مجلة الرسالة/العدد 556/لقد هان هذا الخطب!

مجلة الرسالة/العدد 556/لقد هان هذا الخطب!

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 02 - 1944



للكاتب المجهول

لقد هان هذا الخطب، وما كنت أنتظر أن يهون، ولكن الدنيا بصروفها الغرائب تهون الخطوب، وكان من شيمتها أن تجسم الخطوب!

هان خطب القطيعة، هان ثم هان، واستشعرت روح الخلاص، وكنت أبغض الخلاص، فيا عجباً لزمن يجعل بعدي عنكم شهوة يطمح إليها فؤادي!

ما بكيت على نفسي حين ودعتكم، وإنما بكيت عليكم، بكيت على دولة الحسن التي ذهبت إلى غير معاد، وبكيت على اللطف الذي حرمتموه كما تحرم الزهرة من العطر بعد الذبول

ما تمثلت أيامكم إلا تعجبت مما تصنع الدنيا بأهلها، فما كانت لكم نظائر في الحسن وللطف، ولا كانت لكم أشباه في سماحة النفس وصفاء الروح

وبكيت أيضاً على نفسي، فهذا ملك ضاع من يدي، ملك أضاعه الدهر الغادر الذي لا يبقى على شيء، والذي يستمد سطوته من قدرته على إدالة دولة اللطف والجمال

حرمت بقطيعتكم آخر أمل يرجوه من يقف على المقابر ليؤدي التحية إلى أموات يحسبهم أحياء يتلقون تسليمات الأحياء

المقابر تسمع ولا تجيب، وأنتم تجيبون ولا تسمعون بدليل أنكم تخطئون في الجواب

لو أنني كنت البادي بهذا الحب لرأيت لكم عذراً في الصدوف عني، فما يتصدق الأغنياء على الشعراء في كل وقت، وإنما كنتم البادئين وهذا فضل لن أنساه إلى آخر الزمان، فكيف تهدمون ما بنيتم، وكان غاية في متانة البناء؟

هل تعود ليالينا؟ تعود؟

لن تعود ليالي معكم يا غادرين، لأنكم لم تعودوا صالحين لإدراك ما يشتجر في قلبي، ولأن هواكم قد مات، وما كنت أحسب أنه مما يجوز عليه الموت، وقد كذبت على نفسي حين توهمت أن الهوى لا يموت

وأنا مع هذا فرح جذلان، لأني واثق بأنكم لا تعانون من آصار القطيعة بعض الذي أعاني، ومن هواي أن تكونوا في عافية من ثورة الوجدان، لتعيشوا في سلام

هل كان حبنا مزاحاً جد به الزمن فانهزم؟ أنا كنت أجد، وما خطر في بالي أنكم كنتم هازلين، وجد الهوى جد، وهزله جده لو كنتم تعقلون

هل كنت حين أناجيكم أناجي وثناً بلا روح؟

لو ناجيت الصخر لأنطقته بألطف المعاني، فكيف عجزت عن رياضتكم على الوفاء؟

ما أشد حزني على ما ضيعت من ليالي وأيامي!

لم نكن نعرف ما النهار وما الليل

أيام لا أدري وإن سألتِ ... ما الفرقُ بين جُمعة وسبْت

ولم نكن نعرف أن للدنيا غدرات ينبو فيها جنب عن جنب وقلب عن قلب، فترحلون عن مصر الجديدة إلى حلوان، وهي بهجركم أبعد من أسوان

لو كنت أعرف أن فيكم خيراً لجعلت داركم داري ولو سكنتم في مقبرة تشرف على عالم الفناء، ولكن القدر أراد ما أراد فانتزع حبكم من فؤادي، فأنا اليوم بلا حب وبلا فؤاد

أن إقامة صرح فوق أثباج البحر أبقى وأثبت من الحب الذي أقمته فوق روحكم، والروح من الروح وهو النسيم وليس للنسيم ثبات

انقضى عهد الحب، انقضى بالرغم مني، فما فارقتكم إلا بعد أن صح عندي أن هواكم لم يكن إلا أسطورة لفقها الخيال

أينتهي غرامنا بمثل هذه النهاية فلا أسأل عنكم ولا تسألوا عني؟

وهل كان البهاء زهير ملهماً حين عبر عما أريد فقال:

ملكتموني رخيصاً ... فانحطّ قدري لديكم

فأغلق الله باباً ... دخلت منه إليكم

حتى ولا كيف أنتم ... ولا السلام عليكم

لن نتصافح إذا التقينا مصادفة في شارع فؤاد، فالمصافحة من الصفح، ولن أصفح عنكم أبداً، ولو ضمنتم أن تعود معكم أيامي السوالف وليالي الخوالي

أنا فرح بما صرتم إليه، فقد أنجاكم الله مما ابتلاني

ولكني حزين مما صرتم إليه، فلن تعانوا اشتجار العواطف بعد فراقي، واشتجار العواطف هو أثمن ما تتغذى به القلوب وإني لأشكر لكم صنيعكم، فقد رحمتموني من هاوية كنت سأتردى فيها إن طال حبي لكم، وكان ثورة وجدانية تزلزل أقطار السماء

انتهينا من العتاب، أليس الأمر كذلك؟

وانتهينا من ليالي مصر الجديدة وليالي حلوان، وانتهينا من الظهريات الجميلة بحديقة الشاي في حدائق الحيوان. . . هل تذكرون يا غادرين؟

وانتهينا من جمع كسارات الكأس المصدوع، في تلك الليلة، وهي ليلة لن تعود، ويا ليتها تعود، فلو صرتم رمة بالية لرجوت أن أستروح منكم روح العطر النفيس

لا تسألوا عني بعد اليوم، فقد تبت توبة نهائية عن الغرام بالتماثيل، وهي أبدان بلا أرواح

أنا أحسنت الظن بمن لم يكونوا لحسن الظن بأهل، فلتعاقبني المقادير بما تشاء، وعدل من الله كل ما صنع، كما قال أستاذنا العباس بن الأحنف، عليه رحمة الحب!

