مجلة الرسالة/العدد 552/فجيعة مصر في أميرها

مجلة الرسالة/العدد 552/فجيعة مصر في أميرها

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1944


نعم، فجعت مصر في أميرها، وقلما تفجع مصر في أمير! وعمر باشا طوسون أحق أنداده - إن كان له أنداد - بأن نقول مصر فيه: اليوم فقدت أبني البار وأميري الحق! ذلك لأنه أعزها وأجلها، وعاش فيها وبها ولها، ووقف على خدمتها حياته كلها؛ فلغتها لغته، ودينها دينه، وقومها قومه، وتقاليدها تقاليده، وأمجادها أمجاده. وما يمتري اثنان في أن حفيد محمد علي وصهر إسماعيل كان على جلالة منبته وضخامة ثروته فلاحاً متواضع النفس لين الجانب، يهبط مختاراَ إلى مستوى الحياة العاملة فيلابس سواد الجمهور، ويتمرس بمختلف الأمور، ويأخذ بالنصيب الأوفر من الرأي الموجه والعمل المثمر. ولم تسول له نفسه مرة أن يقف على قمة الشرف الموروث ثم ينظر من علياء إلى رزق الله وخلق الله بشطر عينه ويقول بلهجة المتغطرس المزهو:

أولئك ضياعي، وهؤلاء عبيدي!

رحم الله الأمير عمر! لقد كان في حياته ومماته مثال الأمير الديمقراطي الصالح. وأريد بالصالح معناه المدني الرفيع من صلاح للدنيا وللدين. ولعله بهذا المعنى يوشك أن يكون رجل وحده في الأمراء والأغنياء كافة!

كان أشبه بالعصاميين في تدبير ملكه وتنمية ثرائه. ورث اكثر ضياعه من غامر الأرض فلا زرع ولا مرعى. فلو كان من أولى الجسد البض والعظم الخرع والطبع المدلل لأجاب الخبير الذي قال له: (إن إصلاح أرضيك يحتاج إلى مال قارون وصبر أيوب): دعني لخيول سباقي وكلاب صيدي وخلاك ذم! ولكن الأمير الشاب شمر للأمر تشمير الرجل، واستعد للعمل استعداد المضطر، وأقبل على سبخات الأرض ومناقع الماء يقذف فيها الخصب، ويسبغ عليها النماء، ويغري بها الربيع زهاء نصف قرن، حتى أصبحت الأجادب منازه نعيم، وصار (الخزان) خزائن نعمة!

من ذلك اشتد حبه لأراضيه لأنها ثمار جهده، وقوى عطفه على فلاحيه لأنهم رفاق جهاده. ثم اتسع حبه لضياعه حتى وسع وطنه، وانتشر عطفه على أتباعه حتى شمل أمته. حينئذ أخذ يوزع نشاطه على حركات الإصلاح في الأرض وفي الناس، فنهض بالإنتاج الزراعي نهضة موفقة بما أمد به الجمعية الزراعية من علمه وعمله وماله وجاهه. ثم كان له في كل وجه من وجوه الخير نفحات ظاهرة وباطنة. وامتد أفقه إلى الأمور السياسية والقو فشارك فيها مشاركة المؤمن بحقوق الشعب، المذعن لسلطانه، فأيد دعاة الدستور، وعضد قادة الأمة، وبسط من لسان مصطفى كامل، ومد في يد سعد زغلول. ولو ذهبت تستقصي دوافع العمل ودواعي الخير في حياة الأمير ثم رددتها إلى مصدر واحد، لكان ذلك المصدر حبه العارم لمصر والسودان وما يمت إليهما بسبب، من جوار أو نسب. فمن أجلهما عطف على طرابلس وفلسطين والحبشة، وفي سبيلهما عقد الأواصر ومتن الأسباب بين الأهل والجيرة

ثم اتجه نشاطه إلى العلم والتأليف فلم يجد أعلق بخاطره ولا ألصق بهواه من البحث في تاريخ مصر والسودان، وتقويم بلداتهما، ومناقب سكانهما، فكتب في هذه الموضوعات واحداً وعشرين كتاباً أكثرها بالعربية وبعضها بالفرنسية، أشهرها:

الجيش المصري البري والبحري في عهد محمد علي، مصر والسودان، كلمات في سبيل مصر، مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن، رسالة المصانع والمدارس الحربية في عهد محمد علي، الأطلس التاريخي الجغرافي لمصر السفلى منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم، ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية، يوم 11 يوليو سنة 1882، وادي النطرون ورهبانه وأديرته، المسألة السودانية، فتح دارفور سنة 1916 تاريخ مديرية خط الاستواء المصرية من فتحها إلى ضياعها، تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية، الجيش المصري في حرب القرم. وهذا الثبت المختصر كاف وحده للدلالة على مهوى فؤاد الأمير ومتجه مساعيه.

كان الأمير عمر، جاد الله بالرحمة تراه، نازه النفس لم تحم حول مروءته ولا سمعته ريب الحسب الموروث ولا دنايا الغنى الطافح. وكان صاحب وقار وجد، فلم يشغل ذرعه بسفساف الأمور ولا حقير الملاهي. وكان في دقته كدورة الشمس تضبط على حركاته ساعتك؛ فهو ينام ويستيقظ ويأكل ويعمل ويقيل ويقرأ ويستريح ويستريض في مواعيد لا تتقدم لحظة ولا تتأخر. وتلك خصيصة العزم الثابت، والنفس المطمئنة، والطبع المستقيم. ولقد كان وهو في هذه السن العالية يدبر أعماله الزراعية والمالية بنفسه، فيفض البريد، ويعلق على كل رسالة، ويطلع على كل أمر، ويقضي في كل مسألة. وكان الظن بمثل هذه الحياة العاملة الحافلة الموزونة أن تنبو على أعراض الترف وأمراض البطالة؛ ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر

هذه خطوط وظلال لصورة الأمير الراحل رسمناها على التقريب ليكون فيها للشباب قدرة وللشيب عبرة. وإنا لنرسمها ولذعات الحسرة ترمض الفؤاد على حال الوادعين في ظلال أمنه يوم يفتقدونه فلا يجدونه. على أن الناس في شبليه صاحبي المجد النبيلين الجليلين (سعيد) و (حسن) خير العزاء عن فقده، فإن حياتهما امتداد لحياته، وعملهما استمرار لعمله.

أحمد حسن الزيات