائض بالحيوية، زاخر بالعواطف، يضطرب بين الأثقال ويتفلت من هذه القيود. والمؤلف الواعي يسجل كل حقيقة وكل اختلاجة في دقة كاملة ويبطن ذلك كله بالدعابة الساخرة التي لا تنجو منها شخصية من شخصيات القصة جميعاً!
وهي من حيث كونها قصة تقف في أواسط الصف؛ ولكن من حيث مزية المازني التي أسلفت الحديث عنها تقف في أول الصف بلا جدال
والذي أريد أن أقوله: إن (الحدوتة) في ذلتها قد لا تكون خير ما في القصة، ولكن الفطنة للمواقف والمشاعر، والدقة في رسم اللحظات والانفعالات، والانسياب الطبيعي الذي يشعرك أن الحياة تجري في الورق كما تجري في الواقع اليومي. . . كل هذه مزايا ذات شأن في تقويم القصة وتقديرها وكلها تتفق (لإبراهيم الثاني) أحسن اتفاق. فالحركة والملاحظة والوعي لأدق الخلجات وأخفى التصورات، وخلع الحياة الفنية على الفتات التي لا يعنى به الكثيرون، يشيع الحيوية واللذة والانفعال.
ويصعب في مثل هذه الأعمال الأدبية - الاجتزاء بالمثال، فليقرأها من يريد التطبيق على هذا المقال!
ولا بد من الاعتذار في النهاية عن هذا البيان المقتضب السريع المحدود بهذا المجال.
(حلوان)
(سيد قطب)