مجلة الرسالة/العدد 55/القصص

مجلة الرسالة/العدد 55/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1934



الهيكل العظمي

للشاعر الفيلسوف رابندرانات طاغور

في الغرفة المجاورة لحجرة نومنا - نحن الأطفال - كان هناك هيكل عظمي معلقاً، يجلجل في الليل حين يداعب النسيم عظامه، أما في النهار فقد كنا نحركه بأنفسنا، وكان يدرس لنا علم العظام طالب بمدرسة طب كامبل، ذلك لأن مَن حولنا وطدوا العزم على أن يجعلوا منا أساتذة مبرّزين في كل المواد، ومهما كان نجاحنا فلم نكن لنخبر به أحداً ممن يعرفنا، كما كنا نخفي ذلك عمن لا يمت إلينا بصلة.

مرت سنون اختفى في أثنائها الهيكل من الحجرة، كما محيت بقايا علم الأستولوجيا من ذاكرتنا، ولم تترك وراءها أثرا، وفي يوم من الأيام كان منزلنا في هرج يموج بالضيوف، وقدّر لي أن أقضي الليلة في الحجرة القديمة، وعبثاً كنت أحاولإغراء الكرى ليطرق جفوني؛ وبينما أنا أتقلب في مضجعي سمعت كل ساعات الليل تدق دقة واحدة إثر أخرى في المعبد المجاور لي، وبعد عدة دقائق انطفأ المصباح الموضوع في ركن الحجرة، بعد أن ظل شعاعه الخفَّاق يضطرب، فأسلمني الظلام إلى تذكر بعض أحباء فقدناهم، وتأملت خفوت الشعاع في محيط من الديجور القاتم، ومن ثم قارنت بينه وبين خروج الروح من أجسامنا البشرية الضئيلة وهالني الشبه العظيم بينهما.

وقد جعلني تداعي الأفكار أفكر في الهيكل العظمي، وبينا أنا أرسم في خيالي صورة للجسد البشري الذي كان يكسو هاتيك العظام النخرة، خيّل إليّ إني أسمع وقع أقدام تجوس خلال الحجرة وحول الفراش وتتلمس الجدران، وأحسست إني أسمع أنفاس المتجول المضطربة، وكأنما أعياه البحث فمضى يذرع الغرفة جيئة وذهوباً، وخدعت نفسي بأن ما أسمع ليس إلاّ من قبيل الوهم، وما صوره لي إلا الأرق الطويل، وتشتت العقل، ومحاكاة اضطراب أعصابي حاكي لوقع الأقدام؛ ومع ذلك فقد عرتني قشعريرة سرت في جسدي، ولكي أتخلص من هذا الوهم هتفت صارخاً: (مَن هنا؟) وإذا بالساري يقف حذاء فراشي ويقول: (إنه أنا، لقد جئت أفتش عن هيكلي الذي بارحته). فرأيت من الجبن أن أتخاذل أمام مخلوق صوّره وهمي، وجسَّمه خيالي؛ فأمسكت جيداً بالوسادة وقلت: إنه عمل جميل في هذا الوقت المتأخر من الليل! ما جدوى هذا الهيكل لك الآن؟ وإذا بالصوت يصدر من الكلة نفسها ويقول: يا له من سؤال عجيب! إن في هذا الهيكل عظاماً كانت سياجاً يقي قلبي الفتى الذي لم يجاوز السادسة والعشرين، أفلا يحق لي أن أراه مرة أخرى؟. فقلت له: (لا شك في ذلك، إنها رغبة سامية محترمة، فلتبحث عنه ما شئت، ودعني أنعم بالكرى قليلا!)

فقال الصوت: (أظنك هنا منفرداً، حسن، إني لأغتنم هذه النهزة لأجلس برهة معك، نتجاذب فيها الحديث، وتلك سجيّتي، فقيماً كنت أجلس إلى الرجال نتحادث، ولكن في الخمسة والثلاثين عاماً الأخيرة، أبدلت ذلك بأنيني مع الرياح الداوية عند قبور الأموات، وهاأنذا أتكلم مع فرد من بني البشر لأول مرة منذ مماتي).

