مجلة الرسالة/العدد 553/ستاندال والحب

مجلة الرسالة/العدد 553/ستاندال والحب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 02 - 1944



للأستاذ صلاح الدين المنجد

ليس كموروا من يتحدث عن الكتاب والشعراء. وليس كمثله في سلاسة أسلوبه وتدفق ألفاظه وحلاوة معانيه. إنه كالساقية اللاهية تسقى وتروى ثم تمضي، وقد خلفت وراءها الخصب والحياة. أو كالزهر الفواح يروقك مرآه، ويسكرك شذاه، سذاجة وصفاء، ولكنها سذاجة ملؤها المتوع والجمال

لقد تحدث عن (شلي) أبرع الحديث، وقص مغامرات (بيرون) أحسن القصص، وعرض حياة (دزرائيلي) أجمل معرض، وسرد أعمال (ليوتي) كأعظم ما كتب كاتب، وصور (شاتبريان) بما لم يصوره قبله إنسان. وهاهو ذا الآن يتحدث عن (حمس صور من الحب) ويتكلم على ستاندال.

وستاندال إذا تحدث عن الحب فأعجب به من متحدث، وأكرم به من خبير! لقد بلا الحب وطعم ذواقه، ثم وصفه وعرفه وتساءل كيف ينبغي أن يكون الرجل مع النساء؟ أيكون معهن كما كان (دون جوان). أم مثل (فرتر) الهيمان؟ أيكون صياداً محارباً أم عاشقاً مدنفاً؟ لقد كان ستاندال يعجب بدون جوان، لأنه رمز الشجاعة والإقدام؛ وفي الوقت نفسه رمز الهدوء والهزؤ بالناس

والحق أن الناس جميعاً، كما يقول موروا، يعجبون بمن كان كدون جوان؛ ولكنهم يعرضون به ويثلبونه، في حين أن العشاق المتيمين أشباه فرتر المسكين، يشفهم السقم ويضنيهم العذاب، ويشعرون أنهم سعداء. سعادتهم في الخيال، يبنون القصور الشامخات ويزر كشونها بأحلى التهاويل. فهي أبداً رفافة بالنعيم، يعيشون ويحلمون، لأن الحب على نهج فرتر يعد لقبول كل فن رفيع وإحساس كل شعور لطيف

أن دون جوان يرى النساء عدوات لدوات. والحب في عينيه حرب ونضال. هو لا يتحدث عن شئ سوى المغامرات والانتصارات؛ أما أتباع فرتر فأولئك هم الهانئون وبأحلامهم قانعون وبحسراتهم وزفراتهم راضون

ودون جوان إلى ذلك يختصر الحب. إنه أمر هين ينتهي دائماً بالفوز. ولذلك يفكر كالقائد العظيم في الحيل التي يبلغ بها مشتهاه. يعمل دائماً على نجاح أعماله ونفاذ حيله الحب أمر هين، وكله ينطوي في (التبلور) صاحب نظرية (التبلور) هو ستاندال الذي وقف حياته على الحب. وكان الحب، كما قال، أعظم الأعمال طراً لديه، بل كان شغله الشاغل الوحيد

لقد خص به كتاباً من الكتب العظام. . . وروايات من الروايات العجاب. ولئن بحثت عن فلن تجد فيها غير الحب

ترى كيف يولد الحب، وكيف ينمو!

أجاب ستاندال، في الباب الذي عقده عن في كتابه: هذا السؤال وهاك ما يحدث في النفس

1 - الإعجاب، يلمح المرء الفتاة فيعجب بها

2 - ثم يحدث نفسه، ما أحلاها لذة أن يقبلني أو أقبلها إنها لطيفة، جميلة

3 - ثم يأمل أن نراها وأن تراه. ويرقب ذلك. . .

4 - وعندئذ يولد الحب

5 - ويبدأ (التبلور) الأول، فيشعر المحب بلذة ما بعدها لذة، وهو يخلع على فتاته الجمال والكمال، طوال يومه، في الطريق، وفي الكتب وفي السرير، وعند الطعام. . . وما يزال يزينها ويزوقها حتى تغدو آية الجمال في الأرض، ويحدث بها كما يحدث بغصن شجرة أجرد، إذا رموه في أحد مناجم الملح في (سالزبورغ). إنه يبقى شهرين أو ثلاثة شهور فإذا أخرجوه ألفوه غصناً من بلور، يتلألأ ويرف، وقد رصع ببلورات لماعة من الملح كأنها الدر تخطف الأبصار وتفتن القلوب. فإذا رآها إنسان غير من ألقاها، لم يدر قط أن هذه الدرر كانت ذات يوم غصناً كالحاً أجرد. . .

