مجلة الرسالة/العدد 558/في (مجموع رسائل الجاحظ)

مجلة الرسالة/العدد 558/في (مجموع رسائل الجاحظ)

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1944



للأستاذ محمد طه الحاجري

تفضل الأستاذ الجليل (ناقد) فاستجاب للروح العلمية البريئة، ولما وجهناه إلى جمهرة الناقدين من دعوة خالصة، فكتب عن (مجموع رسائل الجاحظ) فصلاً من فصول الناقدة في الرسالة، عرض فيه لحروف تعرضت - فيما يرى - للتصحيف أو التطبيع أو خطأ الرسم، متهدياً في ذلك بذوقه الأدبي ومحصوله اللغوي، وما زلنا نرجو منذ ظهر هذا المجموع أن يتاح له حظ النقد البصير؛ فليس أحق من الجاحظ - كاتب العربية الأول - أن تتضافر القوى وتتعاون الجهود على جلاء آثاره وإبرازها في صورة أمينة دقيقة جديرة به، بعد أن تعرضت آثاره مدى الأجيال الطويلة للكثير الوافر من عوامل التحريف والتشويه والمسخ. ومن ذلك كان لعناية الأستاذ العلامة الناقد بالمشاركة في جلاء هذه الطائفة من آثاره أجمل الأثر في نفوسنا. وقد تجلت هذه العناية في هذا الفصل، وقد وفق خير التوفيق في بعض ما عرض له، وأما بعضه الآخر فإنا نرى فيه غير ما يرى

وإذا كنا نرى غير ما يرى في أكثر ما عرض له، فمرد كثير من ذلك - فيما يظهر - إلى الخلاف بيننا وبينه في الأصل الأول في النشر. فالأصل عندنا في نشر أثر من الآثار العقلية هو إبراز صورة أمينة من ذلك الأثر، بريئة مما تركته عليها الأجيال المختلفة، والأيدي الجانية، من تشويه أو تخريف أو تزوير. وسواء بعد هذا أن تجئ هذه الصورة كما نشتهي وكما ترجوها مثلنا، أو أن تكون منحرفة عن هذه المثل. ذلك هو الأصل في النشر، ومن هذا كان الناشر مقيداً في عمله بقيود مختلفة، ومحكوما باعتبارات كثيرة، تمسك يده أن تنطلق، وتكف نفسه أن تتدخل، ولا تدع لمزاجه الخاص أو محصوله العلمي سبيلاً إلى أن يفرض نفسه، أو يطبع كلام المؤلف بطابعه، أو يترك عليه أثراً منه. فأما الأستاذ العلامة (ناقد) فيظهر من اتجاهه فيما كتب عن المجموع أنه يميل قليلاً إلى تحكيم المثل في تحرير عبارة المؤلف

فمن ذلك تخطئته إيراد المثل: (كل مجر في الخلاء يسبق. (ص 102 س 19)، لأن المثل المشهور، أو الصورة المشهورة له (كل مجر في الخلاء يسر)، وهو نفسه يقرر أن للمثل صورتين أخريين: (كل مجر بخلاء يسبق، وكل مجر بخلاء مجيد، فكأنما عز عليه أن يسوق الجاحظ المثل في غير صورته المشهورة وهذا ولا ريب نوع من تحكم المثل الذي ذكرنا. وقد كان من الممكن أن نعتبر هذه الصورة المشهورة للمثل، لا لأنها الصورة المشهورة، ولكن لأن الجاحظ قد آثرها في أكثر من موضع في كتبه، كما نرى مثلاً في الحيوان (1: 88، 4: 207 وفي البيان والتبيين (1: 49) الخ، وهذه إحدى الطرق المقبولة في تفضيل قراءة على أخرى، ومع هذا آثرنا ما تعرضه عليه مخطوطتنا الوحيدة في هذا الموضع، إذ ليس ما يدعو إلى فرض تحريفه، ولأن الجملة التي زاوج الجاحظ بها هذا المثل تضعف احتمال الصورة المشهورة له، فهو يقول: (كل مجر في الخلا يسبق، وكل مناظر متفرد بالنظر مسرور)

