مجلة الرسالة/العدد 558/الحديث ذو شجون
مجلة الرسالة/العدد 558/الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
بين الإنسان القديم والإنسان الجديد
تكلمت بعض المجلات السورية واللبنانية عن قلة اهتمام الأدباء المصريين بما يسمونه (أدب الحرب) ورأت في ذلك تضييعاً لاحساسات تستحق التسجيل، ونصت بالذات على خلو أدبي من أحاديث الحرب، والتفاتي إلى شؤون لا تمس أهوال الحرب من قريب ولا من بعيد
وأقول إن موقفي وموقف سائر الأدباء المصريين من الحرب هو موقف الإنسان الجديد، وهو يختلف عن الإنسان القديم كل الاختلاف أو بعض الاختلاف
وتفصيل ذلك الإنسان اليوم يدرك أكثر مما يشعر، وكان الإنسان قديماً يشعر أكثر مما يدرك، والفرق بعيد بين الشعور والإدراك
إن حروب طروادة المشهورة في التاريخ القديم أنطقت اليونان بأعظم القصائد وأعمق الأقاصيص، وهي حروب تعتبر ألعاب أطفال بالنسبة إلى حروب هذه الأزمان، ومع ذلك لن يكون في شعراء هذا الجيل من يؤرخ الحروب الحاضرة، كما أرخ القدماء تلك الحروب
الإنسان القديم كان يحارب وهو مدفوع بعوامل الازدهاء والاختيال، أما الإنسان الجديد فيحارب وهو مدفوع بعمليات حسابية تراعي فيها الخسائر والأرباح، فالفرق بين هذين الإنسانين هو الفرق بين الشاعر والحاسب، وثروة الأول أحلام، وثروة الثاني أرقام
كانت أعظم موقعة في بداية هذه الحرب هي موقعة دنكرك وقد انسحب منها الإنجليز، فكيف كان شعورهم عند الانسحاب؟
أنا لا أظن أنهم حزنوا، وإنما أرجح أنهم فرحوا، لأن الغاية من الحرب هي الربح، والربح الذي يفهمه الإنسان الجديد، وهو ضمان السلامة في الأموال والأرواح.
شاهد طريف
إذا تصاول أسدان كان على الأسد المغلوب أن ينسحب إلى أن يتأهب لاستئناف الصيال، وإذا تقاتل ديكان كان على الديك المغلوب أن يثبت في الميدان إلى أن يموت وكان ذلك لأن الأسد يدرك أكثر مما يشعر، وأن الديك يشعر أكثر مما يدرك، والشعور أحط مرتبة من الإدراك، فما في الوجود شعور أقوى من شعور الأطفال
وأبو تمام الذي بلغ الغاية في الرثاء بهذا البيت في وصف أحد المستشهدين
وقد كان فوت الموت سهلاً فردًه ... إليه الحفاظ المرُّ والخُلق الوعر
هو نفسه أبو تمام الذي اختار في ديوان الحماسة أبياتاً في تبرير الهرب من ميدان القتال، وهي أبيات بعيدة من روح الحماسة، ولكنها من شواهد العقل، فقد علل الشاعر هربه من الميدان بأنه يفر من أعدائه (طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد)، ثم قال:
وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضررْ عدوي مشهدي
وعلى هذا يكون إيثار العقل على الشعور في ميادين القتال مما آمن به العرب قبل مئات السنين، وبهذا كان هذا الشاعر من تباشير الإنسان الجديد
أدب وأدب
الأدب الأول سبق تسهيل المواصلات، فاختلفت الصور هنا وهناك
جان جاك روسو لن يخلق بعد اليوم، فما تسمح الدنيا في أيامنا هذه بأن يتشرد فتى مثل هذا الفتى، بحيث يقطع مئات الأميال على قدميه، وبحيث ينفعل بمناظر السهول والجبال، فيكتب الروائع في وصف ما رأت عيناه وهو ينتقل من مكان إلى مكان في الشهور الطوال
أدب الرحلات سينقرض، ولعله انقرض، بسبب ذيوع السفر بالطيارات، وهو سفر لا يتيح أية فرصة لدرس ما تمر عليه من مختلف البلاد
وأدب التشفي والانتقام لن يعود، وهو الروح الذي أملي على أبي تمام هذه الأبيات عندما أحرق المعتصم مدينة عمورية:
