مجلة الرسالة/العدد 549/شلي
مجلة الرسالة/العدد 549/شلي
(سيبقى شعرك ينبوع الأرواح الظامئة، لأنك روح ظامئ)
للأستاذ محي الدين السامرائي
بعض العباقرة لا تكاد نفهمهم الفهم الدقيق النافذ، إلا إذا فهمنا أطوار حيواتهم فنربطها بتجاربهم الميتافيزقية الخفية، والاختلاجات النفسية، لندرك ما وراء الحس في حياة كل عبقري من صدام وصراع
وشلي أحد أولئك الذين تعيننا ترجماتهم على كشف البواعث والولائد في أطباق نفوسهم القصية إذا ما أراد أحدنا درس واحد منهم دراسة عميقة، يقوم أساسها على الفهم الحي للعنصر الوحداني الدفين المستتر في قرارة كل نفس، ليخرجه إلى عالم النور
وإذاً، فقد ولد هذا العبقري الثائر في الرابع من أغسطس عام 1792 في ورشهام، بين الأجراج النضرة والمراعي الجميلة؛ فنشأ في أحضان الطبيعة القروية الساذجة، فاستشف مكامن الروعة من الكون بعينين ناعستين (كأنما أثقلهما وسن حالم عميق)، كما يقول أحد نقاده المعاصرين. ثم سافر حدثاً ليلتحق بكلية (إتون) باكسفورد، فبرم من تقاليدها المدرسية الرتيبة، وحاول مراراً التخلص منها، ولكن إرادة والده حالت دون ذاك؛ إلى أن نشر رسالة عن (ضرورة الإلحاد) وذلك عام 1811، هاجم فيها العقائد والأديان، وسخر من جميع المثل السائدة في عصره، وبشر بضرورة تحطم اللاهوت المسيحي وسحقه؛ فما كان من الجامعة إلا أن أقصته عنها، فغادرها وفي نفسه حز عميق من السخرية والسخط اللذين أثارهما بيديه من الأساتذة ورفاقه الطلاب. وهنا فعل الكبت فعله العجيب في مطاوي هذه النفس الحساسة النزوع. ومنذ هذا الوقت مضى طليقاً ينظم الشعر ويقرأ المثولوجيا اليونانية والآثار الكلاسيكية، ولا سيما أفلاطون وأسخيلوس اللذين أعجب بهما كثيراً، وصاحبهما طوال حياته؛ فأشربت روحه هذه الثقافة الحية المفعمة بدوافع الفن والحياة. وبقى يتنقل بين أقطار أوربا بعد أن ودع إنجلترا إلى غير رجعة، حتى وطئت قدماه أرض إيطاليا الجميلة، فاتخذها مقراً له، بصحبة زوجه ابنة الفيلسوف الإنجليزي وليم كودون؛ وهنالك استكمل تكوينه الفني المدهش فبقى يبدع الروائع الشعرية السامية دراكاً حتى وافته المنية غريقاً في ليجهورن على شاطئ سبيزا وذلك في الثامن من (يولية) عام 1822 وق بل مات منتحراً أثر اضطراب نفساني أصابه، يأساً من حياته المترعة بالآلام والأوصاب. فأحرقت جثته في حضرة صديقه العظيم بيرون، ودفنت بقاياه، حيث كتب على قبره باللاتينية:
(هنا يرقد قلب القلوب الشاعر بيرسي بيش شلي) وفي أسفل منها بيت من شعره يقول: (لقد عاش ومات وغنى وحيداً)
وهكذا انتهت حياة خذا الشاعر الستوحد الغريب بفاجعة من أعنف الفواجع التي عرفها تاريخ الأدب الحديث
ما كان شلي ممن يأخذ بدخيلات عصره، وتوافه بيئته؛ فقد عاش ما عاش هائماً في أجواء نفسه، وأقطار أوهامه، (مأخوذا بالسماء المكوكبة الساطعة بالأنوار) وبكل مظهر من مظاهر هذا الوجود الرحيب. فأثر ذلك تأثيراً عميقاً في روحه الفنية، وطبعه بتلك الانطباعات المتسعرة التي اعتصرت روحه العبقري على أساس من الثورة والألم، إلى جانب تشاؤم في الحساسية عميق، أشعره بالآم العصر الذي يضطرب فيه، وشاع في جوانب نفسه ميولاً متدفقة قوية، ولكنها تتأرجح بين (الشؤاطئ الزرق البعيدة الحالمة)، وبين (الجروف الصخرية الصماء)
فملخص ما يقوله الأستاذ الفيلسوف هوايتهيد فيه: أنه مؤمن بالعلم التجريبي يعالج الطبيعة ومظاهرها تحت ضوئه، في الحين الذي يستند فيه إلى المذاهب المثالية الأخرى مثل: كانت، بركلي، أفلاطون
فهو مزيج من نوازع متباينة تتجاذبه، فمن الناحية الواحدة نزعة إغريقية قوية تؤمن بالطبيعة وتقدسها، ومن الناحية الأخرى إحساس ديني عميق يربط مظاهر الوجود في وحدة كيانية واحدة
(عندئذ اتحد الجسم بالروح
وعرت كيان (أيانث) رعشة رقيقة
فأطقت جفنيها المحتقنين بهدوء
وعند ذاك توقفت الأجرام المعتمة الزرقاء. . .)
