مجلة الرسالة/العدد 557/صلات علمية

مجلة الرسالة/العدد 557/صلات علمية

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1944



بين مصر والشام

في النصف الأول من القرن الثامن الهجري

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وما مناظرات ابن تيمية في مصر والشام إلا صورة مما كان يحدث في هذا العصر بين العلماء. وكانت الشغل الشاغل لهم، وكان أغلب القائمين بها من علماء السنة الذي وقفوا للمبتدعين بالمرصاد، كما كان بيت ابن تيمية هو البيت الديني الذي يحمل لواء أهل السنة ويتولى الرد على أهل البدعة. ويعاونه في ذلك أخواه شرف الدين وزين الدين. وقد كان لهما مناظرة في مجلس سلار نائب السلطان الناصر. فظهر شرف الدين بالحجة على مناظرهما ابن مخلوف المالكي. وكان الكلام هذه المرة في مسألة العرش وكلام الله وفي مسألة النزول.

ولقد حدثت بسبب هذه المناظرات فتن كثيرة في مصر والشام، واهتاجت لها الخواطر الساكنة. وانقسم الناس شيعاً كل واحدة تحارب غيرها، وسجن كثير من العلماء لمجرد التقول عليهم أو إطلاق الألسنة فيهم. وخاصة في دمشق التي وقع فيها خبط كثير وتشويش. فنادى نائب السلطنة المصرية في الشام ألا يتكلم أحد في العقائد. ومن عاد حل ماله ودمه وصودرت داره وحانوته؛ فهدأت الأحوال وسكنت الأمور

ولم يكن هذا الهدوء إلا لأجل قصير؛ فقد عادت خصومة العلماء في صورة اتهامات توجه إلى الأبرياء وغير الأبرياء. وهي اتهامات كان أقل ما عليها من المجازاة أن يعزر فيها المتهم تعزيراً عنيفاً، ويطاف به في البلدة على حال منكرة؛ كما حدث سنة 712 لابن زهرة المغربي الذي اتهمه بعض العلماء والصالحين باستهانته بالمصحف وخوضه في أهل العلم، فطيف به في دمشق وعذب وحبس

والحق أن (تنكز) نائب السلطنة المصرية في الشام كان دائم القلق مما يحدث بين العلماء وأهل المذاهب والعقائد، وكان لا ينظر بعين الرضى إلى أمثال هذه الحركات التي تج بأس المسلمين واهيا. كان لا يريد إلا الإصلاح ما استطاع بين المختلفين فحينما حدثت الفتنة سنة 716 بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد أصلح بينهم في مجلس حافل بدار نيابة السلطنة وخرج المتنازعون على خير حال من التفاهم

وكانت تقوم إلى جانب العلماء والمدرسين وظيفة الخطيب وكانت الشهرة في المساجد الصغيرة كفيلة بإيصال الخطباء إلى المساجد الكبيرة، كالجامع الأموي والأزهر ومساجد المدن الكبرى في الشام ومصر. وكان لكل بلدة خطيب مشهور بجانب عدد آخر من الخطباء المغمورين. فاشتهر بالخطابة الجامع الأموي بدمشق الشيخ زين الدين الفارقي وتولاها بعد وفاته شرف الدين الفزاري. واشتهر بالخطابة في بعلبك ضياء الدين ابن عقيل وأبوه جمال الدين، وقد توليا الخطابة في هذه البلد ستين عاما واشتهر بالخطابة في مصر بهاء الدين السكر وشمس الدين الجزري خطيب جامع ابن طولون ونور الدين القسطلاني خطيب جامع عمرو بن العاص

ولم يكن للخطيب أن يقضي بين الناس أو يفصل الخصومات فذلك شأن القاضي الذي يعينه قاضي القضاة ولكن حدث أن خطباء انتدبوا لمهمة القضاء، كما حدث بعض القضاة انتدبوا للخطابة. فنرى في حوادث سنة 706 في تاريخ إبن كثير أن سليمان بن هلال بن شبل الخطيب انتدب للقضاء بدلاً من القاضي جلال الدين القزويني الذي كلف بالخطابة عوضاً من القضاء

