مجلة الرسالة/العدد 56/خواطر المصيف

مجلة الرسالة/العدد 56/خواطر المصيف

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1934



الماء والسماء

بقلم محمد قدوري لطفي ليسانسييه في الآداب

كلاهما أحب الزرقة فآثرها لنفسه لوناً، وكلاهما آثر الرهبة فاتخذها لنفسه وصفاً، وكلاهما يمتد فلا يبلغ البصر منتهاه، ويسرح فلا يعرف الطرف مداه، قد حجب كل منهما الذي وراءه، ولم يبد كل منهما غير صفحته، لا تمل السماء النظر إلى البحر، ولا يمل البحر التطلع إلى السماء، صفحتان متشابهتان، ووجهان متقابلان، قد يبسم كل منهما لصاحبه فيصفو أديم السماء وتنبسط أسارير البحر، ويكتنف ما بينهما هدوء يشرح الصدور وترتاح له النفوس، وقد يدل كل منهما على صاحبه، ويمكر كل منهما بمقابله، فيعلو وجه السماء سحاب خفيف، أو يسدل عليها نقاب منه شفاف، وترتسم على وجه البحر تقطيبة من الموج، لا يلبث معها أن يهدأ فتزول، وقد يتجهم كل منهما لصاحبه، ويتجنى كل منهما على الآخر، فتسدل السماء على وجهها حجاباً من السماء أدكن اللون، لا يشف عن شئ ولا ينم على شئ، ويثور البحر في عنف، ويحتد في غضب، فيرغى ماؤه ويزبد موجه، ويشتكي من لطماته شاطئه، وقد تستسلم السماء إلى البكاء، فترمي البحر برذاذ من الدمع أو بوابل من المطر، وقد يزأر البحر فترعد السماء، ويزهو بياض الموج فيشتد من البرق اللمعان.

سبحان الذي جعل بينهما هذا الفضاء مجالاً للطير ومسرحاً لكل ذات جناح، وتعالى الذي جعل بينهما هذا الهواء حياة للكون، ومطلباً لكل ذي روح، ثم شاء ألا تتقطع بينهما الأسباب وألا تبعد بينهما الوسائل، فتقاربا على بعد، وتدانيا على تناء، أضاءت السماء بنور الشمس، فأرسلت على الماء من شعاعها فضة لا تذوب، وتحلت السماء بضوء القمر، فأهدت إلى الماء صورته، ورسمت على سطح البحر ظله، وتجملت السماء بوشى النجوم، فبعثت إلى البحر منه ببريق، ويا عجباً لوفاء تلك السماء لهذا الماء، ما يكاد ينقضي النهار وتعتزم الشمس المغيب، حتى توصيها إلا ما قصدت الماء في طريقها إلى الغروب، وأبلغته سراً من الأسرار لا يلبث وجه الشمس أن يحمرّ له احمراراً ينبئ عن السر، ويفصح عن مدلول الكلام، ويا عجباً لهذه السماء تضحك من أهل الأرض، فتخيل إليهم أنها تلاقي الماء عند الأفق، وتحسب أهل الأرض لها عذّلاً، فتوهمهم أنها طوقت الماء بجناحها، وأرخت على صفحته طرفاً من ذيلها، وتمكر بأهل الأرض، فكلما قربوا من الأفق ابتعد عنهم، وكلما علو عنه اتسع أمامهم مداه، ويا عجباً لهذه السماء حين تدل على الماء، وحين تتجنى على البحر، فتغري به الشمس أن ألفحيه بشواظ من نارك تنفذ منه إلى الصميم، وارميه بسهام من شعاعك تخترق منه الفؤاد، فما تكاد الشمس تأمر بأمر السماء، حتى يضيق البحر بوهج الأشعة وألم السهام، فتذوب حشاشته، وتتبخر عزيمته، وما تكاد السماء تحس حر أنفاسه، وتشعر بلافح زفراته، حتى تسيل من الأسى دموعها، وتتقرح من البكاء مقلتاها، لله شأنها!! تريد أن تلعب بالنار فلا يمسها سوء ولا يلحق بها أذى.

