مجلة الرسالة/العدد 557/في الرملة البيضاء

مجلة الرسالة/العدد 557/في الرملة البيضاء

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1944



للدكتور عبد الوهاب عزام

دعيت حينما حللت بيت المقدس إلى زيارة إخوان كرام في الرملة ويافا، وقد صادفت الدعوة شوقا في النفس وحنيناً، ولبثت أرتقب الفرصة حتى حسبتها قد أفلتت. وبينما أنا بالمسجد الأقصى يوم الجمعة الذي حدثت عنه في مقالي عن المسجد المبارك، شكوت إلى الصديق الكريم الذي ذكرته قبلا وقلت إن وجهه لا يعيب عن مشهد من مشاهد الخير، ما فاتني من السرور بما أملت من زيارة إخوان كرام في مواطن كريمة، وقالت ضاق الوقت فالرحيل بعد غد قال: وما عليك إذا زرت المدينتين غداً وركبت الطائرة بعد غد من اللد دون الرجوع إلى بيت المقدس. إن في الوقت سعة لإدراك بغيتك، وتأدية واجبك، ونذهب معاً إن شاء الله

فارقنا بيت المقدس ظهر السبت الخامس والعشرين من رمضان نؤم الرملة، وسارت السيارة في أودية فلسطين وشعابها، وأفضنا نحن في شعاب من الحديث وأودية نفصلها على ما نرى من مشاهد جميلة، وما نمر عليه من زروع وأشجار وجبال وقرى، وما يوحي به أولئك من ذكر وعبر بين الماضي والحاضر حتى أوفينا على المدينة الكريمة.

نزلنا في دار البنك، بنك الأمة العربية. ولهذا البنك دور في أمهات مدن فلسطين، فسرني ما رأيت من صور تاريخنا على الجدران، وما توسمت من صور جهادنا الحاضر في أعمال البنك وحسابه. وكم فرج هذا المصرف من كرب، وكم محا من يأس، وكم عصم من مال وأرض، وكم جمع الكلمات المتفرقة، وألف الأهواء الشتيتة. وإن رجاءنا في مستقبله أعظم من اغتباطنا بماضيه، وابتهاجنا بحاضره. وجزى الله خيراً كل من ساهم في الذود عن هذه الأمة بعقل مدبر، أو يد عاملة، أو لسان ناصح، أو مال نافع.

ثم سار بنا الشوق والسرور إلى دار الأخ الصديق المجاهد محمد يعقوب الغصين، فنعمنا حيناً بالجلوس مع الأخ الكريم، وجماعة من وجوه الرملة أتوا مسلمين. نضر الله هذه الوجوه ورعاها. وكانت مطامعنا قد اتسعت لأن نزور المدينتين، ونجيب الدعوتين، ونقضي الغرضين في يوم واحد. فلما لقينا الوجوه الكريمة، وأفضنا في أفانين الحديث، عرفنا أن ما بقى من إقامتنا في فلسطين لا يتسع لأداء فرض واحد من فروض كث تلزمنا بنزولنا الرملة، فأقصرنا عن زيارة يافا أسفين آملين أن تيسر لنا فرصة نزور فيها يافا والرملة أيضاً

خرجت في العشى في صحبة الصجيق الكريم أحمد حلمي باشا لنجول في الرملة وما حولها على قدر ما تأذن لنا بقية نهار من رمضان فذهبنا إلى أطلال مسجد كبير تدل رسومه وبقايا جدره وأسطواناته، ومكان المحراب من هذه البقايا، أنه كان من أعظم الجوامع الإسلامية وأفسحها كجامع بني أمية في دمشق، وجامع المعتصم في سامرا، وجامع ابن طولون في مصر أو أوسع. ولا يبنى مثل هذا الجامع إلا في مدينة كبيرة عامرة. وكذلك كانت الرملة البيضاء. فقد مصرها سليمان بن عبد الملك وهو وال على فلسطين من قبل أخيه الوليد، ثم عني بعمارتها بعد أن آلت إليه الخلافة، ودعا الناس إلى البناء فيها فاتسعت وعظمت. وقد روى ياقوت أن سليمان أراد أن يخلد ذكره بمدينة الرملة ومسجدها كما خلد ذكر أبيه عبد الملك بقبة الصخرة، وذكر أخيه الوليد بجامع دمشق. وحسب جامع الرملة أن يكون صنو جامع دمشق، وبيت المقدس. ما هذه الأساطين والجدر إلا بقبة العراك المديد بين الحادثات المدمرة وهذا المسجد العظيم، قامت كما يثبت المجاهدون الصابرون للخطوب الجسيمة، والأرزاء العظيمة

وقد تداولت الرملة أحداث الدهر أيام الحروب الصليبية حتى أنقذها من الفرنج السلطان صلاح الدين عام ثلاث وثمانين وخمسمائة؛ ثم اضطر إلى أن يخربها بعد أربع سنين حذرا أن يستولي عليه الفرنج مرة أخرى. وناهيك بالمحن التي تضطر صلاح الدين إلى إخراب مثل هذه المدينة!