وأحسست أن شخصاً يجلس قرب كلة سريري، فأذعنت الواقع وأجبت: (إن هذا في الحقيقة لشيء جميل جدا، وهيا بنا نتكلم في شيء طريف) فقال الصوت: (إن أجمل شيء أتذكره هو تاريخ حياتي، فدعني أقصه عليك)

وحينذاك دقت الساعة دقتين فانطلق محدثاً وقال:

(عندما كنت في ميعة العمر في دنياكم، كنت أخشى شيئاً واحداً كما أخشى الموت، ألا وهو زوجي، وكانت احساساتي أشبه باحساسات سمكة علقت بالشص، إذ كنت أحسبني هذه السمكة، وقد نزعت من ذلك الهدوء الذي شعرت به في منزل الصبا. لقد مات زوجي عقب زواجي بشهرين ولم يكن حزنهم على وفاته أكثر من حزنهم على حظي التعس، أما أبوه فقد نظر إلى وجهي ذات يوم وقال لزوجه: ألا ترين في عينها نذير الشؤم؟

ثم قال الصوت: (أمنصت أنت لقصتي: آمل أن تكون قد أعجبتك!)

فقلت: (لقد أخذت على جماع مشاعري وإن مبدأها ليشوق المرء إلى نهايتها.)

(ثم عاد الصوت يقول: دعني أتمها، لقد عدْت إلى منزل والدي، والسرور يملأ نفسي، واستنكر الناس هذا مني، ولكني كنت أعرف جيداً إني على قسط وفير من الجمال، ألا ترى ذلك؟)

(فقلت: لا شك في ذلك، ولكن يجب أن تتذكري إني لم أرك أبداً.)

فصاح الصوت: (عجباً لك! ألم ترني مطلقاً! إذن فما هذا الهيكل العظمي، ها ها، لا بأس عليك، لقد كنت أمزح معك وهل في مقدوري أن أعرفك كيف كان في هاتين الحفرتين الغائرتين عينان يشع منهما السحر، وألاّ تشابه بين الشفتين الياقوتيتين اللتين كانتا تفتران عن ابتسامة فتانة وبين تلك الأسنان القاتمة التي تعودت أن تراها، وإني كلما حاولت أن أصور لك ما كنت عليه من جمال عبقري، وحسن وبهاء ورقة، ابتسمت طربا كما أشعر بشيء من الحزن والغضب، وإن أشهر أطباء عصري لم يكن يخطر على بالهم أن عظامي ستكون يوماً وسيلة لتفهيم دروس الاستولوجي، أتعرف طبيباً شاباً - كما أعرف - قارن بيني وبين زهرة (الشامباك) وما دار بخلده أن هذا الهيكل المحطم لفتاة كانت هي زهرة الجمال، وكلما سرت شعرت بأني قطعة من الماس المتلألئ ألقيت في جوف الثرى، وأن كل حركة مني تثير عاصفة من الإعجاب، وكم أمضيت الساعات الطوال أتأمل هاتين اليدين اللتين تمناهما كثير من الشبان المتيمين، ولكن هذا الهيكل الجامد، لا يستطيع أن يحرك شعورك نحوي، ولست أملك وسيلة أدحض بها هذا الافتراء الذي يوحيه إليك هيكلي، ولذلك أشعر بمقت للرجال، وهاأنذا أطرد الكرى عن مقلتيك بوصفي لك شفتي الورديتين.)

فصحت قائلاً: (أقسم لك بجسدك، أنك لو كنت محتفظة به حتى الآن لما كان للاستولوجي أثر في ذاكرتي، ولكان الذي يملؤها هو صورة الحب القوي العاصف يلوح لي في غياهب الليل، ولست أذكر لك أكثر من ذلك.)

فتابع الصوت كلامه قائلاً: (لم تكن لي فتاة شقيقة، أما أخي الوحيد فقد وطد العزم على ألاَّ يتزوج، وكنت أقضي الوقت منفردة في الحديقة أتفيأ ظلال الأشجار المتهدلة، وأسبح في بحر الخيال. فأتصور العالم كله يعبد جمالي، وأن النجوم الزهر تسكر من حسن طلعتي، وأن الرياح تدوي إعجاباً بي، والعشب المخضر يضطرب ثملاً حين أخطر فوقه، وكنت أحسب شباب العالم كلهم كالأعشاب التي أطؤها بقدمي، ولكن قلبي لأمر ما كان ينطوي على شيء من الألم، وكان لأخي صديق اسمه (شيكار) أتم دراسته بكلية الطب وأصبح طبيب العائلة، وكنت أرقبه عن كثب من خلال الأستار، أما أخي فقد كان رجلاً شاذاً اعتزل الناس، وأوى إلى ركن مظلم، وإذ كان (شيكار) صديقه الوحيد فقد أبيح لي أن ألقاه، وكنت إذا مضيت إلى الحديقة مساء، تخيلت كل عشبها (شيكارا) آخر. أمنصت أنت إلي؟ فيم تفكر الآن؟) فقلت (أفكر فيما لو كنت (شيكارا) هذا!)

