مجلة الرسالة/العدد 56/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 56/العلوم
أصل الأرض وماهية تكوينها
بقلم نعيم علي راغب
اختلفت الآراء وتضاربت، ثم كثر الحدس والتخمين في أصل الأرض من قديم الزمان، واستمر الحال كذلك إلى أن جاء القرن التاسع عشر يحمل معه مخترعات جليلة الشأن، عظيمة الفائدة، نخص منها بالذكر المنظار المقرب أو التلسكوب، ثم آلات تحليل الطيف الضوئي، فأمكن تكوين رأي لا يزال حتى الآن غير محكم عن أصل تكوين الأرض.
وخلاصة المأخوذ به حتى الآن هو أن الأرض التي نعيش عليها جزء من المجموعة الشمسية التي تترب من عدة أجرام سماوية تتوسطها الشمس، وهي ثمانية كواكب سيارة مرتبة حسب قربها من الشمس: (عطارد. الزهرة. الأرض. المريخ. المشتري. زحل. أورانوس. نبتون). كذلك من 635 كوكباً صغيراً سياراً بين المريخ والمشتري، وكذلك التوابع وهي أجرام سماوية صغيرة تدور حول الكواكب السيارة (كالقمر بالنسبة للأرض)؛ هذا غير عدد لا يحصى من أجرام سماوية صغيرة اسمها الشهب تدور على غير هدى.
ونحن إذا رجعنا الآن إلى تكوين الأرض من هذه المجموعة، وجدنا أن الآراء متفقة على إنها كانت قبل انفصالها عبارة عن كتلة واحدة متماسكة، ثم انفصلت إلى أجزاء صغيرة كانت الأرض أحدها. وإليك بيان ذلك:
كانت المجموعة الشمسية في البداية سديماً، (وهو جسم يرى بالعين المجردة كأنه سحابة بيضاء، ولكنه في الحقيقة جسم غازي شديد الحرارة جداً، له مركز أشد صلابة ولمعاناً من باقي جسمه، وهو بيضاوي الشكل)، انخفضت درجة حرارته بعامل من العوامل فانفصلت أطرافه على شكل حلقات دائرية، واستمرت بعد عملية الانفصال تدور حوله في نفس الاتجاه الذي كان يدور فيه، فتكونت من هذه الحلقات الكواكب السيارة، وكان أولها في التكوين أبعدها عن الشمس، وهو نبتون الواقع على طرف المجموعة الشمسية؛ وكان آخرها أقربها إليها وهو عطارد. وتعرف هذه النظرية بالنظرية السديمية وهي النظرية التي قال بها العالم الفرنسي الشهير في أواخر القرن الثامن عشر.
حار العلماء في تفسير منشأ حرارة السديم ولم يتمكنوا من إيجاد تحليل معقول يستسيغه العقل فسكتوا على مضض حتى تقدم سير نورمان لوكيار بنظرية الشهب وخلاصتها أن النيازك العديدة التي تسبح في الفضاء إذا ما تقاربت نشأ عن اتحادها واحتكاكها درجة حرارة تبدأ قليلة المقدار لكنها تزداد كلما ازداد مقدار تقاربها من بعضها بفعل الجاذبية نحو المركز، وهكذا إلى أن تصل إلى حد تتحول معه النيازك إلى مادة غازية ثم يأتي وقت بعد ذلك تزيد في الحرارة المتشععة من الشهب عن الحرارة الناشئة من الاحتكاك فتتكاثف هذه الغازات ثانية. وتأخذ درجة حرارة السديم في الانخفاض تبعاً لذلك. وتكون أبعد الأماكن عن المركز أولاها في هذه العملية. ومن هنا نعلم أن أبعد السيارات عن مركز المجموعة أقدمها في التكوين كما سبق ذكره.
استمرت النظرية السديمية مأخوذاً بها طول القرن التاسع عشر غير أنه كان فيها بعض نقط غامضة احتاجت إلى إيضاح كثير: من ذلك مثلاً إن هذه النيازك التي قيل إنها تكون السديم صغيرة الحجم إلى حد كبير تسير في الفضاء على غير هدى وبسرعة عظيمة. ومن الصعوبة أن نتصور القوة الجبارة التي سببت اتحادها بعضها ببعض. وبغير هذه القوة لا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير النظرية السديمية. ومن الاعتراضات الأخرى التي قامت في وجه هذه النظرية حقيقة جغرافية ثابتة، وهي إن توابع كل من أورانوس ونبتون تدور حولهما من الشرق إلى الغرب على عكس باقي أجزاء المجموعة الشمسية.
وقد تقدم في القرن العشرين بعض علماء الإنجليز والأمريكان بنظرية عن أصل تكوين الأرض تعرف بنظرية المد خلاصتها أن تكون الكواكب السيارة وقيرها من المجموعة الشمسية قد نشأ عن اقتراب نجم كبير من سديم الشمس في أوقات مختلفة. فنشأ عن اقترابه أن جذب إليه جزءاً من كتلة السديم انفصل منه بقوة هذه الجاذبية.
ولا تختلف النظرية الأخيرة وهي نظرية المد عن النظرية السديمية في شئ إلا في تعليل انفصال الحلقات المكونة للمجموعة الشمسية عن جسم السديم الاصلي.