وما يسميه ستاندال (التبلور) هو تزيين الحبيب حبيبته وخلع المحاسن عليها ليل نهار. فإذا تم هذا التبلور كانت المحبوبة في عيني من يحبها أجمل مخلوقة في الدنيا. إنها الجمال نفسه، ليست من البشر، ولا كواحدة من النساء، إنها ملك كريم

ثم لا يسمع بشيء لذ إلا تمنى أن يلذه معها، ولا يخطر بباله سعادة إلا هفا قلبه، من أجلها إليها

ومن الملاحظة أن هذا التبلور ضرورة لابد منها. فالمحب إذا لم تتجدد محاسن محبوبته في نفسه، وإذا لم يتخيلها كل يوم ذات حسن لم تكن بلغته أمس، فإنه لا شك يمل، لأنه في الحال النفسية تلك يعزف عن كل رتيب ثابت، ويريد كل طريف جديد. وفي أعمال (التبلور) صور فيها كل الطرافة، وكل الجدة

على أن هذا المحب ما يلبث أن يقلق ويضطرب فلم يضطرب؟

6 - إنه يشك في حبه، وبلوغ أمله فبعد أن تضحك له المنى، يحس القلق يرتع في نفسه. يود أن تكون لذائذ الدنيا كلها طوع يديه، لينعم بها، هو وفتاته. ولكن اللذائذ لا توانيه، والعادة لا تأتيه

7 - وعندئذ يبدأ التبلور الثاني إن فكرة حرمانه الحبيبة تدفعه إلى تمجيدها وتزيينها. ويقول لنفسه (إنها جميلة كل الجمال. ليس في الدنيا أجمل منها. إنها لتنظر إلى نظرات باسمات. فهي إذن تحبني) ولكنه يتساءل: هل من سبيل كي أنال آية حبها؟ أتحبني أم تخدعني؟

فإذا كان الوصل بعد ذلك، فالتبلور يقف، وربما ذاب. وإذا كان الهجر، فهو يعود ويزداد

ويذهب ستاندال إلى أن التبلور يحدث سريعاً عند المرأة. لأنها على زعمه، أرهف حساً، وأرق قلباً , ثم إن لديها الوقت الوسيع لذلك. فهي تطرز وتفكر فيمن تحب. وهي تخيط وتتمثل من تهوى. عمل يدوي دائم، يرافقه حلم جميل باسم. وبهذا الحلم وذاك العمل تخلع الفتاة على من تحب أروع الصفات التي تود أن تكون في الرجل

ويعتقد ستاندال، خلافاً لبرناردشو أن الرجل في الحب يهاجم، وأن المرأة تدافع. وأنه يطلب، في حين أنها ترفض. وأنه يكون نشيطاً متوقداً، وتكون هي مذعورة مرعوبة. . .

والمرأة تتساءل عند برناردشو، كيف أغرى محبي. والرجل يقول، كيف أنجو من أسرها، وكيف أصبح طليقاً. أما ستاندال فيعتقد أن الرجل يتساءل: (هل من سبيل كي أنال رضاها) وأن المرأة تفكر في حبه وتقول: ألا يلهو بعد بحبه؟ أثابت حبه أم متقلب؟ لأن النساء يخفن ولذلك لا يظهرن حبهن بسرعة. بل ينتظرن أن يبلون محبهن ويثقن من حبه. . .

تلك نظرية التبلور عند ستاندال الفرنسي، وبعض آرائه في الحب. وكتابه في هذا طريف لطيف ظريف. وفي أدبنا العربي نظرات كثيرة تشبه نظرات ستاندال وشو، نجدها في كتاب الزهرة، (للأصبهاني) و (طوق الحمامة) لابن حزم، لعلنا أن نعود إليها، ونقايس بينها بعد حين

(دمشق)

صلاح الدين المنجد