ويأبى البر أن يترك الأمر خالصاً بين السماء وبين الماء، فيود أن يكون له معهما شأن أي شأن، ويجب أن يكون له من كل نصيب وافر، فيلجأ البر إلى أهله يغريهم بالبحر، وويل للبحر يومئذ من الإنسان، ويسلطهم على السماء، ويا للسماء يومئذ من أهل الأرض، أما البحر فقد قدروا عليه، وهزئوا به، فركبوا متنه، ومخروا بالسفن عبابه، وجرءوا عليه فغاصوا بالعلم إلى قاعه، لم يخفهم منه موت، ولم يرهبهم فيه وحش، أقاموا فوقه الجسور، وشيدوا عليه السدود، فقطعوه ولم تبتل لهم قدم، وعبروه ولم يخلعوا لهم ثوباً. وهكذا قرب البحر من الإنسان فاستخف به، وتكشف البحر للإنسان فلم يخش ما فيه، ولو قد كان بعيداً لما استخف به أحد، ولو قد كان غامضاً لما اطمأن إليه إنسان، ففي الغموض سر رهيب، وفي عسر المنال رغبة في النوال.

ولم يكف هذا الإنسان أن يلزم الجد مع الماء، وأن يتخذ منه معيناً على الحياة، وطريقاً إلى الممالك والديار، وإنما أراد أن يمرح مع البحر، وأن يلهو بالشاطئ، فاتخذته الغيد مسرحاً يخطرن فيه، وميداناً يصلن في أرجائه، سلاحهن الجمال، وعدتهن الرشاقة، واتخذه الرجال معرضاً يرون في ما لم يكن من قبل إلى رؤيته سبيل، ويشاهدون فيه ما ليس يوجد عند غيره، واخذه هؤلاء وهؤلاء ملهى وملعباً ومصطافاً، فلم يبق للبحر من هيبته إلا اتساع مداه وتراكم لججه، ولم يعد للبحر من رهبته إلا خواطر المتأمل فيه، الناظر إليه حين يخيم عليه الظلام، وتضن عليه السماء بنورها.

أما السماء فلم يبلغ منها أهل الأرض ما بلغوا من الماء، وإنما تنافسوا في العلو إليها، وتسابقوا في الارتفاع إلى ذراها، فحالت الطبيعة بينهم وبينها، وأوقفتهم عند حد من الفضاء محدود، لا يكاد المرء يعدوه حتى يضطر إلى الهبوط أو يورد نفسه موارد الهلاك، فتعلق الناس بالريح ولم يبلغوا عنان السماء، ووقفوا منها على الأبواب ولم يبلغوا منها الصميم، وقديماً تمنى فرعون لو أنه بلغ عنان السماء، وقال: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى) فهلك عنه سلطانه وصد عن السبيل. وهكذا بعدت السماء عن أهل الأرض فعزت عليهم وخارت دونها قواهم، وأسرفت في النأي عن الناس، فما زالت وراءها أسرار هيهات للمرء أن يكشف عنها، وما زال فيها من الأفلاك والأجرام ما ليس يعرفه الناس إلا أماني، وقد كان أهل الأرض يفرحون لرؤية السحاب، ويستبشرون بنزول المطر، ويضحكون لبكاء السماء، فما زالوا يرون فيها مصدر الخير وسر الطبيعة وينبوع الحياة، وما زال الناس يلتمسون ضوء النهار من السماء، ويفتقدون فيها ضياء البدر أو سناء النجوم حين يخيم الظلام، فحفظوا للسماء قدسيتها، وقدروا لها هيبتها، وعرفوا الجن في الأرض، وقالوا الملائكة في السماء.

والناس يوقنون أن الله معهم أينما حلوا، موجود أينما وجدوا، وقد كائن في كل زمان، وهو كائن في كل مكان، ولكن شاءت قدسية السماء ألا تلهج الألسن بالدعاء حتى ترفع إليها الأكف وتتطلع نحوها الأبصار.

الإسكندرية

محمد قدري لطفي