مجلة الرسالة/العدد 558/مراسلات مع الريح
مجلة الرسالة/العدد 558/مراسلات مع الريح
يا عدوى
للأستاذ إسماعيل مظهر
منذ خمسين سنة ونيف كنّا نقطن حيا من الأحياء الوطنية القديمة لا يزال يسمى الدرب الأحمر. ولعله اكتسب هذه التسمية من دماء المماليك التي انحدرت في مسالكه من باب القلعة إلى باب الوزير، عند ما استأصلهم الكبير محمد علي واستأصل معهم شأفة الفساد والشر. وكان المنزل الذي نقطنه على رحابة أرجائه كأنه سجن له فناء، ولا يطل منه على العالم الخارجي إلا نافذة واحدة طولها أمتار وعرضها شبر واحد، كنا ننصت منها على جلبة الشارع، فكنا إذا سمعنا مصطفى الزرّاب يغني بصوته الرخيم أطلقنا لأرجلنا العنان، واستبق بعضنا البعض إلى السلم ومنه إلى الفناء، ثم من الفناء إلى الدهليز؛ ثم من الدهليز إلى الدِّركة، فنرى عم جوهر جاثماً فوق السدَّلة فنحييه، ثم نقفز إلى الشارع. وكان الزرَّاب منادياً يأجره البعض إذا فقدوا شيئاً، فينادي عليه في الأزقة والحواري والمسالك. وذات يوم شهدناه ينادي عن معزاة فقدها جلاّد (بائع جلود) بجوار منزلنا. وكان رخيم الصوت يفتن في النغم ويخلق من مناداته شهي اللحن، فرأيناه ينشد المعزاة بلغة عربية تشوبها العامية المقبولة، وأخذ يسير ونحن وراءه، حتى إذا أشرفنا على جامع المرداني وتجاوزنا باب قسم الدرب الأحمر، انفتل يميناً إلى حارة الروم بعد أن صاح (يا عدوى)، وكان يختم بها كل نداء. فترك عربته وأخذ يقول: (يا خدرات الأروام: يا خواجات الخته: فيه واخد ميزه: أنده اتنين بلخه هينا (ويشير إلى جوزته) الشر بتاعه أخمر. البوز بتاعه أبيد. تمسك فلوس كويس لوجبته. يا خريستو) (بدلاً من أن يقول يا عدوى)
تذكرت هذه الحادثة بعد هذه السنين الطوال، وتذكرت مصطفى الزراب عندما قرأت في مجلة المصور مشروع كتابة العربية بالحروف اللاتينية الذي خرج علينا به سعادة عبد العزيز فهمي باشا عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية خروج الزراب من عرينه أمام جامع المرداني، ينشد معزاته الضائعة: متوسلاً بالعدوى، إلى لاتينية الأعاجم عند ما انفتل إلى حارة الروم مستنجداً بخريستو، مستمداً منه العون. ولله الأمر من قبل ومن بعد
كذلك اعتقد كثير من الخرافيين في العصور الوسطى أن الشيطان قد تدخل في تصوير كرة الأرض. فقد رأوا أن لبلاد اسكنديناوه شكلاً خاصاً يغاير شكل بقية أجزاء الأرض؛ ذلك بأنها أشبه بذراع ممدودة أخذت من حواشيها المدى والسيوف فتركت به تلك الخلجان والقطوع المائية، التي صلحت في الأزمان الأولى أن تكون مقراً آمناً للقرصان الذين نشروا الرعب في شمال أوربا، وامتد إرهابهم إلى حوض البحر المتوسط، رأوا ذلك فتخيلوا حادثاً كونياً محصله أن الله القادر على كل شئ بعد أن انتهى من عمل الخليقة، تسلل الشيطان ليرى العمل الذي أتمه في تلك الأيام السبعة التي تخلف فيها عن الظهور منه فوق العرش. فطاف ثم طاف، حتى إذا وقع على سيارنا هذا ورأى ما فيه من جمال وحسن بالرغم من صغر حجمه ضاقت نفسه وساء سلوكه، فاقتلع حجراً عظيماً قذف به كرة الأرض، مقر الإنسان الجديد، فاستقر الحجر في بحر الجمد الشمالي حيث اسكانديناوه الآن
ومن هذه الخرافة نستمد العظة. فكل جميل كامل الجمال، وكل حسن كامل الحسن، يأبى صلف الإنسان إلا أن ينتقصه من أطرافه، لا بد من أن يرمي بحجر يقذفه شيطانه، كذاك الذي قذف كرة الأرض بحجره العظيم، فزاد من جمالها وضاعف من حسنها. أرأيت تمثال فينوس ميلون؟ أفإن انحدر إلينا كاملاً بذراعه الجميلة، أكنا نشهد فيه ذلك الجمال كله؟ كلا فإن جمال الجزء الناقص ندركه من الجمال الأجزاء الباقية. أضف إلى ذلك شعور العطف الذي نحسه إزاء ذلك الحجر المنحوت، وذهول الكارثة التي أطارت منه الذراع. إن الجمال فيه لم ينقصه، وإدراكنا لقيمة جماله وحسنه وروعته قد شابها العطف عليه بحنو يبعث من وجداننا ما كان ليفوز به لو أن القدر أبقى منه تلك الذراع المفقودة