ومن هنا كانت ابتداعيته الطامحة، القلقة، المشرئبة إلى مثل إنساني يحرر النفس ويعتقها من ربقة المادة، وهدآته النفسانية المحلقة في عالم الأحلام: عالم المثل الرفيعة، حيث الحقائق متلاحمة يعروها الغموض. فشعره صورة صادقة للرومانتيكية التي تغلب الإبهام على الوضوح، ولو أنها لا تمت إلى الرمزية بصلة ما. فهي تسبغ صفة الجلال على كل شيء، وتنصر الباطن من الظاهر؛ فهي (رومانتيكية صوفية) بالمعنى الدقيق. وأكبر مظاهرها، ذلك الطرب الساذج - الذي يقرب من العبادة - لغرائب الطبيعة، والتمجيد العنيف لصور الوجود، الذي يذهب بنا إلى حالة انقياد روحي شديد، هي من أسرار الطلاقة الفنية في شعره. ويظهر هذا الأثر واضحاً في قصائده الأخيرة: القبرة، وانتصار الحياة، وأبيسكديون التي حار النقاد فيها، ومنظومتي هيلاس وبرمنيوس، التي يصور فيها الجبروت الإبليسي في شخصية البطل الخرافي بريشة تفوق ريشة ملتون في تصوير إبليسه
وفي الطور الأخير من حياته تأخذ (صوفية شلي الرومانتيكية) شكلها الأخير؛ إذ يخضع للقوى اللاواعية السلبية في النفس، فيستشعر الألفة والإنجسام في صلب الوجود العام، ويدرك أن هناك عقلاً سامياً وراء كل شيء، تتوقف السعادة الدائمة بالاتحاد الحبي به - كما يعبر الصوفيون - بعد أن أنكر ذلك من قبل. وتحت تأثير هذا الشعور الجديد في كيانه، نظم أغنيته الفذة أبيسكديون، التي هي (نشيد باطن) لتلك الروح التواقة لذلك الحب المثالي السامي، ولو أن فيها بعض الأثر من شلي القديم. وقد يخطئ من يظن أن شلي هنا، يبحث عن الحب الحسي الأرضي؛ فما الحب الذي يفتقده إلا الحب الروحي المغرق في المثالية الزاخرة بأحفل العواطف والأشواق، حيث العناق المكين بين الزائل الفاني والخالد الباقي. . . (كل شيء يحول إلا إياك أيها الحب. . .)
والآن استمع لشلي صاحب (ضرورة الإلحاد)، ينشد في آخر سنيه على لسان (النبي محمد) في افتتاحية منظومته السامية هيلاس إذ يقول:
أسرعوا واملئوا الهلال الباهت
بالأنوار الحادة، كتلك التي شقت عتمة ذلك
الليل المسيحي الذي انسحب إلى الغرب
حيث امتطي القمر المشرقي صهوة النصر. . .
ألا فلتحل اللعنة على أولئك الذين ديدنهم الإشراك وتقسيم الإله الأعلى المتعالي. . .
فشعره - كما يبدو لأول وهلة - مزيج من الرومانتيكية الجامحة والتصوف الرزين، مزيج من الأنوار والظلال، ومن العقل والجنون؛ فحيالة المحلق النفور قد عصف بكل الفواصل الأرضية، فانقطعت الصلة بينة بين أكثر القراء. حتى أن النقادة الكبير (ماتيو أرنولد) أطلق عليه لقب
(الشاعر السماوي المجنون)، إذ عاش حالماً بعوالم أثيرية قصية، مفعمة بأنفاس المحبة والجمال، (محدقاً تشفق الحياة الغائم) - وقد كرر هذا المعنى في شعره كثيراً -
ألا نهيم يا حبيبتي
نحو غابة الشفق.