وهناك اختلاف بيّن بين قولنا هذا وبين من يقول إن الأرض أصلها جزء من الشمس لأن القول الأخير غير صحيح إذ أن الأرض والشمس جزءان من سديم واحد أو كتلة واحدة وليست جزءاً من كل بالنسبة للثانية.
باطن الأرض: كانت الأرض كما قلنا جزءاً من السديم الشمسي وكانت حرارتها في البداية شديدة جداً ثم انخفضت وأخذت في القلة تدريجاً بفعل الإشعاع فبردت قشرتها الظاهرية شيئاً فشيئاً حتى وصلت لحالة الصلابة، ثم تجعدت هذه القشرة تبعاً لبرودة الأجزاء الباطنية وأخذت في التقلص فتكونت فيها منخفضات ملأتها الأبخرة المتكاثفة (الماء) وأخذت معالم الحياة تظهر شيئاً فشيئاً وكان آخر هذه المعالم هو الإنسان. إلا أن باطن الأرض ظل مرتفع الحرارة. تدل على ذلك ظواهر طبيعية عديدة:
1 - تزيد درجة الحرارة بمعدل درجة واحدة فهرنهيت لكل عمق مقداره 56 قدماً.
2 - سخونة المياه التي تخرج من الينابيع الساخنة. وقد وجد أن درجة حرارة الماء الخارج من نافورات أيسلندة 261 ف.
3 - خروج المواد المنصهرة من البراكين.
ولقد أثارت الظاهرة الأولى اهتمام العلماء وكانت سبباً في
اختلافات كثيرة وقعت بينهم في القرن التاسع عشر، لأنه إذا
كانت زيادة درجة واحدة فهرنهيت لكل 56 قدماً بعد الخمسين
قدماً الأولى صحيحاً واستمرت هذه الزيادة باطراد لوجب أن
تكون حرارة الباطن 1500 درجة حرارة مئوية على عمق
28 ميلاً أو على عمق 1141 من نصف قطر الأرض. وهذه
الدرجة تذوب عندها أشد العناصر صلابة. فوجب على هذه
الحال أن يكون سمك القشرة الأرضية الصغرى غايته 28
ميلاً وفيما يلي ذلك يكون الباطن منصهراً.
غير أنه ثبت في القرن الحالي أن باطن الأرض صلب، وأن الأرض تتكون من طبقتين متميزتين عن بعضهما: الأولى: طبقة سطحية تتكون من صخور قليلة الكثافة يطلق عليها اسم
الثانية: طبقة معدنية عظيمة الكثافة تسمى
وأن الطبقة السطحية تحتوي بالقرب من الظاهرات على جيوب مملوءة بالمواد المنصهرة، وهي ما تعرف بالحمم ومنها تفيض البراكين عند ثورانها. وهناك أدلة تثبت أن باطن الأرض أصلب منها:
(1) كلما تعمقنا في باطن الأرض زاد الضغط بنسبة العمق الذي نصل إليه، ومعنى ذلك أن الطبقات على عمق 100 متر مثلاً تقع تحت ضغط يساوي عمود الهواء وثقل الطبقات التي تعلوها. ولذا فإن المواد التي توجد على هذا العمق تحتاج إلى درجة حرارة اكثر بكثير من الدرجة التي تنصهر عندها نفس المواد إذا ما وجدت على سطح الأرض.
(2) لما كانت كثافة الأرض 6ر5 وكثافة السطح الخارجي 5ر2 وجب أن تكون كثافة الباطن أعلى من ذلك بكثير حتى يكون الناتج 6ر5.
(3) تزيد سرعة الموجة الزلزالية عند مرورها في باطن الأرض عنها على السطح، فقد لوحظ أنه بينما تسير الموجة بسرعة 86ر1 ميلاً في الثانية على السطح، فإنها تسير بسرعة 05ر5 أميال في الثانية في باطن الأرض.
(4) لو كان باطن الأرض سائلاً لوجب أن يتأثر بالمد والجزر، فيظهر ارتفاع في القشرة الأرضية من جهة المد، وانخفاض في الجهة الأخرى.
(5) قد ثبت أن النشاط الراديومي محصور في دائرة ضيقة غاية قطرها 45 ميلاً من السطح الخارجي. ولو كانت الصخور التي دون هذا العمق، تحتوي على راديوم لازدادت كمية النشاط الراديومي. ولما كانت المواد الحديدية التركيب من المواد القليلة الخالية من هذا النشاط. يثبت لنا من ذلك أن باطن الأرض يتكون من مادة حديدية عظيمة الكثافة، وهذا يتفق مع النظرية الشهبية التي قال بها السير نورمان لوكيار. كما يتفق مع الحقيقة الثابتة في النقطة الثالثة.
انتهينا الآن من ماهية باطن الأرض، وسنبحث في مقال آخر في ظواهر حرارة باطن الأرض، فنتكلم عن البراكين وظواهرها وأسبابها. ثم نبين التضارب الحادث في تعريفها جغرافياً، والتغليط العلمي في شرح ظواهرها وأسبابها.
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا