مجلة الرسالة/العدد 55/بمناسبة ذكرى حافظ

مجلة الرسالة/العدد 55/بمناسبة ذكرى حافظ

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1934


بين السياسة والأدب

ينظر الأدب المصري اليوم إلى السياسة نظر الَمغِيظ الحانق لطغيان جلالها على جلاله، وعدوان سلطانها على استقلاله، وعبث أهلها بأقدار أهله عبث الهوى المتحكم بقوانين العدالة!

شهد الأدب في هذه الأيام جنازة سياسية لمرقص حنا باشا. وجنازة أديبة لأحمد زكي باشا، وسمع بذكرى سياسية لسينوت حنا بك، وذكرى أدبية لحافظ إبراهيم بك؛ فأما الجنازة السياسية والذكرى السياسية فكانتا مظهرين من مظاهر الوطنية الرائعة، ومظاهرتين من مظاهرات القومية المتحدة، شملت البلاد، وشغلت الصحف، وأرهفت الشعور، وأرهبت الحكومة، ونفَّست عن العاطفة العامة المكروبة؛ وأما الجنازة الأدبية والذكرى الأدبية فكانتا شاهدين على هذا التواضع المسكين الذي يصاحب العلم، وأثرين لهذا البؤس المهين الذي يلازم الأدب، فشيَّع الأولىبعض الأصدقاء وبعض الخاصة، ونسى الثانية كل الأصدقاء وكل الخاصة، ثم تهامست بين الناس الشكاوي، وتملقت من الأنصار المعاذير، وتجاوبت في الأقطار الشقيقة أصداء الأسف، ونعى كاتب سورية الكبير صاحب (فتى العرب) على مصر عقوق الأدباء وجحود العباقرة؛ وليس في نظرنا مما يبعث الشكوى من السياسة، ويثير السخط على الجمهور، ويستوجب الملامة على مصر، فان السياسة تقوم بواجبها، ولا تحول بين أحد وبين واجبه.

السياسة عقيدة، والعقيدة تحييها الشعائر، وتنميها المظاهر، ويقويها الحشد، وينشرها الإعلان، ويديمها التذكير، وتجددها الدعاية.

والسياسة مبدأ، وهذا المبدأ نفسه يريد أن يكرم في ذكرى الميت كما كان يكرم في وجود الحي، وما حالات السياسي إلا مناسبات يُهتف فيها بفكرته لا بصورته.

والسياسة جهاد، والجهاد يدعو بتكريم البطولة إلى البطولة، وبتعظيم التضحية إلى التضحية.

والسياسة حكومة وخصومة، ومن حق السياسة المكبوتة أن تتلمس الحرية في كل فرصة، وتتنشق الراحة من كل فُرْجَ والسياسة جاه وقوة، ومن طبيعة النفوس أن تشايع الجاه وتبايع القوة ابتغاء لمنفعة أو اتقاء لمضرة

والسياسة بعد ذلك كله للشعب، فرجالها زعماؤه، وضحاياها شهداؤه، ومواقفها مواقفه

أما الأدب فلا نصيب له من بعض ذلك، ليس عقيدة للعامة، ولا فكرة للأمة، ولا ساحة للنفوس المجاهدة، ولا مطمعة للعيون الرغيبة؛ إنما هو فن الخاصة وبغية الرجل المثقف، فإذا لم يحتفل أهله بأهله، وينوه جمهوره بفضله، ذهب أثر رجاله من الدنيا كما تذهب أنغام موسيقى الجيش بعد المعركة، ثم لا يبقى الفخر والذكر إلا للجند والقادة

الأدباء هم الملومون على هذا العقوق، والصحفيون هم المسئولون عن هذا الإهمال، وشهوة المنافسة وعداوة الحرفة، هما اللتان تفسران البواعث على هذا والدوافع إلى ذاك؛ والأديب الذي يَنْفِس على أخيه محنة الوجود، يجد الأولى أن ينفس عليه نعمة الخلود، والأدب في الحياة وفي الممات شر على صاحبه، فإنما لا نزال نشهد كل يوم معارك الأهواء بين الأدباء الأحياء تقطع وشائج الصداقة، وتخفي دلائل النبوغ، وتزيف حقائق الفضل، ثم لا تترك منهم للتاريخ إلا أشلاء منكرة من الأدب والفن والخلق. ولا نزال نسمع من يذكر المنفلوطي بالسوء لأنه اصطنع الأدب الباكي، كأن للكاتب يداً في تركيب مزاجه، وتكوين بيئته، وتأليف ظروفه، وتثقيف ملكاته. كذلك لا نزال نسمع من يشدد النكير على شوقي لأنه عالج في بعض عمره شعر المديح، كأنه نشأ في ظل الدستور وعهد الديمقراطية وعصر الجماعة، وكأنه كان يمدح عباساً لأن المتنبي كان يمدح سيف الدولة!

نعم كان أمس ذكرى حافظ، وكان أول أمس ذكرى سينوت! فهل رأيت بعينك وفاء السياسة وجحود الأدب؟. إن حافظاً رحمه الله ما يزال يقتضي أصدقاءه الخلَّص حفلة التأبين وتأليف الكتاب، فهل من المعقول أن نطلب من شعبه المغلول إحياء الذكرى وإقامة التمثال؟

ولقد كان من جرائر نحسه الذي ظل بعد موته حياً يعيث، أن مواهبه السامية في الشعر والبلاغة قد أخذ ينالها النسيان وتشوهها الغفلة، فما يذكره الناس حين يذكرونه إلا بحلاوة النادرة وبراعة (النكتة) وحسن الحديث، حتى خشينا أن يصبح في الخاصة ما أصبح أبو نواس في العامة.!

فَمَنْ مُبْلغٌ حافظاً الصديق أن المودة بعده أصبحت لا تبقى على المحن، ولا تقوى على الأهواء، ولا تثبت للظروف، ولا تتجاوز كذب الحياة إلى صدق الموت!

ومَنْ مبلغٌ حافظاً الأديب أن الأدب بعده أصبح داء كداء الضرائر، تهيمن عليه المنافسة الكاذبة، وتغض منه المحاسدة اللئيمة، وتتحكم فيه الأغراض الحقيرة؟

ومَنْ مبلغ حافظاً الفنان أن فنه الجميل سيبقى على لؤم الإنسان وظلم الزمان، رائعاً ما راع الجمال، ساطعاً ما سطعت الشمس، خالداً ما دام الخلود؟!.

احمد حسن الزيات