حيث يتعالى القمر الوضئ؛
وهناك سأهمس إليك
في هواء الليل البارد
ما لست قادراً على البوح به في النور؟)
ولقد اختلف النقاد في تقدير ملكة شلي الفنية اختلافاً كبيراً، فهاجمه كثير منهم، أمثال صديقه الخائن (هوج) و (بيكوك) وغيرهما. بينما انتصر له النقادة الكبير ماتيو أرنولد وأنصفه من أعدائه. كما أن الكاتب الكبير لورد ماكولي كتب عنه يقول: إن شعر شلي لم يكن فناً وحسب، إن هو إلا وحي. أما البروفسور إيفور إيفانس أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة لندن، فقد رفعه إلى رتبة النبوة في شعره، واعتبره من أصحاب الرسالات المثلى في تاريخ البشرية
ومهما يكن من رأى النقاد فيه، فالحقيقة. أن فيه عنصراً غبر عادي، هو الذي حمل معاصريه على أن يروا فيه - على رأى ستيفن سبندر - رجلاً هستيري المزاج، منحرف السريرة، مزيجاً من الغول والإنسان، حتى أن رفاقه في المدرسة زروا عليه شذوذ سلوكه واندفاعاته الطائشة، فلقبوه بـ (شلي المجنون)، كما أن مؤسسة (شانسري) قررت حضانة ابنته من زوجه الأولى، بحجة أنه رجل متهوس مخبول، ليس أهلاً لإعالة إنسان. وفي ذلك - كما يبدو لنا - مظهر من مظاهر العبقرية السامقة التي لا تخضع لمقاييس الناس وموازينهم. أو ليست العبقرية - قبل كل شيء - انطلاقاً من كل قيد، وشروداً عن كل مصطلح ومألوف؟
أما عقيدة شلي الفلسفية ورسالته التي بشر العالم بها فلها قصة طويلة لا يستطيع جلوها ناصعة إلا عن طريق الدراسة الدقيقة لشعره في مختلف أطواره الروحية. مع أنه - بالحقيقة ليس صاحب فلسفة متبلورة ناضجة ذات حدود، إن هي في مجموعها إلا تجارب نفسية متباينة ذات أصباغ مشوشة غامضة
فشلي يرى ظواهر الوجود سيلاً مندفعاً من أزل الآزال إلى أبد الآباد لأي لحظة واحدة من الزمان. فهو - إذا شئنا الدقة الفلسفية - خلق مستمر، وامتداد من عالم الحرية إلى عالم الحتمية والضرورة.
(الكون السرمدي لهذه الأشياء
يتراكض خلال العقل. ويضرب بأمواجه الخاطقة.
آونة قائمة. وآونة ملتمعة؛ حيناً تقبض النفس،
وحيناً تنيرها. . . . . .
كجدول رقراق يأخذ سمته، خلال الغاب الكثيف
وبين الجبال، حيث الشلالات المتدافعة حولها إلى الأبد،
وحيث الغاب والريح يتصارعان؛ يندفع النهر الكبير
دائباً على الصخور بلا انقطاع، وهذه الكائنات - وفيها الإنسان - (كسحب تغشى القمر الليلي،
وسرعان ما تنقشع، فتلتمع، ثم ترتعش،
فترى الظلام بلألأئها! ثم يطبق الليل
ثانية. . . فتضيع هاتيك السحب إلى الأبد.
. . . ألا إن أمس الإنسان لا يشبه غده
فهو لن يعاني غبر التغير المستديم.)
أما حيال ذلك السر المحجب القديم: سر هذا الوجود ماذا يحول؟ وأيان منتهاه؟ فكثيراً ما وقف واجماً مبهوتاً لا يرى غير ظلمات يركب بعضها.
(يا أشباح الموتى! ألم أسمع عويلك المرتفع مع أنفاس الليل الدائرة، حيث تشتد العاصفة على الأثير المظلم
وعلى الريح الرخية تيلاشى هزيم الرعد؟
ألا ما أكثر ما وقفت على قمة جورا المظلمة العابسة فوق الوادي المنفرج في الحضيض.
وما أكثر ما صمدت أمام ثورة إعصار الليل القارس إذ يحوطني، كما يبدو لي، رجع أصداء الموت الهامسة!
فالموت يطارد جميع الكائنات (بأقدام لاهبة وأنفاس بارد صفراء)، حتى الشموس والأفلاك يصيبها الخمود والاندثار
(أخبرني أيها الكوكب ذو الأجنحة النورانية
المسرعة بك في دورانك المشتعل،
في أي من كهوف الليل ستنطوي أجنحتك
وأنت أيها القمر الأشيب الهزيل
في أية أعماق من الليل أو النهار
تطلب الراحة والسكون؟. . .)
لا! لن يقوى أمام ناموس الفناء غير (ذلك النور السماوي المؤتلق إلى الأبد)؛ أما الظلال الأرضية (فتتناثر بدداً تحت وطئ الموت. . . بينما تبقى روح أدونيس مشتعلة في أعمق أطباق السماء ككوكب هاد حيث الخالد الباقي.)
. . . وأخيراً طوته ظلمة الموت بعد أن ترك للعالم تجربة حية صادقة، وسجل لنا اعترافاً روحياً طويلاً مكتوباً بدم القلب
(بغداد)
محي الدين السامرائي