فقال الصوت: (تمهل قليلاً، وأنصت للقصة كاملة، ففي يوم ممطر، أصابتني الحمى، وجاء الطبيب يعودني، وكانت هذه أول مرة ألقاه فيها، وكنت أتكئ على حافة النافذة حتى تصبغ حمرة الشفق المودع وجنتي، وحين جاء الطبيب تأمل في وجهي ملياً فقلدته، وتأملت في نفسي فخيل إلى أن وجهي وردة حمراء، قد ألقيت على وسادة بيضاء، فسأل الطبيب أخي أن يجس النبض، ولم أر طبيباً أجبن منه، حتى أن أصابعه كانت تضطرب ولا تستقر حين أقبل يتلمس معصمي، وفي النهاية سجل حرارة الحمى التي انتابتني، أما أنا فقد قدرت خفقان قلبه، أعندك شك في ذلك؟)

فقلت: (كلا. كلا، إن خفقات الفؤاد لتحكي قصته!!)

فقال الصوت: (بعد أن أبللت من مرضي المنهك، ألفيت كل أحبابي قد رغبوا عني، وأخيراً أصبح الطبيب يعود مريضاً فحسب، وكنت في هذه الأمسيات أرتدي ثوباً أبيض، وقد تدلت عليه ضفائر شعري المحلاة بزهور الياسمين الأبيض، ومن ثم أتخذ مقعدي المعتاد تحت أفنان الأشجار ومرآتي في يدي، وربما تظن أن رؤية الشخص لصورته وجماله في المرآة تجعله ملولاً. ولكن الواقع غير ذلك، لأني لم أكن أرى نفسي بعيني رأسي، لقد كنت شخصين في جسد واحد، فكنت أنظر لنفسي بعين الطبيب، وشعرت بجنون الحب، ولكن برغم هذا الدلال الذي أسرفت فيه قد كانت آهة حبيسة تتردد في صدري وتئن كما تئن رياح الليل، ولم أكن في ذلك الحين وحيدة، بل كنت حين أسير أتطلع بعين كئيبة إلى أصابع قدمي وأعجب ماذا تكون حالة الطبيب لو أنه شاهدني الآن، أما في الظهيرة، حين تتوسط ذكاء كبد السماء، ولا يسمع صوت هنا أو هناك إلا صيحة حدأة لا تلبث أن تتلاشى، فقد كان يمر خلف سور حديقتنا بائع الصقور ينادي (صقور زجاجية للبيع) وحينذاك أبسط على العشب خرقة بيضاء أجلس عليها وأعتمد رأسي بكفي، ويدي الأخرى تعبث بالحشائش، وكنت أتخيل أن هناك من يرقبني في مجلسي هذا ويعجب بي، ويود لو أنه طبع قبلة على أطراف أصابعي الوردية. . ولكن كيف أتم لك قصتي، وفي استطاعتي أن أسامرك حتى الصباح ولكن ذلك يبغضها لك. . . . إذن دعني أظل في قصتي، أما الطبيب فحين مارس صناعته جيداً استأجر غرفة في الدور الأرضي بمنزلنا وجعلها عيادة للمرضى، وكنت أتسلى بسؤالي إياه عن الأدوية والسموم والمقدار الذي يميت من هذا الدواء أو ذاك، ولكن هذه الأحاديث أخذت طوراً آخر، فقد جعلتني أتأمل في فكرة الموت، وكان الحب والموت شاغلي تفكيري وحياتي

