مجلة الرسالة/العدد 56/حول اقتراح
مجلة الرسالة/العدد 56/حول اقتراح
نقابة للأدباء للشبان
بقلم حنفي غالي
قرأت المقال الشيق الممتع الذي نشرته مجلة الرسالة الغراء لذلك الأديب الكبير مقترحاً فيه تأليف نقابة للأدباء الشبان، تجمع شملهم، وتوحد كلمتهم، ويكون لهم منها قوة ترد عنهم هجمات المعتدين، ودرع يقيهم طعنات الطاعنين؛ فراقني منه ميل خالص للعدل، ورغبة صادقة في الإنصاف، فأحببت أن أقول في هذا الموضوع كلمة صريحة لوجه الحق، غير متأثر من جانبي الشبان أو الشيوخ برغبة أو رهبة.
وكم كنت أود أن يتجه اقتراح الأديب اتجاهاً غير اتجاهه، ويرمي إلى غاية غير غايته، فيدعو إلى تكوين جماعات من الشباب تلتف كل منها حول شيخ أو أكثر من شيوخ الأدب، تفيده وتستفيد منه؛ تفيده بإعلاء ذكره وإظهار فضله وإعانته في عمله، ونستفيد منه بالاستماع لنصائحه والتشرب بروحه والتأدب بأدبه؛ ويكون هذا خيراً من تأليف نقابة تغري بالمصارعة وتغري بالمناجزة، وأليق برجال يجتمعون قاطبة حول عرش الفن، ويتعبدون له ويتقدمون بقرابينهم إليه، لا فارق فيهم بين شاب وشيخ، وخامل ونابه، ومغمور ومشهور. نعم كنت أصبو إلى تلك الأمنية وأتحرق شوقاً إليها؛ ولكنني الآن قد انصرفت عنها وزهدت فيها، فقد هممت بالعمل على تحقيقها وإنفاذها في العام الماضي إجابة لرغبة شيخ من شيوخ الأدب محبب إليّ، عزيز عليّ، فوجدت السبيل إلى ذلك شائكاً وعراً بسبب المعركة التي احتدمت حينئذ بين الأدباء الشبان والشيوخ والتي لا زال جرحها وقتالها يسقطون حتى اليوم، فرغبت في الوقف على أسبابها، وتعرف من أوقد شعلتها الأولى، أهم الشيخ أم الشباب! واستطعت باتصالي بهؤلاء وأولئك أن أستشف روح كل منهما، وأستكنه خبيئة نفسه؛ فعلمت علم اليقين أن التبعة في ذلك إنما يقع أكثرها على الشيوخ، لأنني وجدت في الأدباء الشباب كرماً وتضحية وإن كان فيهم غرور. أما الشيوخ فلست أغالي إذا وصفتهم بعنت الحزازة وصلف الأستاذية - كما يقول الأستاذ صاحب الرسالة - بل بالخروج عن طور الحكمة والرزانة المعروفة عنهم، أو المفروضة فيهم على الأقل؛ ولله ما أعجب تقلبات الأيام! فقد كان هؤلاء الشيوخ بعينهم ينعون على رج المدرسة القديمة واستبدادهم وتخطيهم الرقاب بشهرتهم، واستغنائهم عن الإخلاص والصدق ويفخرون بأن مذهبهم الجديد إنما يقوم على أساس من الحجج الناصعة، والبراهين الدامغة؛ ولا يبغي سوى الحرية والحق، وما زالوا يعملون المعاول في المذهب القديم حتى أحالوه صعيداً جرزاً، ولكن ما كادوا ينتصرون ويفرح الشباب بهذا الانتصار وتفيض نفوسهم غبطة وابتهاج له، حتى تبدلت نفوسهم، وتجهمت قلوبهم، وأصبحوا للشباب ألد الأعداء، بعد أن كانوا أخلص الأصدقاء، وأخذوا يضعون اللجم في الأفواه والأصفاد حول الأعضاد، والعقبات في سبيل النفوس الناشئة السائرة على الدرب، وبذلك مثل شيوخ الأدب في مصر وفي القرن العشرين المأساة المبكية المضحكة التي مثلها من قبلهم رجال الثورة الفرنسية حين ثاروا على استبداد البوربون، فقوضوا صرحه، ثم أقاموا مكانه استبداد نابليون، أليس كذلك؟!