وكذلك أخذ الأستاذ الناقد علينا أننا ضبطنا هذا المثل (لن تعدم الحسناء ذامّا) (ص 104 س 8) بحيث تصبح كلمة إلذام اسم فاعل من الذم لا اسماً بمعنى العيب، إذ كان المثل (لا تعدم الحسناء ذاماً)، ثم ذهب الأستاذ يفسر كلمة الذام كأن المثل أغرب علينا، فقاربنا وتصرفنا على ما فهمنا والمثل بعد مشهور بتخفيف الميم؛ ولكنا رجحنا أن الجاحظ تصرف في إيراد المثل على الصورة التي أوردناها، ليستقيم سياق المعنى الذي يريد تقريره عن الحسد، ودل عليه بكثير من الآثار والأمثال التي لا يستقيم معها ذلك المثل في صورته المأثورة إلا أن يكون الجاحظ ممن يلقي الكلام على عواهنه، ولا يعد أن يستشهد بما لا موضع له، ولا يتساوق مع غرصه، ويخالف بين أطراف الكلام مثل هذه المخالفة! ولكن الأمر الذي لا يعبأ به الجاحظ حقيقة هو أن يتصرف في المثل حتى يطوع له، على ذلك النحو الذي لا بأس به

ومن هذا الباب أيضاً تخطئته لنا أن نثبت هذه العبارة: (واستذرأت في ظلك) مهموزة، لأنه يقال - كما يحكى الأستاذ الناقد - استذرى بفلان أي التجأ إليه، وفلان في ذرى فلان أي في ظله. وحسب الأستاذ هذا، لا لتكون الكلمة خطأ، بل ليكون إثباتها منسوبة إلى الجاحظ خطأ. وليست المسألة بهذا اليسر، فيما نرى؛ وإنما الوضع الحقيقي للمسألة هو: هل يمكن القطع بأن هذا الخطأ هو خطأ الناسخ لا خطأ الكاتب، وهل مثل هذا الخطأ مما لا سبيل له إلى قلم الجاحظ، إن كان لا بد من تسميته خطأ؟

أما إنه لو صح لنا هذا لما كان لنا أن نستبقيه، ولوجب علينا أن نستبدل به؛ ولكن الأمر هنا ليس كذلك. وما أكثر ما تتعاقب الياء والهمزة في اللغة العربية، لا في باب الإبدال وحده، بل فيما وراء ذلك، فيما لا يندرج تحت تلك القواعد التي عني بتنسيقها وبسطها علماء التصريف. وقد عقد أبو علي القالي فصلاً في أماليه في (ما يقال بالياء والهمزة) إلى كثير غير ذلك من الكلمات التي لا تقع في باب الإبدال الرسمي

ولقد جاء في بعض الآثار الأدبية ما يدلنا على أن الفرق بين ما أصله الهمزة وما أصله الياء لم يكن من الفروق التي تحسها السليقة اللغوية إحساساً قوياً. من ذلك ما جاء في شعر الأعشى على رواية يعقوب بن السكيت:

إذا انبطحت جافي عن الأرض بطنها ... وخوأها راب كهامة جنبل

ويعلق أبو عبيد البكري، في لآليه، على هذا البيت بقوله: (وخوّأها مما همز ولا أصل له في الهمز) ثم يذكر أن الرواية الأصح، لهذا السبب، هي رواية من قال: (وخوّى بها). وهذا، في أكبر الظن، نوع من تحكيم المثل في الرواية، كالذي ذكرناه من تحكيم المثل في النثر

ومثل هذا ما أخذوه على شاعر إسلامي، هو المسعودي، عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، في قوله:

شققت القلب ثم ذرأت فيه ... هواك فليم فالتام الفطور

فقد قالوا إنه أخطأ حين قال (ذرأت)، وكان القياس أن يقول (ذريت) بالياء

وهكذا نرى أن وضع الهمزة موضع الياء ليس من الأخطاء المغلظة التي يجل الجاحظ عنها، أو نأنف له أن يقع فيها، فنزعم ما وقع من ذلك خطأ ناسخ يجب استصلاحه. وما دمنا لا نملك الدليل على أن وضع الهمزة موضع الياء من صنع الناسخ؛ وما دمنا لا نبعد أن يكون هذا من عبارة الجاحظ، فإن ما يقترحه الأستاذ الناقد من وضع (استذريت) موضع (استذرأت) يعتبر نوعاً من تحكيم المثل في النشر

فهذا نوع من المآخذ التي أخذها علينا العلامة الناقد. وهناك نوع آخر يرجع إلى العجلة، أو إلى أخطاء الدقة له، كقوله فيما علق به على قول الجاحظ (ص 110 س 17): (لاسيما إن كان مع استبطان الحسد الخ) إذ يقول: (قلت جاءت ولاسيما في هذا الموضع، وفي غيره مجردة من ذينك الحرفين، وأستبعد كثيراً هذا التجريد في كلام المحدثين الأولين، وإن أجاز ذلك نحاة من المولدين المتأخرين. وقد وردت اللفظة ومعها صاحباها في ص 24، 68) فلم تجئ (لا سيما) في عبارة الجاحظ مجردة عن لا والواو، بل عن الواو فقط، على الصورة التي أوردناها في هذه الفقرة