مضى على ذلك ردح من الزمن، لاحظت فيه على الطبيب تشتت الذاكرة، وخيل إلي أنه يحتفظ في صدره بسر يخجل أن يحدثني عنه، وفي ذات ليلة جاء مرتدياً كثيراً من الملابس واستعار مركبة أخي، وهنا ثارت الدهشة في نفسي، ومضيت استفسره عن كل شيء، وبعد أن تجاذبت معه الحديث سألته: ألك أن تخبرني يا (دادا) عن وجهة الطبيب هذه الليلة وقد استعار مركبتك؟. . . . فأجابني أخي في صوت أجش (إلى الموت) فصحت به (أخبرني حقيقة أين هو ذاهب). . فقال في شيء من الصراحة (مضى ليتزوج) فتعالت ضحكاتي طويلاً وقلت: أحقاً ما تقول؟

وعرفت حينذاك أن العروس وريثة ثرّية، ستنفح الطبيب مبلغاً كبيراً من المال، ولكن لماذا كان يخدعني طيلة الوقت بإخفائه ذلك عني، وهل توسلت إليه ألا يتزوج حتى لا يحطم قلبي؟ ولكن تلك سجية الرجال طبعوا عليها فتصديقهم ضرب من البلاهة، لقد عرفت في حياتي كلها رجلاً واحداً، ولكنه سرعان ما اختفى وتفقدته فلم أجده.

وبعد أن أتم الطبيب عمله وعاد الينا، وتهيأ للعمل سألته ضاحكة: لقد أحسنت يا دكتور، أعزمت على الزواج هذه الليلة؟ ولم يُفقده سروري ابتسامة محياه فحسب، بل أثاره ذلك فسألته: (ولمَ لم توقد الثريات ولم تعزف الموسيقى؟)

فأجابني في تنهد: (وهل تحسبين في الزواج سعادة أو لذة؟)

فانفجرت ضاحكة وقلت: لا، لا، لن يكون ذلك، وهل هناك عرس لم توقد فيه المصابيح ولم تعزف الموسيقى؟

وظللت أزعج أخي حتى أصدر أمره بإحضار جماعة الموسيقى، وكنت أبتسم طيلة الوقت، وأتحدث عن العروس وحياتها، وما سأفعله حين تأتي المنزل. وسألته: خبرني يا دكتور هل ستظل تجس النبض؟ ثم انفجرت ضاحكة؛ وتم عقد الزواج في ساعة متأخرة من الليل، وقبل ابتدائه كان أخي والطبيب قد جلسا إلى خوان صغير يشربان كأساً من الخمر، ولما هتك القمر أسداف الظلام، سألت الطبيب: (أنسيت عروسك وقد حان الوقت؟) ومضيت إلى صيدليته أتلمس فيها قليلاً من مسحوق وضعته في كوبته حين كان مشغولاً عنها. وإذ ذاك رفعها إلى فمه وتجرّعها دفعة واحدة، ثم صوّب إلى نظرة اخترقت شغاف قلبي وقال: الآن سأذهب إلى حيث لا عودة لي أو مآب.

ولما صمتت الموسيقى للراحة، مضيت إلى غرفتي وارتديت ثياب عرسي الحريرية الموشاة بالذهب، وأخذت جواهري كلها ووضعت شارة العرس الحمراء على مفرقي، ومن ثم هيأت فراشي تحت شجرة في الحديقة.

وكانت ليلة جميلة ناعمة، ورياح الشمال الهادئة تقبّل ما تمر عليه فتحمل الطمأنينة إلى القلوب، وقد فاح في أرجاء الحديقة عطر الياسمين الشذى، وبينما الموسيقى آخذة في الهدوء شيئاً فشيئاً، كان وجه القمر يلتحف حجب السحاب المغبر القاتم، وبدأت أغيب عن الدنيا رويداً رويدا، وأفقد شعوري، وأغلقت عيني مبتسمة، وتذكرت مجيء الناس ومشاهدتهم إياي هنا، ولكن وا أسفاه على الملابس الحريرية المذهبة؛ وحين استيقظت على صوت لغط حولي، ألفيت ثلاثة شبان يدرسون علم العظام على هيكلي، فجاشت في نفسي الآلام وأخذت زهرات الشباب تتفتح عن أكمامها، وإذا بالأستاذ يشير بعصاه إلى عظامي مسمياً إياها بأسمائها العلمية، ولكن أترى أثراً لهذه الابتسامة الأخيرة، وهل أعجبتك القصة؟ فقلت يالها من قصة رائعة!

وفي هذه اللحظة زنت أول صيحة وقلت: (أأنت هنا؟) فلم يجيبني سوى الصدى، وحينذاك كانت أشعة الصباح قد نفذت إلى الحجرة.

حسن محمد محمود