رحم الله المدرسة القديمة وطيب ثرى رجالها الأبرار! لقد قال الأستاذ الدكتور طه حسين عن أحدهم وهو المغفور حفنى بك ناصف (كنا نستعينه على أن نكون خيراً منه، وكان يعيننا على ذلك راضياً به مبتسماً له راغباً فيه). فأين هذه العلاقة الأبوية العطوفة من علاقة الإذلال والاستعباد التي يريد شيوخ الأدب أن تكون بينهم وبين الشباب؟ هم يخيرون أدباء الشباب بين أمرين أحلاهما مر، أما أن يندمجوا في أشخاصهم ويفنوا فيهم ويسبحوا لهم بكرة وأصيلا وغدواً ورواحاً، وإلا فالويل والثبور لهم أن حدثتهم نفسهم بإبداء رأي حر في كتاب شيخ أو قصيدة، أو يتربصون بهم حتى إذا وقعوا في أيديهم فرائس أثخنوهم طعناً فما يبقون فيهم ذماء من حياة؛ فالموقف الأول مفسد للنفوس مميت للضمائر، والموقف الثاني مثبط للهمم مضعف للعزائم، وكلاهما لا يرضى الكرامة ولا العدل، وما كان للشباب وهم الذين طالما غسلوا بدمائهم الزكية طريق الحرية أن يقبلوا الابتعاد في الأدب بعد أن أبوه في السياسة.
ولست أرى مبرراً لهذا الموقف الشاذ الغريب من الشيوخ فالمألوف أن الأدباء يختلفون في الرأي ويختصمون في الفن فماذا يخيفهم من نقد الشباب لآثارهم؟ إلا أن الأمر لا يخلو من أحد اثنين: أما أن إنتاج الفني قوي لا مغمز فيه فلا يعقل أن النقد يغض من قدره وينقص من قيمته، أو أنه ضعيف فيكون من حق الفن ألا يدخل في حرمة المقدس. أما دعوى الشيوخ بأنهم وحدهم حراس الفن وأمناء هيكله فهي دعوى مرفوضة شكلاً وموضوعاً، مرفوضة شكلاً لسخافتها الظاهرة وبعدها عن الجد بعد ما بين الأرض والسماء، وهي مرفوضة موضوعاً لأن وسائل النقد هي الذوق والإطلاع وهما متوفران لكثير من أدباء الشباب.
والحق أن من شيوخ الأدب من هو مقدور فوق قدره، ولعل هذا سر فزعه من النقد وجزعه من كل يد تمتد إلى آثاره ولو كانت عاجزة ضعيفة.
على أنني لست أخلي أدباء الشباب من كل تبعة، ففيهم غرور يحمل بعضهم على النزول إلى ميادين لم يعدوا لها العدة ولم يتخذوا الأهبة، ولكن أي ضير على الشيوخ لو قابلوا نزوات الشباب بابتسام الأب البار الحنون الذي يغفر ويتجاوز عن كثير؟
ولقد نشأ عن هذا الموقف الشاذ بين الشيوخ والشبان أن غشى الحياة الأدبية في مصر غشاء من الحقد والرياء في النقد فلا يكاد يظهر مؤلف أدبي حتى يرفعه الأنصار إلى السماء، ويهبط به الخصوم إلى الغبراء بغير حق، فانظر ماذا فعل شيوخ الأدب بديواني الشاعرين المهندس وناجي؛ أوليس فيهما ما يستحق الإعجاب والتقدير؟ بلى، وإني لأترك الكلام هنا للأستاذ المنصف صاحب الرسالة إذ قال: إن ما فيهما من مساوئ هو من ضئال العيوب التي تختفي في بهر الجمال وروعة الصنعة، فالحكم في حياتنا الأدبية الآن للهوى والغرض لا للعقل والعدل، فما علاج هذه الحالة. إنني وإن كنت أرى في تأليف نقابة لأدباء الشباب ما يغري بالصراع والنضال، ولكنني أؤيد الاقتراح كل تأييد على أن يكون الشباب على حسن الظن بهم تسامحاً ونبلاً، فلا يكونوا البادئين بصبغ العيون بلون الدماء - كما يقول الأديب الكبير - فإذا بغى من الشيوخ باغٍ أو عدا عادٍ فليقف منه الشباب موقف المدافع في سبيل إعلاء كلمة الحق، وإقرار العدل في نصابه، ورد الأمور إلى مجراها الطبيعي.
فالنقابة بما تبثه من روح التعاون بين الشباب، وبما تخلقه من قوة الاتحاد في الغاية والغرض، ستزيل كل العقبات المصطنعة من طريقهم، وتبدد هذه السحب التي تراكمت في سماء حياتنا الأدبية، وحبذا لو امتد نشاطها فشمل جميع الأقطار العربية، وضمت بين أعضاءها أدبائها الشبان، فيكونون رسل محبة وسفراء خير.
ولكن النقابة لن تكون جديرة بالتقدير والاحترام، إلا إذا كان وجه الفن قبلتها وغايتها، والإخلاص له قائدها ورائدها، فلا يتقارض أعضاؤها المديح والثناء الزائف، بل يتبادلون النصح والإرشاد الصادق، فإذا مارست سفينة الشباب في هذا السبيل القويم والصراط المستقيم، فلاشك أنها بالغة غايتها منتهية إلى بر السلامة محوطة برعاية الله ملكوءة بعنايته.
قد أمن الله مجراها وأبدلها ... بحسن عاقبة من سوء منقلب
حنفي غالي