كانت غايتكم أن تستأثروا بقلبي، وقد حاولت النجاة بقلبي فلم أفلح، ثم كانت العاقبة أن نصير إلى ما صرنا إليه، وما أفظع ما صرنا إليه!

الغدر مسخكم فأحالكم صورة ميتة برقشتها ريشة رسام جهول

هل تذكرون تأريخ العيون الكحيلة، وكانت أجمل ما رأت العيون؟

استفتوا المرآة، ثم حاسبوا ضمائركم، إن كانت لكم ضمائر، لتعرفوا أن سواد عيونكم لم يكن إلا منحة خلعها عليكم سواد قلبي، وهو قلب يمنح الرهبة والسحر لسواد الليالي وسواد الخيلان.

وقد استرددت تلك المنحة بعد أن أيقنت أني خلعتها على من يكفر بالجميل، ولست أغنى من الله وهو مع غناه عن الثناء يؤدب من يتعم عليهم فيطالبهم بالثناء

تخطروا إن شئتم في شارع فؤاد، وانظروا هل تلتفت إليكم عين أو يخفق لكم قلب؟

أنا أبدعتكم إبداعاً لا نظير له ولا مثيل، وغاب عنكم جميلي فجحدتم جميلي، وغضبة الله والحب على من يجحد الجميل.

لن أبكي عليكم، ولكني سأبكي على أخلاقي، وهي جديرة بالبكاء.

كنت أعتقد أني من رجال الأخلاق، ثم ظهر أن في صدري غريزة وحشية تشتهي الاقتتال والافتراس، وإلا فما الذي يمنع من أن أنتصر على كبريائي فأسعى إلى داركم لأسأل عنكم ولأخلع عليكم بياض الوجوه وسواد العيون؟

كنت أبدع البشاشة في أرواح الملاح ثم صرت المنتقم الفاتك بأرواح الملاح، فما أفظع جرمي، وما أسوأ صنيعي!

سأقتحم داركم بعد أيام أو أسابيع، فما أدري متى أنتصر على كبريائي

انتظروني، انتظروني، لتعرفوا أن خطب الفراق لم يهن ولن يهون

سأصافحكم بيدي، ألم أحدثكم أن المصافحة مشتقة من الصفح؟

غفرت ذنوبكم، غفرت، ثم غفرت، وأنا أول من يغفر ذنوب الجمال

عربد الحسن بكم فأسأتموني، والحسن عربيد، ومن واجبي أن أغفر ذنوب العرابيد

كان لي منكم تاريخ هو أجمل التواريخ، وكان رزقاً ساقه الله إلي، والله حين يتفضل يمنح بلا حساب

أنا لا أعرف متى نتصافح، لأن هذا لن يكون إلا بعد أن أتنازل عن كبريائي، وهذا أمل بعيد المنال

سلام عليكم يا أحباباً وفوا ثم خانوا

أنا أعبد الجمال، على شرط أن يعرف الجمال حقوق الوفاء

لن أزور داركم أبداً، ولن أراكم ولن تروني، فقد حل عليكم غضبي وغضب العاشق الصادق نقمة تنزل من السماء

شرقوا وغربوا في طلب المستحيل، فصفحي عنكم هو المستحيل

سأبدع بدائع جديدة، وسأخلق في دنيا الحب ما لا تعلمون، فتناسوا عهدي، لتعيشوا في أمان، من جزع الوجدان

لن تستطيعوا الفرار من انتقامي، ولن تتخطروا بعد اليوم في شارع فؤاد، ولن تكونوا نهبة لأعين الحاسدين، وألسن العاذلين، ومن حق من يخلق أن يميت

سلام على الهوى وسلام عليه، وألف سلام

أنتم تمردتم على سجن الحب، فتمتعوا بالحرية التي اشتهيتموها جاهلين بالعواقب، فما يتمرد على سجن الحب غير الصائرين إلى الفناء. . .

كانت كملتكم في ساعة التمرد: وهذا صحيح، فقد كان من حق الهوى أن أتصرف تصرف المالك بالمملوك

لا تظنوا أنكم خرجتم من يدي، ولا يخطر لكم في بال أني سأترك واجبي في دفن حسنكم الذاهب إلى غيابات الفناء

هان خطبكم، ثم هان، وما كنت أحسب أنه سيهون، ألم أقل إن الدنيا تصنع الغرائب؟

أنا واثق بأنكم سترجعون إلى قبل أن أرجع إليكم الشعر عندي والجمال عندكم، والشعر أفتن من الجمال

أما بعد فمن أنتم؟

أنا أعرفكم بأكثر مما تعرفون أنفسكم، فقد كنتم الغاية لما تشتهي الأرواح والقلوب، وما اشتهت عيناي أفضل مما اشتهيت منكم، يا نهاية النهايات في سحر العيون

أنا بنيتكم بيدي، ولن أهدمكم بيدي، والباني لا يكون من الهدامين

سلام عليكم، فما ألقاكم إلا إن تنازلت عن كبريائي

احرسيني يا ليلى، احرسيني، قبل أن أقول: (عليك مني السلام)

(الكاتب المجهول)