ما رَبعُ ميةَ معموراً يطيف به ... غيلانُ أبهى ربىً من ربعها الخرِب
ولا الخدود ولو أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظر من خدها الترب
سماجة غنيت منها العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب
وحُسنُ منقلب تبقى عواقبه ... جاءت بشاشته من سوء منقلب
فما تقبل اليوم الشماتة بمدينة تحترق، ولو كان أهلها من أخطر الأعداء
ولأبي تمام عذر فيما صنع، فقد استطال إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية ثم استطال، وكانت نيته أن يزعزع هيبة الإسلام في الشرق، فلم يكن بد لأمير المؤمنين المعتصم بالله من تأديب تيوفيلس بإحراق مدينته التي أعجزت المحاربين من أكابر الملوك
والإنسان الجديد يتمثل في نابليون يوم دخل موسكو، فقد راعه أن يحرقها الروس بأعنف النيران، وكان يتمنى أن تعيش بعافية، ليبلغ من تحضيرها ما يريد، وإن كان فاته أن يفهم أن بداوة الاستقلال، أفضل من حضارة الاحتلال
والإنسان الجديد يتمثل في حكومة فرنسا يوم رأت أنها ستنهزم في هذه الحرب، فقد طلبت إعفاء باريس من القتال، لتسلم باريس وهي عصارة أجيال وأجيال
متاعبنا الجديدة
الحرب عندنا ليست بحرب، ألم أقل لكم إنها عملية حسابية في نظر الجيل الجديد؟
والتاريخ ليس عندنا بتاريخ، وما أضيع من يعيش في ضيافة التاريخ!
متاعبنا الجديدة هي أن نعرف سرائر نفوسنا معرفة لا يفسدها التزييف
يجب أن نفهم ماذا نريد من الحياة، وماذا تريد منا الحياة
فإن حددنا الجواب عن هذين السؤالين فسنمضي إلى الغاية المنشودة بلا إبطاء
ندخل حدائق الحيوان بالقاهرة أو بأي مدينة فنرى جميع أصناف الحيوان في أمان من الانحراف، لأنها بعيدة من جهالة الناس، ففي الناس أعور وأعمى وأكمه وأبرص، والحيوان لا يعاني هذه العاهات، لأن خلو حياته من التعقيد يضمن لها السلامة والبقاء.
تكريم الدكتور طه حسين
قلت مرة: إن الأدب الحديث يحتاج إلى مؤرخ مثل أبي الفرج الأصبهاني، ففي حيوات أدباء هذا العصر أشياء تستحق التسجيل، وإن بدت من توافه الأشياء
وأنا سأحاكي أبا الفرج في منهاجه الأدبي فأقص قصة يرتاح لها القراء، لأنهم سيقرأونها مبتسمين، والابتسام يفوق جميع الأثمان:
نشرت في جريدة المصري كلمة أدعو بها إلى تكريم الدكتور طه حسين، بمناسبة ظهور الجزء الثالث من كتابه (على هامش السيرة)، وأنا موقن بأن الناس سيقولون: (لأمرٍ ما دعا زكي مبارك إلى تكريم طه حسين) ولم أتهيب هذا القيل، فقد علمت من أساتذتي في باريس أن أخطر مقتل في شمائل الفرنسيين هو تهيبهم من أن يقال، عند مواجهة الأعمال
' - ?
وقد وقع ما توقعت، فقد نشرت مجلة الاثنين كلمة (لطيفة) سجلت بها دعوتي إلى تكريم الدكتور طه بعد أن كنت من خصومه الألداء، وحدثني صديق أن ناساً من خلق الله زعموا أني أحاول استعطاف المستشار الفني لوزارة المعارف، لأظفر بدرجة ترفعني إلى الصف الذي ارتقى إليه بعض النجباء من تلاميذي
ولقد أحزنني ما قرأت وما سمعت، فما خطر في بالي أن لي مسألة عند الدكتور طه حسين، ولا أنا أستجيز استغلال النقد الأدبي لمنفعة شخصية، ولا أنا أقبل عطفاً من أي إنسان في أي حال. والدكتور طه نفسه يعرف هذا الجانب من أخلاقي، ويعرف أني لا أقبل منه ولا من غيره أية مساعدة، لأني أغنى منه ومن جميع الناس، بفضل النعم التي يسوقها الله إلى بغير حساب، وأنا أخشى أن تقتلني هذه النعم، كما تصنع الأزاهير والرياحين بمن يعانقها في ليلة صفاء
زكي مبارك