ومثل هذا ما جاء في التعليق على هذه العبارة (71: 16 - 17): (وسواء - جعلت فداك - ظلمت بالبطش والغشم، أو ظلمت بالدحس والدس) واقتراحنا وضع الدعس موضع الدس، إذ كان ذلك أشبه، فتوهم أننا إنما نضعها موضع الدحس، ثم اقتراح بدلاً من ذلك كلمة (الرس). وهذا نقد قائم على التوهم المحض. وما كان لنا أن نقترح كلمة موضع كلمة نظيرة لها في المعنى، وليس ما يمنع منها

وهناك نمط ثالث من المآخذ يرجع إلى الخلاف علىالرسم، وما نحب أن يطول الجدل حول هذا، إذ كانت قواعد الرسم لم تتقرر بعد على أصل ثابت. وقد أخذ علينا الأستاذ الناقد أننا رسمنا التواطؤ مرة بالواو وأخرى بالياء، ولعله حسب ذلك اضطراباً وتهافتاً، مع أن كلا منهما يخضع لقاعدة من قواعد الهمزة المتطرفة، على ما تنص عليه بعض المذاهب من أن الهمزة المتطرفة المكسورة ترسم ياء مطلقاً، والمضمومة ترسم واوا إذا كان ما قبلها مضموماً. وكذلك جاءت كلمة (التواطؤ) مرفوعة في (ص 24 س 16). (لا يمكن في مثله التواطؤ) ومجرورة في (ص 40 س 19): (وقام نجيء الأخبار من غير تواطؤ ولا تشاعر مقام العيان)، فالحالتان كما نرى مختلفتان

ومن هذا الباب أيضاً تخطئته رسم كلمة (غنا) بالألف فهي - فيما يقول - مقصورة ترسم بالياء، وممدودة ترسم بالألف والهمزة، وهي هنا مقصورة بدليل كسر أولها، فيجب أن ترسم بالياء، ولكن لهذه الكلمة في عبارة الجاحظ اعتباراً آخر، فهي ليست مقصورة فقط، ولكنهما مقصورة منونة، أثبت التنوين في آخرها كما أثبت الكسر في أولها، وهذا هو موضعها (ص 18 س 9): (والإفراط في جر المنفعة غِناً لمن أفرطت في نفعه عنك) وقياس أبي عثمان المازني أن مثل هذا يرسم بالألف. فإذا علمنا أن من علماء الرسم من يرى أن يكتب الباب كله بالألف على الأصل كان في هذا ما يعضد رأي المازني في المنون

وإذا كان الخلاف في مثل هذا يستحق التأمل والوقوف عنده، فالخلاف في كلمة (السوء) في قوله الجاحظ (ص 30 س 4): (فتحرز من دخلاء السوء ومجالسة أهل الريب) أهي بالضم أم بالفتح خلاف لا جدي له، فرد الكلمتين في المعنى واللفظ واحد، وإحداهما اسم والأخرى مصدر، وما يذكر بينهما من فروق ليس هنالك. وقد قرء بهما في كثير من آيات القرآن الكريم، كآية التوبة: (عليهم دائرة السوء)، وآية الفتح: (الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء) إلى غير ذلك من الآيات

وبعد، فإن شكرنا للأستاذ الناقد لا ينقضي لهذا التوجه الكريم إلى (مجموع رسائل الجاحظ) ولما جاء في مقاله من نقد عبقري بصير، كما في كلمة (المذاييع البذر) (45: 1)، ولما نبه عليه من أخطاء مطبعية، كلمة (مصارع) (63: 7) وكلمة (السرف) (64: 1)، وكلمة (يذب) (103: 7) وإنا لنأسف أشد الأسف لوقوع مثل هذه الأخطاء على شد حرصنا أن يخلو هذا المجموع منها

ولكن أشد هذه الأخطاء التي نأسف لها أسفاً يعتلج في القلب ورود هذه الكلمة (نسيسنا) (117: 14) على هذه الصورة الممسوخة، في أبيات مشهورة. رويت في أمهات كتب الأدب العربي لحماسة أبي تمام وذيل الأمالي لأبي على والأغاني وقد ظن الأستاذ الناقد أنها مصحفة عن (نفيسا)، وهذا ولا ريب تصحيح طيب، ولكنه مرتجل. وصواب الكلمة عندنا (قشيبا)، كما جاءت في رواية أبي على القالي:

وإذا اكتسى ثوباً قشيباً لم أقل ... يا ليت أن على فضل ردائي

وبعد، فهذه كلمات نرجو أن نكون قد أنصفنا بها أنفسنا وأنصفنا بها الحقيقة، وأنصفنا فيها أستاذنا الناقد الجليل والسلام عليه ورحمته وبركاته.

محمد طه الحاجري