مجلة الرسالة/العدد 56/بين السياسة والأدب أيضا
مجلة الرسالة/العدد 56/بين السياسة والأدب أيضا
ً
أشارت (الرسالة) في عددها الماضي إلى كلمة أسف وعتاب مُر كتبتها إحدى الزميلات الدمشقيات لمناسبة وفاة شيخ العروبة المغفور له احمد زكي باشا، تشكو فيها من طغيان السياسة على الأدب في مصر، وتنعى علينا تقصيرنا في حق العظماء الراحلين من أدبائنا ومفكرينا، وتلاحظ أن العلامة الراحل لم يشيع إلى مقره الأخير بما يجب لعلمه وأدبه وخدماته للإسلام والعرب، من التجلة والاهتمام؛ هذا بينما تغمر ذكرى بعض الراحلين من رجال السياسة بمظاهر الإجلال الشامل، وتفرد لها في الصحف عشرات الفصول الرنانة، ويحتفى بها أيما احتفاء.
ونعود فنعقب على ما كتبته الرسالة بأن ملاحظة الزميلة الدمشقية جديرة بكثير من التأمل، وفيما تنعيه علينا كثير من الحق. فنحن نشعر منذ أعوام طويلة بطغيان الاعتبارات السياسية على كثير من مظاهر حياتنا العامة والخاصة، ونشعر بما تجنيه هذه الاعتبارات على كرامة التفكير والأدب. وقد ظهر هذا الأثر في مواطن ما زالت تثير في نفوسنا كثيراً من الأسى والألم. ففي مثل هذا الوقت منذ عامين، توفي شاعر مصر الكبير المغفور له حافظ إبراهيم، فكان حقاً لعظمته وعبقريته أن يكون جنازه حادثاً قومياً عظيماً تشترك فيه الأمة كلها شعباً وحكومة؛ ولكن حافظاً شيع إلى قبره في حشد متواضع من الأصدقاء والمعجبين، وحالت الاعتبارات السياسية دون أن يسبغ على جنازه أية صفة رسمية أو قومية، ولم يقم لذكراه أي حفل تأبين لائق. وكان لهذا الإغفال المؤلم صداه يومئذ، فألفت لجنة من بعض الكبراء والأدباء أصدقاء حافظ لتستدرك هذا التقصير المعيب في حقه، ولتقوم بما يجب لتخليد ذكراه؛ ولكن هذه اللجنة لم توفق للأسف إلى القيام في هذا السبيل بعمل يذكر؛ ولم تبد دوائر الأدب من جانبها أي اهتمام بحافظ وتراثه، ولا زالت ذكرى الشاعر العظيم نسياً منسياً.
وثمة حادث آخر ظهر فيه طغيان هذا التيار السيئ، هو أنه لما أرادت الحكومة أن تكرم ذكرى أمير الشعراء المغفور له احمد شوقي بك في حفل رسمي دعت إليه ممثلي الأقطار العربية الشقيقة، لم تفكر في زميله وقرينه حافظ؛ ولو أنها أرادت أن تكرم ذكرى الشعر للشعر والأدب للأدب ولم تبد مثل هذه التفرقة بين رجلين اشتركا في حمل زعامة الشعر العربي زهاء ربع قرن، وساهما في مجد مصر الأدبي بقسطين متعادلين لكان عملها جديراً بكل تقدير. ولكن ظروف هذا الحفل كلها كانت تنم عن تغلب هذه الاعتبارات الخاصة في إقامته وفي تنظيمه؛ وهي ظروف واعتبارات شعر بها ولاحظها وأسف لها جميع إخواننا مندوبي الأقطار العربية الذين شهدوا هذا الاحتفال.
وبعد فهل نسي أحد قصة مثّال مصر العظيم مختار وما جنته الاعتبارات السياسية على شخصه وفنه أثناء حياته ثم بعد وفاته؟ لقد قضى مختار معذباً منسياً مهضوم الحقوق، لا تحفل الحكومة بأمره، ولا تذكر أن له فناً وآثاراً رفعت اسم مصر عالياً؛ وحذت الهيئات العلمية والأدبية حذو الحكومة في تناسي مختار وفنه وذكراه.
وهذا الروح المعيب يكاد يتغلغل في جميع الهيئات المصرية، رسمية، وغير رسمية. وفي كل يوم ترتكب في ظله وتحت تأثيره تصرفات يأباها العلم والأدب، وتأباها اللياقة والذوق السليم. وكثيراً ما تجني هذه التصرفات على العلم والأدب، وحقوق العلماء والأدباء. والأمثلة عديدة معروفة لا يتسع المقام لذكرها، والتبعة في ذلك لا تقع على الهيئات الرسمية أو الحزبية وحدها وإنما تقع أيضاً على الهيئات العلمية والأدبية نفسها، وعلى العلماء والأدباء أنفسهم. أما تبعة الهيئات، والهيئات الرسمية بنوع خاص، ففي إنها تمزج بين السياسة والأدب عن عمد وتدبير، وتخضع الأدب والعلم لمؤثرات السياسة وهواها؛ هذا مع إن التفكير والأدب تراث قومي عام، بل هما تراث إنساني يرتفع فوق جميع الاعتبارات والمؤثرات الحزبية والمذهبية. ومن واجب الحكومات والهيئات المستنيرة أن تقدر هذا المبدأ وأن تحترمه دائماً. وإنما تبعة الهيئات العلمية والأدبية والعلماء والأدباء، ففي أنهم بجمودهم وتقصيرهم يشجعون على تلك التصرفات المغرضة المعيبة، وأحياناً يساهمون في ارتكابها متأثرين بنفس تلك الاعتبارات التي يجب عليهم أن يحاربوها بكل قواهم.
لقد جنت هذه الاعتبارات والمؤثرات على تفكيرنا وأخلاقنا وأصابت حركتنا الأدبية بكثير من ضروب الفساد والشر، وكانت هيئاتنا الرسمية والعامة دائماً في ذلك قدوة لا تحمد. وما زلنا منذ أعوام نعاني هذا الإفساد ونستكين له. أفلم يحن الوقت إذاً لكي نحارب هذا التيار الخطر ونعمل على إقناع حكومتنا وهيئاتنا العامة بأن الحركة الأدبية يجب أن تحرر من تلك المؤثرات والاعتبارات الخاصة، وإن التراث الفكري والأدبي يجب أن ينظر إليه لذاته، وإن من حق المفكرين والأدباء أن ينالوا دائماً، أثناء حياتهم وبعد مماتهم، من رعاية حكومتهم وأمتهم ما هو جدير بأقدارهم العلمية والأدبية قبل كل شئ؟
(ا. ع)