وكان بعض الخطباء يتولون التدريس، كما أن بعد القضاة يجمعون بين الحكم والتدريس كالقاضي على بن صفي الدين الحنفي الذي تولى قضاء الحنفية في دمشق مع ما بيده من التدريس

كان منتصف القرن الثامن الهجري مملوءاً بالأحداث الجسام كما سلف القول؛ فالتتار على أسوار دمشق، وقبائل العرب في مصر العليا شقت عصا الطاعة على الملك الناصر في مدة سلطنتة الثانية، والصليبيون قدموا باتفاق أمير قبرص لغزة دمياط. وألمماليك منقسمون على أنفسهم؛ ففريق مع السلطان الناصر المتخلي عن عرشه، وفريق آخر مع الأمير بيبرس، وفي وسط هذه التيارات القوية نجد العلماء يحرضون على مقابلة التتار، ويدعون لمحاربة الصليبيين، ويقيمون المناظرات الدينية عوداً إلى عهود الجدل والكلام؛ ولكنهم مع ذلك كله لا يخوضون في حديث السياسة الداخلية، ولا يتكلمون فيمن تولى وفيمن عزل؛ فذلك ليس من شأنهم، فإذا نزل أحدهم ميدان السياسة عرض نفسه للعزل كما حدث لسليمان بن حمزة قاضي الحنابلة بدمشق الذي عزل بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن عرشه مكرهاً لا مخيراً، وكما حدث للشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي شيخ الشيوخ بمصر الذي كان على صلة بأمراء المماليك، وكان له هوى سياسي معين، فعزل عن منصبه الرفيع وعين بدلاً منه ابن جماعة المشهور

ولم تكن المرأة المصرية أو الشامية جملة بمعزل عن مجالس العلماء في ذلك العصر؛ بل كان بعض النساء يترددن على هذه المجالس ويستمعن إلى الدروس ويناقشن في المسائل. فالسيدة فاطنة بنت عباس البغدادية كانت تحضر مجلس ابن تيمية، وكان هو يستعد لها بسبب كثرة مسائلها وحسن أسئلتها وسرعة فهمها. ويذكر ابن كثير المؤرخ أنه سمع ابن تيمية - وكان معاصراً له - يثنى عليها ويصفها بالفضيلة والعلم. والشيخة الصالحة ست الوزراء بنت عمر بن أسعد كانت تروى صحيح البخاري وغيره من كتب الحديث. وكانت تحدث الرجال بحديث الرسول عليه السلام

ولا شك أن ابن تيمية كان أشهر العلماء بين مصر والشام في ذلك العصر، فقد شغل الدنيا كلها بمسائله ومناظراته ومجالسه وقد جمع إلى ذكاء العقل وسرعة الفهم والشجاعة في الحق وعدم الخشية في سبيل الله. وله مع قازان ملك التتار مواقف مشهورة ذكرها الشيخ محمد البالسي زميله في وفد العلماء إلى قازان. فقد قام ابن تيمية يهدر كالسيل لم يخش أحداً ولم يجامل سلطاناً ولم يتملق حاكماً. ولكن الله أجرى الصراحة على لسانه؛ وأودع الشجاعة في قلبه، فإذا به يخاطب ملك التتار قائلاً: أنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت

ولد هذا الإمام بحرَّان ونشأ وتعلم بدمشق، ودرس بغزة وأوذي أولاً واكرم أخيراً في مصر، وتوفى بقلعة دمشق بالقاعة التي كان محبوساً فيها أيام محنته الأولى بعد أن أكد صلات العلم والدين بين القطرين الشقيقين في الربع الأول من القرن الثامن الهجري.

محمد عبد الغني حسن