وفي شمالي ساحة الجامع منارة عظيمة عالية مربعة مبنية بالحجارة الضخمة المهندسة بناها الملك الناصر محمد بن قلاون وكأنه أراد أن يجعلها مئذنة ومنارة أو مرقباً لمراقبة السفن القادمة إلى سواحل فلسطين. على المنارة كتابة واضحة فيها اسم الملك الناصر وألقابة، وتاريخ بنائها سنة ثماني عشرة وسبعمائة. والمنارة قائمة وحدها مفردة، كأنها رمز للتوحيد ثابت على مر الزمان، أو علم للأيمان القوي الذي لا يقهره تقلب الحدثان. كم شهدت هذه المنارة من الغير، ورأت من أحداث القدر، وتاريخ البشر! وليت شعري ماذا تروى من أخبار السلف، وماذا تنقم من أفعال الخلف؟ فاقت هذه الآثار قائلاً: رحم الله بني أمية، وهذا أيضاً من آثارهم، منشداً في هذه الآثار المخذولة، وذاك الحمي المستباح قول كثير:

حموا منزل الأملاك من مَرْج راهط ... ورملة لُدَّ أَن تباح سهولها

ذاكرا الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي ما تزال آثاره في مصر والشام شاهدة بمآثره، ناطقة بمحامده

ثم جلنا ساعة في الأودية القريبة من المدينة والمزارع والمشاجر الناضرة الفيحاء، ومررنا بوادي حنين

قال الباشا: هنا بستان للأخ الكريم الأستاذ محمد علي الطاهر يقضى علينا الوفاء أن نراه لنعرف كيف تعهدّاه والعناية به. والبستان في ربوة يؤدي إليه طريق صاعد ضيق. قال الباشا: إن سائقنا يشفق من هذا الطريق، فكلما مررت على مقربة منه أسرع آملاً ألا أذكر البستان إلا بعد أن يبعد عنه فيستريح من مشقة الإصعاد إليه وتخلل المسلك الضيق بالسيارة. وقد أدركت حيلته فهددته أن أخبر الأستاذ الطاهر ليهجوه بمقال أو مقالين. سرنا بين بساتين يانعة كثيفة الشجر، كثيرة الثمر، حتى انتهينا إلى بستان أخينا فدخلناه وتخللناه، فوجدناه حديث عهد برى، وسرنا أن وجدناه مع ما أدركه من حرفة الأدب التي جعلته أقل نضارة من جاره، مخضرا تنوء أشجاره بما حملته أخذنا غصناً من البرتقال فيه تسع حبات متراكبة كعنقود العنب، وغصناً من الليمون الهندي الذي يسمى جريبفروت فيه خمس حبات كذلك، قلت أنعم بها من بشرى نحملها إلى الصديق في القاهرة، وهدية نطرفه بها من بساتينه الناضرة، وقد حرصت عليها وحملتها في الطائرة متيمناً بها، أراها أغصان نضارة وسلامة، ورمز عناية بالصديق وكرامة، وتنضيراً للصلة بين مصر وفلسطين، وما احسبني فرحت بهدية حملتها، ولا الأخ الطاهر سر بهدية حملت إليه، سرورنا بهذه الهدية الخضراء الجميلة التي حملتها الرياح من الرملة إلى القاهرة

وعدنا إلى دار ضيافتنا للإفطار وصلينا في مصلى في الدار به ضريح يقال إنه ضريح أبي يزيد البسطامي الصوفي المعروف وما عرفنا في تاريخ أبي يزيد أنه جاء إلى الرملة، بل قبره في بسطام بلده معروف يقصده الزوار من الأرجاء، ولا سيما الصوفية حتى اليوم؛ ولعله ضريح بنى على ذكر أبي يزيد، أو قبر صوفي آخر من البسطامية أتباعه غلبه على قبره صيت شيخه وقد قرأنا في تاريخ الصوفية أن أول من عرف منهم بهذا الاسم صوفي اسمه أبو هاشم اتخذ صومعة في مدينة الرملة وتوفى سنة 150 فهل هذا قبره؟ لم يتسع مقالنا للبحث في هذا الشأن

وبعد العشاء ذهبنا إلى دار الشبان المسلمين فلقينا جمعاً من الشبان حاشداً وعلمنا أنهم لم يجتمعوا منذ سبع سنين؛ فرط عقدهم، وباعدت بينهم، ومنعتهم الإلتثام في مثل هذا الجمع، حوادث الحرب وما قبل الحرب من الثورة والجهاد، وممارسة الخطوب الشداد، فما كان أعظم غبطتي، وما كان أسعد جدي أن كانت زورتي المدينة الكريمة مقرونة باجتماع الشمل، وانتظام الجمع. تكلم صديقنا المجاهد محمد يعقوب الغصين وتكلم عدة من كرام الشبان فأفاضوا ما شاء أدبهم وكرمهم محيين المجاهد الكريم، والزعيم الاقتصادي أحمد حلمي باشا والضيف المصري الذي لا نرى نفسه في فلسطين ضيفاً، ولا يعد القاهرة أولى به من الرملة. وتكلمت على وجوه يعرفها قلبي وإن لم تشهدها عيني مستمداً من تاريخنا ومآثرنا وأخلاقنا وعزائمنا ما يثبتنا في هذه المحن، ويربط على قلوبنا في هذه الفتن، ويجمع الكلمة في هذه المصائب، ويؤلف العزائم لهذه النوائب، وألقيت إليهم من تاريخنا وأخلاقنا وأواصرنا مقاليد المستقبل الكريم، الوضاء الذي يبسم في أعقاب هذه الظلمات، ويتنفس من وراء تلك الكربات. ومن وراء كلامي ما يضيق عنه الكلام، وتتلقفه عن الوجدان الإفهام. لقد كانت ساعة جليلة لا تزال تضئ في جوانحي، وتشتعل في سرائري.

أصبحت إلى مطار اللد في صحبة إخواني الكرام أتمثل بقول القائل:

وْنكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا

وأنشد قول أبي الطيب في طريقه إلى مصر:

إذا السحاب زفتْه الريح مرتفعاً ... فلا عدَا الرملة البيضاء من بلد

عرجنا على بنك الأمة العربية في اللد فلبثنا حتى سرنا إلى المطار وقد قصصت قصته من قبل في حديث عن الطيران من اللد إلى القاهرة

عبد الوهاب عزام