وما أشبه لغتنا العربية المجيدة بكرة الأرض وحادثها مع الشيطان! فإن هذه اللغة ما فازت بالبقاء دون أخواتها الساميات إلا لأسرار فيها يعجز عن إدراكها الفكر ويضل في بحثها التاريخ. وكل تعليل لهذه الظاهرة إنما هو تعليل ناقص؛ فإن ذلك التيه الواسع الذي نسميه اللغة العربية إنما هو على اتساعه وحدة كاملة الأطراف متماسكة الجوانب، إذا زعزعت منه أساساً تداعت من حوله كثير من الأسس. فلقد تطورت هذه اللغة على مر السنين، وتكاملت على كر الأعوام، حتى أصبحت كالبناء المصبوب من الفولاذ، ناحية النقص الواحدة فيه؛ أنك لا تجد فيه منفذاً واحداً يمكنك من أن تضيف إليه جديداً منه؛ غير أنه يظهر كالرقعة المهلهلة في الثوب الجديد الكامل النسق
وما الذي يحملنا على أن نفكر في الحروف اللاتينية لنكتب بها العربية؟ ما الذي يحملنا على أن نحمل ذلك الحجر الثقيل على أكتافنا من بلاد اللاتين إلى صميم بلاد العرب، لتقذف به لغة العرب، فيلوب في بحرها الخضم ثم يلوب، ومن بعد تبتلعه، ولا نكسب من ذلك إلا تعب الحمل، ووزر ذلك الشيطان الذي قذف كرة الأرض بحجره الثقيل، فلم ينتقصها وإنما ابتلعه جمالها فزادت به جمالاً، ولم يغير من طبيعتها وإنما زاد إلى تاريخها فصلاً محجوجاً مكروها. إنما يكون مثلنا في هذه الحال كالشمطاء التي أبت إلا أن تنتقص جمال حسناء، حقداً وكيداً، فاجتزت خصلة من لمتها، فبدت غرتها أجمل وأفتن
حاول الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا أن يصلح من اللغة العربية بمشروعه ذاك الذي نشره في المصور، بأن يجد طريقاً يسهل على الناس قراءة العربية صحيحة كما تلقيناها عن الفصحاء. وأشار من طرف خفي إلى حروف الحركة، كأن اللغة العربية ليس بها حروف حركة؛ ولكنه نسى أن العربية تمتاز على جميع لغات العالم من هذه الناحية. نسى أن بها حروف مد وحروف حركة، فإن حروف الألف والواو والياء ليست في الواقع حروف حركة في اللغة العربية وإنما هي حروف مد. فإذا قلنا مثلاً (كتاب) فالألف هنا ليست حرف حركة وإنما هي حرف مد تطول معه حركة التاء. أما حروف الحركة فهي في الواقع الحركات الفتح والضم والكسر والسكون، فصلت عن بقية الكلمة لتدل على حركة حروفها، وهو نوع من الاختصار لا تجد له مثيلاً في لغة من لغات الأرض، ولون من الجمال الواضح والوحدة السليمة تمتاز به هذه اللغة العجيبة دون غيرها من اللغات. وسبحان الله إذ يصبح الكمال في نظر بعض الناس نقصاً، والجمال قبحاً، كأنما نحن نمل أن نتعلم لغتنا على أساسها الصحيح، ومن طريقها الواضح الذي شرحه العلامة الأستاذ عرفة على صفحات الرسالة، إنما نحن نعبر بمثل هذه الآراء التي يعرضها الباشا الكبير عن ملل واضطراب
وما أريد أن أتكلم عن تراث العرب والعربية، وما أريد أن أتكلم في أن هذه اللغة لغة دين ولغة أدب وعلم وفن انحدرت إلينا من خمسة عشر قرناً إلا قليلاً تحمل إلينا في تضعيفها مشعل الماضي مضيئاً. لا أريد أن أتكلم في شئ من هذا فإنه بمثابة القول المعاد، وإنما أريد أن أقول: إن هذه النزعات نزعات يبعثها ضعف في القومية واستهتار بتراث العرب الموروث ونبذ لكل تقليد قديم تلقيناه عن أصولنا
إننا لا نعلم اللغة العربية في مدارسنا وإنما نعلم بعض قواعد منها. ولا يسمع الطالب لغة فيها شئ من العربية الصحيحة إلا من معلم اللغة العربية، فإذا احتك بمعلم الحساب أو الهندسة أو الجبر أو التاريخ الطبيعي أو غير ذلك لم يسمع إلا العامية، لغة سقيمة مهلهلة. فأين نحن من تعلم اللغة العربية؟ بل إن بعض طلبتنا في بعض الكليات يتلقى دروسه من أستاذه باللغة العامية ثم يذاكر الموضوع بالإنجليزية. فهل سمعتم بمثل هذا في أنحاء كرة الأرض؟ هل سمعتم بأن مثل هؤلاء الطلبة يستطيعون أن يدركوا شيئاً من أسرار لغتهم وهم على مثل هذا الوضع؟
يا سعادة الباشا قل معنا يا عدوى؛ فإننا لن نقول معك يا خريستو أبد الدهر.
إسماعيل مظهر